الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فإن قلت قد : فهمت اليقين وقوته وضعفه وكثرته وقلته وجلاءه وخفاءه بمعنى نفي الشك أو بمعنى الاستيلاء على القلب فما معنى متعلقات اليقين ومجاريه وفي ماذا ، يطلب اليقين ، فإني ما لم أعرف ما يطلب فيه اليقين لم أقدر على طلبه فاعلم أن جميع ما ورد به الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم من أوله إلى آخره هو من مجاري اليقين فإن اليقين عبارة عن معرفة مخصوصة ومتعلقه المعلومات التي وردت بها الشرائع فلا مطمع في إحصائها ولكني أشير إلى بعضها وهي أمهاتها فمن ذلك التوحيد وهو أن يرى الأشياء كلها من مسبب الأسباب ولا يلتفت إلى الوسائط بل يرى الوسائط مسخرة لا حكم لها فالمصدق بهذا موقن فإن انتفى عن قلبه مع الإيمان إمكان الشك فهو موقن بأحد المعنيين فإن غلب على قلبه مع الإيمان غلبة أزالت عنه الغضب على الوسائط والرضا عنهم ، والشكر لهم ونزل الوسائط في قلبه منزلة القلم واليد في حق المنعم بالتوقيع فإنه لا يشكر القلم ولا اليد ولا يغضب عليهما بل يراهما آلتين مسخرتين وواسطتين فقد صار موقنا بالمعنى الثاني وهو الإشراف وهو ثمرة اليقين الأول وروحه وفائدته .

ومهما تحقق أن الشمس والنجوم والجمادات ، والنبات والحيوان وكل مخلوق فهي مسخرات بأمره حسب . تسخير القلم في يد الكاتب وأن القدرة الأزلية هي المصدر للكل استولى على قلبه غلبة التوكل ، والرضا ، والتسليم وصار موقنا بريئا من الغضب والحقد والحسد وسوء الخلق فهذا أحد أبواب اليقين .

ومن ذلك الثقة بضمان الله سبحانه بالرزق في قوله تعالى : وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها واليقين بأن ذلك يأتيه وأن ما قدر له سيساق إليه ومهما غلب ذلك على قلبه كان مجملا في الطلب ولم يشتد حرصه وشرهه وتأسفه على ما فاته وأثمر هذا اليقين أيضا جملة من الطاعات والأخلاق الحميدة .

ومن ذلك أن يغلب على قلبه أن فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره وهو اليقين بالثواب والعقاب ، حتى يرى نسبة الطاعات إلى الثواب كنسبة الخبز إلى الشبع ، ونسبة المعاصي إلى العقاب ، كنسبة السموم والأفاعي إلى الهلاك فكما يحرص على التحصيل للخبز طلبا للشبع ، فيحفظ قليله وكثيره فكذلك يحرص على الطاعات كلها قليلها وكثيرها وكما يجتنب قليل السموم وكثيرها ، فكذلك يجتنب المعاصي قليلها وكثيرها وصغيرها وكبيرها فاليقين بالمعنى الأول قد يوجد لعموم المؤمنين أما بالمعنى الثاني فيختص به المقربون وثمرة هذا اليقين صدق المراقبة في الحركات والسكنات الخطرات والمبالغة في التقوى والتحرز عن كل السيئات وكلما كان اليقين أغلب كان الاحتراز أشد والتشمير أبلغ .

ومن ذلك اليقين بأن الله تعالى مطلع عليك في كل حال ومشاهد لهواجس ضميرك وخفايا خواطرك وفكرك فهذا متيقن عند كل مؤمن بالمعنى الأول ، وهو عدم الشك .

وأما بالمعنى الثاني وهو المقصود فهو عزيز يختص به الصديقون

التالي السابق


(فإن قلت: فقد فهمت اليقين) وأقسامه الثلاثة، (و) هي (قوته وضعفه وكثرته وقلته وجلاؤه وخفاؤه) ، وما اصطلحوا عليه في إطلاقاتهم (بمعنى نفي الشك) والتردد، (وبمعنى الاستيلاء على القلب) وقد ذكرت في بيان قسمه الثالث أن قلته وكثرته بالنظر إلى المتعلقات (فما متعلقات اليقين ومجاريه، وفيما ذا يطلب اليقين، فإني ما لم أعرف) ، وفي نسخة متى لم أعرف (ما يطل فيه اليقين لم أقدر على طلبه) ، والجهد في تحصيله (فاعلم أن جميع ما ورد به الأنبياء عليهم) الصلاة، و (السلام) في شرائعهم (من أوله إلى آخره) من الأوامر والنواهي، (هو من مجاري اليقين) ومتعلقاته (فإن اليقين عبارة عن معرفة مخصوصة) ، وهو الذي لا يتداخل صاحبه ريب، ولا يقبل الاحتمال، (ومتعلقه المعلومات التي وردت بها الشرائع) على كثرتها، (فلا مطمع في إحصائها) في الصحائف على حسب الاستقراء، (ولكن أشير إلى بعض أمهاتها) أي أصولها، (فمن ذلك التوحيد) وهو من أمهات الشرائع التي اتفقت فيها الملل، (وهو) أي اليقين فيه (أن يرى الأشياء كلها من) الله تعالى وحده لا شريك له، (مسبب الأسباب) أي جاعل الأسباب سببا، (و) من علامة هذه الرؤية أن (لا يلتفت إلى الوسائط) الظاهرة، (بل يرى الوساطة مسخرة) مذللة (لا حكم لها) في الحقيقة، وإليه يشير كلام الجنيد وغيره من العارفين فيما تقدم (فالمصدق بها موقن) أي متصف بصفة اليقين، (فإن انتفى من قلبه مع الإيمان إمكان الشك) والتردد (فهو موقن بأحد المعنيين) المتقدم ذكرهما، (وإن غلب) ذلك (على قلبه غلبة) قوية بحيث (أزال منه الغضب على الوسائط) إذا تأخرت عن التسخير (والرضا عنهم، والشكر لهم) إذا جرت على خدمته، (ونزل الوسائط في قلبه منزلة القلم) للكاتب (و) منزلة (اليد في حق المنعم بالتوقيع) وهو أثر الكتابة في الكتاب (فإنه لا يشكر القلم ولا اليد) إن أحسن إليه بسببهما (ولا يغضب عليهما) إن لم يحسن إليه، (بل يراهما آلتين وواسطتين) ، فإذا انصبغ بهذا المقام، (فقد صار موقنا بالمعنى الثاني) من المعنيين، (وهذا) المقام (هو الأشرف) في مقامات اليقين، (وهو ثمرة اليقين الأول) وخلاصته (وروحه وفائدته) وقوامه (ومهما تحقق أن الشمس والقمر والنجوم، و) كذلك (الجماد والنبات والحيوان وكل مخلوق) لله تعالى (فهي مسخرات) مذللات (بأمره حسب. تسخير القلم في يد الكاتب وإن القدرة الأزلية هي المصدر للكل) منها بدأت وإليها تعود (استولى عليه) نور مقامات اليقين (التوكل، والرضا، والتسليم) وهذه الثلاثة من مقامات اليقين التسعة على [ ص: 417 ] ما يأتي بيانها في مواضعها (وصار يأمن الغضب والحقد والحسد وسوء الخلق) وغيرهما من الأخلاق المذمومة، (فهذا أحد أبواب اليقين ومن ذلك الثقة) أي الوثوق (بضمان الله سبحانه وتعالى بالرزق) أي أنه ضامن وكفيل بإيصال الرزق إليه (في قوله تعالى: وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ) فيتحقق أنه دابة من جملة الدواب بالمعنى اللغوي (واليقين) فيه، (بأن ذلك يأتيه) ألبتة، (وإن ما قدر له) في الأزل (يساق إليه ومهما غلب ذلك على قلبه) واستولاه (كان مجملا في الطالب) أي كان طلبه في الرزق بطريق جميل، منه الحديث: "فأجملوا في الطلب"، (ولم يشتد حرصه وشرهه) ، وهو أشد الطمع، (وتأسفه) أي تحزنه (على ما فاته) من رزق معلوم، (وأثمر هذا اليقين أيضا جملة من الطاعات) والعبادات (والأخلاق الحميدة) ، والأوصاف الزكية، (ومن ذلك) أي من ثمرات اليقين (أن يغلب على قلبه أن فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره وهو اليقين بالثواب والعقاب، حتى يرى نسبة الطاعات إلى الثواب كنسبة الخبز إلى الشبع، ونسبة المعاصي إلى العقاب، كنسبة السموم والأفاعي إلى الهلاك) فإنه يتسبب منها ذلك، (وكما يحرص) ويدأب (على تحصيل الخبز طالب الشبع، فيحفظ قليله وكثيره) بمباشرة أنواع الأسباب (فكذلك) ينبغي أن (يحرص على الطاعات قليلها وكثيرها) فإنها متسببة له إلى حصول الثواب (وكما يتجنب قليل السم وكثيره، فكذلك يتجنب قليل المعاصي وكثيرها وصغيرها وكبيرها) فإنها سميات (واليقين بالمعنى الأول قد يوجد لعموم المؤمنين) وهم الأبرار منهم الصالحون ومنهم دون ذلك .

(أما بالمعنى الثاني فيختص به المقربون) من أصحاب اليمين وهؤلاء هم علماء الآخرة، وأهل الملكوت وأرباب القلوب، (وثمرة هذا اليقين صدق المراقبة) أي الصدق في المراقبة مع الله تعالى (في) كل من (الحركات والسكنات والخطرات) مما تخطر على القلب، وهي الواردات، (والمبالغة في) تحصيل (التقوى) بتوثيق عرى أسبابها، (و) كمال (الاحتراز) والامتناع (عن) التحوم حول حمى (السيئات) والبعد عما يقرب إليها (كلما كان اليقين) في ذلك (أغلب كان الاحتراز) مما ذكر (أشد) وأعظم (والتشمر) والتهيئة (أبلغ) وبين أغلب وأبلغ جناس، (ومن ذلك اليقين بأن الله) عز وجل (مطلع عليك في كل حال) ومراقب (ومشاهد لهواجس ضميرك) أي مما يخطر به من الواردات، (وخفايا خواطرك وفكرك) مما ينتقش فيها من خير وشر، (فهذا متيقن عند كل مؤمن بالمعنى الأول، وهو عدم الشك) والتردد في ذلك، (وأما بالمعنى الثاني وهو المقصود) بالذات، (فهو عزيز) الوجود، وإليه الإشارة في الحديث أقل ما أوتيتم اليقين (يختص به الصديقون) والشهداء ويسمى يقين معاينة، والعالم به خبير، كما تقدمت الإشارة إليه عن القوت .




الخدمات العلمية