الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
السادس : أن يكون في طلب الحق كناشد ضالة لا يفرق بين أن تظهر الضالة على يده أو على يد من يعاونه ويرى رفيقه معينا لا خصما ويشكره إذا عرفه الخطأ وأظهر له الحق كما لو أخذ طريقا في طلب ضالته فنبهه صاحبه على ضالته في طريق آخر فإنه كان يشكره ولا يذمه ويكرمه ويفرح به فهكذا كانت مشاورات الصحابة رضي الله عنهم حتى أن امرأة ردت على عمر رضي الله عنه ونبهته على الحق وهو في خطبته على ملأ من الناس فقال أصابت امرأة وأخطأ رجل .

وسأل رجل عليا رضي الله عنه فأجابه فقال ليس كذلك يا أمير المؤمنين ولكن كذا كذا فقال أصبت وأخطأت وفوق كل ذي علم عليم .

واستدرك ابن مسعود على أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما فقال أبو موسى لا تسألوني عن شيء وهذا الحبر بين أظهركم .

وذلك لما سئل أبو موسى عن رجل قاتل في سبيل الله فقتل فقال هو في الجنة وكان أمير الكوفة فقام ابن مسعود فقال أعده . على الأمير فلعله لم يفهم فأعادوا عليه فأعاد الجواب فقال ابن مسعود وأنا أقول إن قتل فأصاب الحق فهو في الجنة فقال أبو موسى الحق : ما قال .

وهكذا يكون إنصاف طلب الحق ولو ذكر مثل هذا الآن لأقل فقيه لأنكره واستبعده وقال لا يحتاج إلى أن يقال أصاب الحق فإن ذلك معلوم لكل أحد .

فانظر إلى مناظري زمانك اليوم كيف يسود وجه أحدهم إذا اتضح الحق على لسان خصمه وكيف يخجل به وكيف يجهد في مجاحدته بأقصى قدرته وكيف يذم من أفحمه طول عمره ثم لا يستحي من تشبيه نفسه بالصحابة رضي الله عنهم في تعاونهم على النظر في الحق .

التالي السابق


(السادس: أن يكون) المناظر (في طلب الحق) وإنشاده حيث كان (كمنشد ضالة) أي كطالبها والضالة كل متاع ضل للإنسان أي غاب بعيرا أو غيره والجمع ضوال (لا يفرق) بحسن إخلاصه (بين أن تظهر) تلك الضالة (على يده) فيبينها (أو على يد من يعاونه) على وجدانها (ويرى رفيقه) الذي يناظره (معينا) له في الحقيقة على طلب الحق (لا خصما) يجادله (ويشكره إذا عرفه) في تقريره (الخطأ) عن الصواب أو الغفلة (وأظهر له الحق) فقد ورد: لا يشكر الله من لا يشكر الناس، وتعريفه الخطأ لصاحبه نعمة جليلة حيث نبهه عليه وأرشده فلذا ألزمه الشكر، وهو ظاهر ثم أوضح ذلك بمثال فقال (كما لو أخذ) أحدكم (طريقا) وسار (في طلب ضالته) مع كماله حيرته (فنبهه صاحبه) الناصح (على ضالته) المطلوبة (في موضع آخر فإنه) لا محالة (يشكره) على هذه النعمة (ولا يذمه) ، وهذا أقل الدرجات (أو يفرح به ولا يكرهه) وهذا أقل الدرجات (فهكذا كانت مشاورات الصحابة) ومفاوضاتهم رضوان الله عليهم (حتى ردت امرأة) من قريش (على) أمير المؤمنين (عمر) ابن الخطاب -رضي الله عنه- في مسألة صداق النساء (ونبهته على الحق) فيها (وهو) على المنبر (في خطبته على ملأ من الناس فقال) منصفا ولم يتوقف (أصابت امرأة وأخطأ رجل) .

قال السخاوي في المقاصد رواه الزبير بن بكار عن عمه مصعب بن عبد الله عن جده قال: قال عمر لا تزيدوا في مهور النساء، فمن زاد ألقيت الزيادة في بيت المال، ثم ذكر رد امرأة عليه، وفيه فقال عمر: امرأة أصابت ورجل أخطأ قلت: وليس فيه ذكر المنبر والخطبة، وقرأت في مناقب عمر للحافظ الذهبي ما نصه: مجالد عن الشعبي عن مسروق قال: خطب عمر فقال: ما إكثاركم في صدقات النساء فقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه والصدقات فيما بين أربعمائة درهم فما دونها فلأعرفن ما زاد رجل في صداق على ذلك، فنزل فاعترضته امرأة من قريش فقالت: أنهيت الناس أن يزيدوا النساء في صداقهن على أربعمائة أوما سمعت ما أنزل الله في القرآن قال: وأين ذلك، قالت: وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا فقال: اللهم غفرا كل إنسان أفقه من عمر، ثم رجع فركب المنبر وقال: أيها الناس إن كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة فمن شاء أن يعطي ما أحب فليفعل. اهـ .

وقال السخاوي في مقاصده رواه أبو يعلى في مسنده الكبير من طريق مجالد وفي آخره قال أبو يعلى، وأظنه قال فمن طابت نفسه فليفعل وسنده جيد وهو في سنن البيهقي من هذا الوجه بدون مسروق، ولذا قال: عقبة إنه منقطع ولفظه قريب من الأول وأخرجه عبد الرزاق من جهة أبي العجماء السلمي قال: خطبنا عمر فذكر نحوه، فقامت امرأة فقالت له: ليس ذلك لك يا عمر، إن الله يقول: وآتيتم إحداهن قنطارا الآية، فقال: إن امرأة خاصمت عمر فخصمته، ورواه ابن المنذر من طريق عبد الرزاق أيضا بزيادة قنطار من ذهب قال: وكذلك في قراءة ابن مسعود. اهـ .

ويقرب من ذلك ما ذكره السمين في عمدة الحفاظ ويحكى أن عمر سمع رجلا يقول في دعائه: اللهم اجعلني من عبادك القليل، فقال: يا أخي ما هذا الدعاء فقال: يا أمير المؤمنين سمعت الله يقول: [ ص: 290 ] وقليل من عبادي الشكور ، فأنا أطلب أن أكون من أولئك القليل، فقال: كل الناس أعلم من عمر (و) من ذلك (سأل رجل عليا) عن مسألة (فأجاب) بما ظهر له (فقال ليس كذلك يا أمير المؤمنين ولكن كذا وكذا فقال أصبت) أنت في فهمك (وأخطأت) أنا في جوابي (وفوق كل ذي علم عليم، واستدرك) عبد الله (ابن مسعود) الهذلي (على أبي موسى الأشعري) -رضي الله عنهما- وأبو موسى على الكوفة (فقال أبو موسى لا تسألوني عن شيء وهذا الحبر بين أظهركم، وذلك لما سئل أبو موسى عن رجل قاتل في سبيل الله فقتل) ونص القوت: عن رجل قتل نفسه في سبيل الله مقبلا غير مدبر أين هو (فقال هو في الجنة) ونص القوت قال: في الجنة (وكان) أبو موسى (أمير الكوفة) أي: متوليا عليها بالإمارة (فقال ابن مسعود) للسائل (أعد على الأمير) فتياك (فلعله لم يفهم فأعاد) السائل وقال أيها الأمير ما قولك في رجل قاتل في سبيل الله فقتل مقبلا غير مدبر أين هو (وأعاد) أبو موسى الجواب وقال هو في الجنة فقال ابن مسعود أعد على الأمير فلعله لم يفهم فأعاد عليه ثلاثا كل ذلك يقول أبو موسى في الجنة، ثم قال: ما عندي غير هذا فما تقول أنت؟ (فقال ابن مسعود) لكن لا أقول هكذا قال فما قولك قال: (أنا أقول إن قتل) في سبيل الله (فأصاب الحق فهو في الجنة فقال أبو موسى: هو ما قال) ، وفي القوت: صدق لا تسألوني عن شيء ما دام هذا الحبر بين أظهركم هكذا ذكره صاحب القوت بتمامه، قلت: وفي الحلية من طريق مجالد عن عامر قال أبو موسى: لا تسألوني عن شيء ما دام هذا الحبر فيكم يعني ابن مسعود. ونظير هذه القصة ما قال أبو داود في سننه حدثنا عبد السلام بن مطهر أن سليمان بن المغيرة حدثهم عن أبي موسى عن أبيه عن ابن لعبد الله بن مسعود عن ابن مسعود قال: لا رضاع إلا ما شد العظم وأنبت اللحم، فقال أبو موسى لا تسألونا، وهذا الحبر فيكم قال صاحب القوت: فهؤلاء أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يردون الأمور في الفتيا في علم اللسان إلى من هو دونهم في القدر والمنزلة وهو في علم التوحيد والمعرفة والإيمان فوقهم درجات فهذا كما قيل العلم نور يقذفه الله تعالى في قلوب أوليائه فقد يكون ذلك تفضيلا للنظراء بعضهم على بعض وقد يكون تخصيصا للشباب على الشيوخ ولمن جاء بعد السلف من التابعين، وربما كان تكرمة للخاملين المتواضعين لينبه عليهم ليرفعوا. اهـ .

(فهكذا يكون إنصاف صاحب الحق) يرد العلم إلى أهله ولا يستأنف (ولو ذكر الآن مثل هذا لأقل فقيه) له دراية في العلم (لأنكر) ذلك (واستبعد) وانتصب للخصام (وقال لا يحتاج) الأمر (إلى أن يقال أصاب الحق) أي لا حاجة إلى ذكر هذا القيد (فإن ذلك معلوم) بديهة (لكل أحد) ثم إن هذا القيد الذي أتى به ابن مسعود هو المفهوم من قوله -صلى الله عليه وسلم- على ما أخرجه البخاري من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في الجنة، وقد فهم أبو موسى ذلك فرجع عن إطلاق القول بأن القتل قد يكون رياء وقد يكون سمعة وقد يكون لغير ذلك وهذا القيد هو مناط الفائدة، والجواب الذي يصح عليه السكون فمن قال باستبعاده وكونه معلوما مجادلة، فتأمل .

(فانظر) الآن (إلى مناظري زمانك) إذا اجتمعوا في محفل وتكلم بعضهم مع بعض (كيف يسود وجهه) من تغير طبعه (إذا اتضح الحق على لسان خصمه) وعلم الحاضرون ذلك (وكيف يخجل به) باحمرار لونه عندهم (وكيف يجتهد) على الإمكان (في مجاحدته) ومناكرته على طريق المكابرة (بأقصى قدرته) أي: نهاية ما يقدر عليه (وكيف يذم) لسانا وقلما (من أفحمه) في المجلس وأسكته (طول عمره) ويعاديه ويقع في مقاتله (ثم لا يستحي) هذا (من تشبيه نفسه) الخسيسة (بالصحابة) والسلف الصالحين (في تعاونهم على النظر في الحق) وتفاوضهم فيما بينهم هيهات كيف تقاس الملائكة بالحدادين؟




الخدمات العلمية