الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فكم من معان دقيقة من أسرار القرآن تخطر على قلب المتجردين للذكر والفكر تخلو عنها كتب التفاسير ، ولا يطلع عليها أفاضل المفسرين وإذا انكشف ذلك للمريد المراقب وعرض على المفسرين استحسنوه وعلموا أن ذلك من تنبيهات القلوب الزكية وألطاف الله تعالى بالهمم العالية المتوجهة إليه .

وكذلك في علوم المكاشفة وأسرار علوم المعاملة ودقائق خواطر القلوب فإن كل علم من هذه العلوم بحر لا يدرك عمقه وإنما يخوضه كل طالب بقدر ما رزق منه وبحسب ما وفق له من حسن العمل وفي وصف هؤلاء العلماء قال علي رضي الله عنه في حديث طويل القلوب أوعية وخيرها أوعاها للخير والناس ثلاثة عالم رباني ومتعلم على سبيل النجاة وهمج رعاع أتباع لكل ، ناعق يميلون مع كل ريح لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجئوا إلى ركن وثيق العلم ، خير من المال العلم يحرسك وأنت تحرس المال .

والعلم يزكو على الإنفاق والمال ينقصه الإنفاق والعلم دين يدان به تكتسب به الطاعة في حياته وجميل الأحدوثة بعد وفاته العلم حاكم والمال محكوم عليه ومنفعة المال تزول بزواله مات خزان الأموال وهم أحياء والعلماء أحياء باقون ما بقي الدهر ثم تنفس الصعداء وقال هاه إن ههنا علما جما لو وجدت له حملة بل أجد طالبا غير مأمون يستعمل آلة الدين في طلب الدنيا ويستطيل بنعم الله على أوليائه ويستظهر بحجته على خلقه أو منقادا لأهل الحق لكن ينزرع الشك في قلبه بأول عارض من شبهة لا بصيرة له لا ذا ولا ذاك أو منهوما باللذات سلس القياد في طلب الشهوات أو مغرى بجمع الأموال والادخار منقادا لهواه أقرب شبها بهم الأنعام السائمة ، اللهم هكذا يموت العلم إذا مات حاملوه ثم لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة إما ظاهر مكشوف وإما خائف مقهور لكيلا تبطل حجج الله تعالى وبيناته وكم وأين أولئك هم الأقلون عددا الأعظمون قدرا أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة يحفظ الله تعالى بهم حججه حتى يودعوها من وراءهم ويزرعوها في قلوب أشباههم هجم بهم العلم على حقيقة الأمر فباشروا روح اليقين فاستلانوا ما استوعر منه المترفون وأنسوا بما استوحش منه الغافلون صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى أولئك أولياء الله عز وجل من خلقه وأمناؤه ، وعماله في أرضه ، والدعاة إلى دينه ثم بكى وقال : واشوقاه إلى رؤيتهم فهذا الذي ذكره أخيرا هو وصف علماء الآخرة وهو العلم الذي يستفاد أكثره من العمل والمواظبة على المجاهدة .

التالي السابق


(فكم من معان دقيقة من أسرار القرآن) وخواصه (تخطر على قلب المتجرد للذكر والفكر يخلو عنها كتب التفاسير، ولا يطلع عليها أفاضل المفسرين) قال سيدي علي وفا قدس سره: من داوم إخلاص الذكر بفؤاده صار ما بين العرش والفرش، طوع مراده، وقال أيضا: الوسائل مدد مصابيح المقاصد فبحسب صفاء المدد يكون ضياء المصباح، (فإذا انكشف ذلك للمراقب وعرض على المفسرين) المنصفين المحفوظين من علائق الشهوة، (استحسنوه) وقبلوه، (وعلموا أن ذلك من تنبيهات القلوب الزكية) ووارداتها الإلهية، (وألطاف الله تعالى) ومواهبه المفاضة (بالهمم المتوجهة إليه) عما سواه، هذه العبارة بتمامها منتزعة من القوت بتغيير يسير، ونص القوت: ولم يكونوا إذا سئل أحدهم عن مسألة من علم القرآن أو علم اليقين، والإيمان يحيل على صاحبه ولا يسكت عن الجواب، وقد قال الله تعالى:فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون فهم أهل الذكر لله وأهل التوحيد والعمل لله عز وجل، ولم يكونوا يلقنون هذا العلم دراسة من الكتب ولا يتلقاه بعضهم عن بعض الألسنة، إنما كانوا أهل عمل، وحسن معاملات، وكان أحدهم إذا انقطع إلى الله تعالى فاشتغل به، استعمله المولى لخدمته بأعمال القلوب، وكانوا عنده في الخلوة، بين يديه لا يذكرون سواه ولا يشتغلون بغيره، فإذا ظهروا للناس فسألوهم ألهمهم الله رشدهم ووفقهم لسديد قولهم، وآتاهم الحكمة ميراثا لأعمالهم الباطنية عن قلوبهم الصافية وعقولهم الزاكية وهممهم العالية، فأمدهم بحسن توفيقه، إذ ألهمهم حقيقة العلم، وأطلعهم على مكنون السر حين آثروه بالخدمة وانقطعوا إليه بحسن المعاملة، فكانوا يجيبون عما عنه يسألون بحسن إثرة الله سبحانه وجميل إثره عندهم فتكلموا بعين القدرة، وأظهروا وصف الحكمة، ونطقوا بعلوم الأعمال، وكشفوا بواطن القرآن، وهذا هو العلم النافع الذي بين العبد وربه، وهو الذي يلقاه به ويسأله عنه، ويثيبه عليه، وهو ميزان جميع الإيمان وعلى قدر علم العبد بربه ترجح أعماله وتضعف حسناته، وبه يكون عند الله من المقربين; لأنه لربه من الموقنين اهـ .

فمن ذلك كلام القطب سيدي علي وفا على قصة سيدنا موسى في سورة القصص وشرحه لحديث أم زرع بلسان القوم فكل من طالعهما بعين الإنصاف، قضى عجبا، وفي المتأخرين القطب أبو الحسن البكري أملى بالجامع الأزهر على سورة الفاتحة نحو ثلاثمائة مجلس كل ذلك مشحون بالأسرار والمعارف، ومثل هذا الفيض لا ينكره إلا من حرمه .

(وكذلك) الحال (في علوم المكاشفة) بتجلي الذات وإظهار الأفعال الدالة على معاني الأوصاف الباطنة، (أسرار علوم المعاملة) ، وعلوم الورع والإخلاص، (ودقائق خواطر القلوب) وتلوينات الشواهد على المريدين وتفاوت مشاهدات العارفين، (فإن كل علم من هذه العلوم بحر) واسع، (لا يدرك عمقه) ولا ينتهى إلى غوره (وإنما يخوضه كل طالب بقدر ما رزق) من سعة همته وقوة اجتهاده (وبحسب ما وفق له من حسن العمل) بتأييد من ربه وعصمة منه، (وفي وصف هؤلاء العلماء) أي علماء الآخرة، (قال) أمير المؤمنين (علي) بن أبي طالب (رضي الله عنه في حديث طويل) أورده ابن القيم في مفتاح دار السعادة، وأبو طالب المكي في القوت، والراغب في الذريعة مفرقا كلهم من غير سند، وأخرجه أبو نعيم في الحلية في ترجمة علي فقال: حدثنا حبيب بن الحسن، حدثنا موسى بن إسحاق، وحدثنا سليمان بن أحمد [ ص: 405 ] حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، قالا: حدثنا أبو نعيم ضرار بن صردح، وحدثنا أبو أحمد محمد بن محمد بن أحمد الحافظ، حدثنا محمد بن الحسين الخشعمي، حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاري، قالا: حدثنا عاصم بن حميد الخياط، حدثنا ثابت بن أبي صفية أبو حمزة الشمالي، عن عبد الرحمن بن جندب عن كميل بن زياد، قال: أخذ علي بن أبي طالب بيدي فأخرجني إلى ناحية الجبانة فلما أصحرنا جلس، ثم تنفس ثم قال: يا كميل بن زياد (القلوب أوعية وخيرها) كذا في النسخ والرواية فخيرها (أوعاها و) احفظ ما أقول لك (الناس ثلاثة) وليس في نص الحلية الواو بعد أوعاها (عالم رباني) ونص الحلية فعالم رباني (ومتعلم على سبيل نجاة وهمج رعاع، أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق العلم، خير من المال العلم يحرسك وأنت تحرس المال العلم يزكيه العمل) ونص الحلية يزكو على الإنفاق، وفي رواية على العمل (والمال تنقصه النفقة محبة) ونص الحلية ومحبة (العلم دين يدان به) ونص الحلية: بها (تكتسب به الطاعة) ونص الحلية العلم يكسب العالم الطاعة (في حياته وجميل إلا حدوثه بعد موته العلم حاكم والمال محكوم عليه) وجدت هذه الجملة في بعض الروايات (ومنفعة) هكذا في النسخ والرواية وضيعة (المال تزول بزواله مات خزان الأموال وهم أحياء والعلماء باقون ما بقي الدهر) أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة (ثم تنفس الصعداء وقال) ليست هذه في رواية الحلية ولا عند ابن القيم، ووجدت في كتاب الذريعة، والقوت والذي عند الأولين بعد قوله ما بقي الدهر، (هاء) مرة واحدة وعند ابن القيم مرتين (أن ههنا) وأشار بيده إلى صدره (علما جما) وليس في الحلية جما ولا عند ابن القيم (لو وجدت) وعند أبي نعيم وابن القيم: لو أصبت (له حملة بل أجد طالبا) كذا في النسخ وعند أبي نعيم وابن القيم: بلى أصبته لقنا (غير مأمون) عليه، وفي بعض نسخ الحلية لفتا من اللفت بدل لقنا (يستعمل آلة الدين في طلب الدنيا) وفي الحلية للدنيا (ويستطيل بنعم الله عز وجل على أوليائه) هذه الجملة هكذا في القوت وليست عند أبي نعيم ولا ابن القيم (ويستظهر بحججه على خلقه) هكذا في القوت والذي عند أبي نعيم وابن القيم يستظهر بحجج الله على كتابه وبنعمه على عباده (أو منقادا لأهل الحق) لا بصيرة له في أحنائه (ينقدح) كذا في نسخة ومثله، عند ابن القيم وفي القوت: ينزرع وفي الحلية: ينقدح (الشك في قلبه بأول عارض من شبهة) لا بصيرة له (لا ذا ولا ذاك) وفي القوت بعد قوله: لا بصيرة له وليسا من وعاة الدين في شيء لا ذا ولا ذاك، ونص الحلية بعد قوله من شبهة لا ذا ولا ذاك، كما عند المصنف (فمنهوم باللذة سلس القياد في طلب الشهوات أو مغرم) وفي القوت أو جريء (يجمع الأموال والادخار منقاد لهواه) ونص الحلية بعد قوله: لا ذا ولا ذاك أو منهوما باللذات سلس القياد للشهوات أو مغرى بجمع الأموال والادخار وليسا من دعاة الدين في شيء (أقرب شبها بهم) كذا عند ابن القيم، وفي الحلية والقوت بهما (الأنعام السائمة، ثم قال: اللهم هكذا) وليس في القوت: ثم قال: وفي الحلية بعد قوله: السائمة كذلك، (يموت العلم إذا مات حاملوه) وفي الحلية بموت حامليه، (بل لا تخلو) كذا في القوت، وفي الحلية: اللهم بلى لن تخلو (الأرض من قائم لله بحجة إما ظاهر مكشوف وإما خائف مقهور) كذا في القوت وهذه الجملة ليست في الحلية، بل قال ابن القيم: هذه زيادة الكذابين من الروافض في الحديث، ونصه: إما ظاهرا مشهورا وإما خفيا مستورا، قال: وظنوا أن ذلك دليل لهم على القول بالمنتظر والحديث مشهور، عن علي لم يقل أحد عنه هذه المقالة إلا كذاب، وحجج الله لا تقوم بخفي مستور لا يرى له شخص، ولا تسمع منه كلمة، ولا يعلم له مكان، ولقد أحسن القائل:


ما آن للسرداب أن يلد الذي حملتموه بزعمكم ما آنا فعلى عقولكم الصفاء فإنكم
ثلثتم العنقاء والغيلانا

ونص الحلية بعد قوله: بحجة لكي لا (تبطل حجج الله وبيناته وكم وأين) كذا في النسخ وفي القوت من غير وكم (أولئك) هم (الأقلون عددا الأعظمون) عند الله (قدرا أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب [ ص: 406 ] موجودة) هذه الجملة هكذا وقعت هنا في القوت، وهي في رواية الحلية في أول الحديث، وقد أشرنا لذلك (يحفظ الله تعالى بهم حججه حتى يودعوها نظراءهم) ، كذا في القوت، ونص الحلية: بعد قوله: قدرا بهم يدفع الله عن حججه حتى يؤدوها إلى نظرائهم، (ويزرعوها في قلوب أشباههم هجم بهم العلم على حقيقة الأمر) كذا في الحلية، وفي القوت على حقائق الأمر (فباشروا روح اليقين) هكذا هذه الجملة في القوت وليست في الحلية، (فاستلانوا ما استوعر منه المترفون وأنسوا بما استوحش منه الغافلون) ، كذا في القوت، وفي الحلية الجاهلون، (صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى) كذا في القوت، وفي الحلية بالمنظر الأعلى، وعند ابن القيم بالملأ الأعلى (أولئك أولياء الله من خلقه، وعماله في أرضه، والدعاة إلى دينه) ، كذا في القوت، ونص الحلية: أولئك خلفاء الله في بلاده، ودعاته إلى دينه، (ثم بكى وقال: واشوقاه إلى رؤيتهم) كذا في القوت، وفي الحلية بعد قوله: إلى دينه هاه هاه شوقا إلى رؤيتهم، وأستغفر الله لي ولكم إذا شئت ففهم، هذا آخر الحديث على ما في الحلية، وعند ابن القيم (فهذا الذي ذكره آخرا هو وصف علماء الآخرة) الذين هم أهل الحقائق، وفضلهم علي على الخلائق، (وهو العلم الذي يستفاد أكثره من العمل) المقرون بالإخلاص، (والمواظبة على المجاهدة) ولنتكلم على الحديث الماضي ذكره قال ابن القيم في مفتاح دار السعادة: قال أبو بكر الخطيب: هذا حديث حسن من أحسن الأحاديث معنى، وأشرفها لفظا، وتقسيم أمير المؤمنين للناس في أوله تقسيم حسن، في غاية الصحة، ونهاية السداد; لأن الإنسان لا يخلو من أحد الأقسام التي ذكرها مع كمال العلم وإزاحة العلل، إما أن يكون عالما أو متعلما أو مهملا للعلم وطلبه ليس بعالم ولا طالب له، فالعالم الرباني هو الذي لا زيادة على فضله لفاضل، وأما المتعلم على سبيل النجاة فهو الطالب بتعلمه والقاصد به نجاته من التفريط في تضييع الواجبات، وأما القسم الثالث فهم المهملون لأنفسهم الراضون بالمنزلة الدنية، وما أحسن ما شبههم بالهمج الرعاع، والرعاع المتبدد المتفرق، والناعق الصائح، وهو في هذا الموضع الراعي، ثم قال ابن القيم: ونحن نشير إلى بعض ما في الحديث من الفوائد، وأنا أذكر ذلك اختصارا قال: فقوله رضي الله عنه: القلوب أوعية القلب يشبه بالوعاء والإناء والوادي; لأنه وعاء الخير والشر، وقوله: خيرها أوعاها أي أكثرها، وأسرعها وأثبتها وأحسنها وعيا أي حفظا، ويوصف بالوعي، القلب والأذن، كقوله تعالى: وتعيها أذن واعية لما بين القلب والأذن من الرباط، فالعلم يدخل من الأذن إلى القلب، فهي بابه وإنما توصف بذلك; لأنها إذا وعت وعى القلب، وقوله: الناس ثلاثة اعلم أن العبد إما أن يكمل في العلم والعمل أولا فالأول العالم الرباني، والثاني إما أن تكون نفسه متحركة في طلب ذلك الكمال أولا، والثاني هو المتعلم على سبيل النجاة والثالث: هو الهمج الرعاع فالأول هو الواصل والثاني: هو الطالب والثالث: هو المحروم، ولا يكون العالم ربانيا حتى يكون عاملا بعلمه، والثاني: متعلم على سبيل نجاة أي على الطريق التي تنجيه وليس حرف على، وما عمل فيه متعلقا بمتعلم إلا على وجه التضمين، أي يفتش مطلع على سبيل نجاته ليسلكه فبعلمه يفتش على سبيل نجاته لا للمباراة أو غيره، فإنه على سبيل هلكة، والقسم الثالث المحروم المعرض فلا عالم، ولا متعلم بل همج رعاع، والهمج من الناس حمقاهم، وجهلتهم والرعاع الذين لا يعتد بهم اتباع كل ناعق، أي صائح بهم سواء دعاهم إلى هدى أو ضلال فإنه لا علم بالذي يدعون إليه، أحق هو أم باطل؟ فهم مستجيبون لدعوته، وهؤلاء من أضر الخلق على الأديان ويسعى داعيهم ناعقا تشبيها بالأنعام، التي ينعق بها الراعي، فتذهب معه أينما ذهب قوله: يميلون مع كل ريح، وفي رواية: مع كل صائح، شبه عقولهم الضعيفة بالغصن الضعيف، وشبه الأهوية والآراء بالرياح، فعقولهم تذهب مع كل ذاهب، ولو كانت كاملة كانت كالشجرة الكبيرة التي لا تلاعبها الرياح لثباتها .

قوله: لم يستضيئوا إلخ بين السبب الذي جعلهم بتلك المثابة وهو أنه لم يحصل لهم من العلم نور يفرقون به بين الحق والباطل، ويمتنعون من دعاة الباطل، فإن الحق متى استقر في القلب قوي به، وامتنع مما يضره، والعلم والقوة قطبا السعادة، وفيه معنى أحسن من هذا وهو الأشبه بمراد علي [ ص: 407 ] رضي الله عنه، وهو أن هؤلاء ليسوا من أهل البصائر الذين استضاءوا بنور العلم ولا لجأوا إلى عالم مستبصر، فقلدوه ولا متبعين لمستبصر فإن الرجل إما أن يكون بصيرا أو أعمى متمسكا ببصير يقوده، أو أعمى يسير بلا فائدة، قوله: العلم خير من المال، تقدم شرحه في أول الكتاب، وكذا قوله: العلم يزكو على الإنفاق، والمال تنقصه النفقة، وكذا قوله: العلم حاكم والمال محكوم عليه، قوله: محبة العلم يدان بها أي لأنه ميراث الأنبياء، والعلماء وارثهم فمحبة العلم وأهله من علامات السعادة، وهذا في علم الرسل الذي جاؤوا به وورثوه للأمة لا في كل ما يسمى علما، وأيضا فإن محبة العلم تحمل على تعلمه، واتباعه، وذلك هو الدين، قوله: العلم يكسب العالم الطاعة في حياته، يقال: كسبه واكتسبه لغتان، أي يجعله مطاعا، فكل أحد محتاج إلى طاعته لكونه يدعو إلى طاعة الله ورسوله، فالعالم العامل أطوع في أهل الأرض من كل أحد قوله وجميل إلا حدوثه أي إذا مات العالم أحيا الله ذكره نشر له في العالمين أحسن الثناء، فالعالم بعد وفاته ميت وهو حي بين الناس، والجاهل في حياته حي وهو ميت بين الناس كما قيل:


وفي الجهل قبل الموت موت لأهله وليس لهم حتى النشور نشور
وأرواحهم في وحشة من قبورهم وأجسامهم قبل القبور قبور

وقال الآخر:


قد مات قوم وما ماتت مكارمهم وعاش قوم وهم في الناس أموات

وقال الآخر:


وما دام ذكر العبد بالفضل باقيا فذلك حي وهو في التراب هالك

ومن تأمل أحوال أئمة الإسلام تحقق أنه لم يفقد إلا صورهم وإلا فذكرهم والثناء عليهم غير منقطع، وهي هذه الحياة حقا حتى عد ذلك حياة ثانية كما هي قال المتنبي:


ذكر الفتى عيشه الثاني وحاجته ما فاته وفضول العيش إشغال

قوله: وصنيعة المال تزول بزواله أي كل صنيعة صنعت للرجل من أجل ماله من إكرام وتقديم واحترام وغير ذلك فإنما هي مراعاة لماله فإذا زال زالت وهجر حتى ممن كان يختص به، وفيه قال بعض العرب:


وكانوا بني عمي يقولون مرحبا فلما رأوني معسرا مات مرحبا

وهذا أمر لا ينكر في الناس حتى إنهم ليكرمون لثيابهم فإذا نزعت لم يكرموا، وهذا بخلاف صنيعة العلم قوله: مات خزان المال، تقدم شرحه في أول الكتاب، قوله: وأمثالهم في القلوب موجودة المراد بأمثالهم صورهم العلمية فهي لا تفارق القلوب، وهذا هو الوجود الذهني العلمي، لأن محبة الناس لهم وانتفاعهم بعلومهم يوجب أن لا يزالوا نصب عيونهم وقبلة قلوبهم، وقوله: هاه أن ههنا علما، وأشار إلى صدره فيه جواز إخبار الرجل بما عنده من الخير والعلم ليقتبس منه، وينتفع به لا للمباهاة، فإنه مذموم، وإذا أثنى الرجل على نفسه ليخلص بذلك من مظلمة أو يستوفي بذلك حقا له يحتاج فيه إلى التعريف بحاله أو عند خطبة إلى من لا يعرفه، فلا بأس فيه، والأحسن أن يوكل في مثله، إلى غيره فإن لسان المرء على نفسه قصير وهو في الغالب مذموم، ثم ذكر أصناف حملة العلم الذين لا يصلحون لحمله وهم أربعة، أحدهم من ليس هو بمأمون عليه، وهو الذي أوتي ذكاء وحفظا، لكن جعل العلم آلة للدنيا يستجلبها به، وهذا غير أمين على ما حمله من العلم فقد خان الله وخان عباده فإن الأمين المأمون هو الذي لا غرض له ولا إرادة لنفسه إلا اتباع الحق، وموافقته فلهذا قال: غير مأمون عليه، قوله: يستظهر بحجج الله إلخ، هذه صفة هذا الخائن ومعنى استظهاره بالعلم على كتاب الله تحكيمه عليه، وتقديمه وإقامته دونه واشتغاله بغيره وهذه حال كثير من العلماء الذي يجعل كتاب الله وراء ظهره فالمستظهر به على كل ما سواه موفق سعيد، والمستظهر عليه مخذول شقي، الصنف الثاني من حملة العلم المنقاد الذي لم يثلج له صدره ولم يطمئن به قلبه، بل هو ضعيف البصيرة فيه لكنه منقاد لأهله، وهذا حال اتباع الحق من مقلديهم وهؤلاء وإن كانوا على سبيل نجاة فليسوا من دعاة الدين، قوله: لا بصيرة له في أحنائه جمع حنو بالكسر وهي الجوانب والنواحي يقولون:

[ ص: 408 ] ازجر أحناء طيرك، أي أمسك جوانب خفتك، وطيشك قلت: الأولى أن يفسر الأحناء هنا بالمتشابهات، والمعنى الذي ذكره هو الذي في الصحاح، والذي ذكرته من كتاب العباب، قوله: ينقدح الشك إلخ، هذا لضعف علمه، وقلة بصيرته إذا وردت على قلبه أدنى شبهة قدحت فيه الشك والريب بخلاف الراسخ في العلم لو وردت عليه أمواج البحار ما أزالت يقينه ولا قدحت فيه شكا بل يردها بقوة يقينه، وضعيف اليقين إن تداركها وإلا تتابعت على قلبه أمثالها حتى يصير مرتابا. الصنف الثالث رجل نهمته في نيل لذته، فهو منقاد لداعي الشهوة أين كان ولا ينال درجة وراثة النبوة مع ذلك فمن آثر الراحة فاتته الراحة، وقال إبراهيم الحربي: أجمع عقلاء كل أمة أن النعيم لا يدرك بالنعيم من لم يغلب لذة إدراكه للعلم على شهوة نفسه لم ينل درجة العلم أبدا. الصنف الرابع من حرصه وهمته في جمع الأموال وتثميرها وادخارها فلا يرى شيئا أطيب له مما هو فيه فمن أين له درجة العلم، فهؤلاء الأصناف الأربعة ليسوا من دعاة الدين ولا من طلبة العلم الصادقين، ومن تعلق منهم بشيء فهو من المشتاقين عليه المتشبهين بحملته المدعين لوصاله المبتوتين من حباله، وفتنة هؤلاء فتنة لكل مفتون قوله: أقرب شبها بالأنعام السائمة، هو كقوله تعالى: إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا والسائمة الراعية شبهوا بها في رعي الدنيا وحطامها، قوله: كذلك يموت العلم بموت حامليه أي ذهاب العلم إنما هو بذهاب العلماء، وهو مأخوذ من حديث قبض العلم في البخاري، قوله: اللهم بلى، لن تخلو الأرض إلخ، يدل عليه حديث: لا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من خذلهم، ولا من ناوأهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، واعلم أن هذه الأمة أكمل الأمم جعل الله العلماء فيها خلفاء الأنبياء، لئلا تطمس أعلام الهدى، كما كان بنو إسرائيل، كلما هلك نبي خلفهم نبي فكانت تسوسهم الأنبياء والعلماء لهذه الأمة كأنبياء بني إسرائيل، والفرق بين الحجج والبينات أن الحجج هي الأدلة العلمية التي يعقلها القلب، وتسمع بالآذان، والبينات الآيات التي أقامها الله تعالى دلالة على صدقهم من المعجزات، قوله: أولئك الأقلون عددا إلخ، وهذا سبب غربتهم; فإنهم قليلون في الناس والناس على خلاف طريقتهم، وإياك أن تعترف بأنهم لو كانوا على حق لم يكونوا أقل الناس عددا فاعلم أن هؤلاء هم الناس، من سواهم فمشبهون بهم ليسوا بناس، قوله: حتى يردوها إلى نظرائهم، ويزرعوها في قلوب أشباههم أي ما أقام الله بهذا الدين، من يحفظه ثم قبضه إليه، إلا وقد زرع ما علمه من العلم والحكمة، إما في قلوب أمثاله، وإما في كتب ينتفع بها الناس بعده، وبهذا وبغيره فضلوا على غيرهم. قوله: هجم بهم العلم إلخ الهجوم على الرجل الدخول عليه بلا إذن أي إنهم لكمال علمهم، وقوته تقدم بهم إلى حقيقة الأمر فعاينوا ببصائرهم واطمأنت قلوبهم به، وعملوا على الوصول إليه لما باشرها من روح اليقين رفع لهم علم السعادة فشمروا إليه، وزهدوا عما سواه، واستيقنت قلوبهم ما أعد لأوليائه من كرامة الله، ومن وصل إلى هذا استلان ما يستوعره المترفون وأنس بما يستوحش منه الجاهلون، وهذا هو العلم التام، والحب الخالص، فهذا تفسير الحديث، وقد اختصرت في العبارة كثيرا وحذفت ما رأيت الاستغناء عنه .




الخدمات العلمية