الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (141) قوله تعالى: مختلفا أكله : منصوب على الحال، وفيها قولان أحدهما: أنها حال مقدرة لأن النخل والزرع وقت خروجهما لا أكل فيهما حتى يقال فيه متفق أو مختلف، فهو كقوله: فادخلوها خالدين [ ص: 188 ] وكقولهم: "مررت برجل معه صقر صائدا به غدا" أي: مقدرا الاصطياد به. والثاني: أنها حال مقارنة وذلك على حذف مضاف أي: وثمر النخل وحب الزرع. و "أكله" مرفوع بـ "مختلفا" لأنه اسم فاعل، وشروط الإعمال موجودة. والأكل: الشيء المأكول، وقد تقدم أنه يقرأ بضم الكاف وسكونها ومضى تحقيقه في البقرة.

                                                                                                                                                                                                                                      والضمير في "أكله" : الظاهر أنه يعود على الزرع فقط: إما لأنه حذف حالا من النخل لدلالة هذه عليها تقديره: والنخل مختلفا أكله، والزرع مختلفا أكله، وإما لأن الزرع هو الظاهر فيه الاختلاف بالنسبة إلى المأكول منه كالقمح والشعير والفول والحمص والعدس وغير ذلك. وقيل إنها تعود عليهما. قال الزمخشري: "والضمير للنخل، والزرع داخل في حكمه لكونه معطوفا عليه". قال الشيخ: "وليس بجيد، لأن العطف بالواو لا يجوز إفراد ضمير المتعاطفين". وقال الحوفي: "والهاء في "أكله" عائدة على ذكر ما تقدم من هذه الأشياء المنشآت"، وعلى هذا الذي ذكره الحوفي لا تختص الحال بالنخل والزرع بل يكون لما تقدم جميعه.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الشيخ: ولو كان كما زعم لكان التركيب "أكلها"، إلا إن أخذ ذلك على حذف مضاف أي: ثمر جنات، وروعي هذا المحذوف فقيل: "أكله" بالإفراد على مراعاته، فيكون ذلك كقوله: أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج أي: أو كذي ظلمات; ولذلك أعاد الضمير في يغشاه عليه. قلت: فيبقى التقدير: مختلفا أكل ثمر الجنات وما بعدها، وهذا يلزم منه إضافة الشيء [ ص: 189 ] إلى نفسه، لأن الأكل كما تقدم غير مرة أنه الثمر المأكول. قال الزمخشري في الأكل: "وهو ثمره الذي يؤكل". وقال ابن الأنباري: "إن مختلفا نصب على القطع فكأنه قال: والنخل والزرع المختلف أكلهما"، وهذا رأي الكوفيين وقد تقدم إيضاحه غير مرة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: والزيتون والرمان إلى قوله: إذا أثمر قد تقدم إيضاحه.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله "حصاده" قرأ أبو عمرو وابن عامر وعاصم بفتح الحاء، والباقون بكسرها، وهما لغتان في المصدر لقولهم جداد وجداد، وقطاف وقطاف، وحران وحران. قال سيبويه: "جاءوا بالمصدر حين أرادوا انتهاء الزمان على مثال فعال، وربما قالوا فيه فعال"، يعني أن هذا مصدر خاص دال على معنى زائد على مطلق المصدر فإن المصدر الأصلي إنما هو الحصد، فالحصد ليس فيه دلالة على انتهاء زمان ولا عدمها بخلاف الحصاد والحصاد.

                                                                                                                                                                                                                                      ونسب الفراء الكسر لأهل الحجاز والفتح لتميم ونجد. واختار أبو عبيد الفتح قال: "للفخامة، وإن كانت الأخرى فاشية غير مدفوعة"، ومكي الكسر قال: "لأنه الأصل وعليه أكثر الجماعة".

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله يوم حصاده فيه وجهان أحدهما: أنه منصوب بـ "آتوا" أي: أعطوا [ ص: 190 ] واجبه يوم الحصاد. واستشكل بعض الناس ذلك بأن الإيتاء إنما يكون بعد التصفية فكيف يوجب الإيتاء في يوم الحصيد؟ وأجيب بأن ثم محذوفا والتقدير: إلى تصفيته قالوا: فيكون الحصاد سببا للوجوب الموسع والتصفية سبب للأداء، وأحسن من هذا أن يكون المعنى: واهتموا بإيتاء الزكاة الواجبة فيه واقصدوه في ذلك اليوم.

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أنه منصوب بلفظ "حقه" على معنى: وأعطوا ما استحق منه يوم حصاده، فيكون الاستحقاق ثابتا يوم الحصاد والأداء بعد التصفية، ويؤيد ذلك تقدير المحذوف عند بعضهم كما قدمته، وقال في نظير هذه الآية: انظروا إلى ثمره وفي هذه "كلوا" قيل: لأن الأولى سيقت للدلالة على كمال قدرته وعلى إعادة الأجسام من عجب الذنب فأمر بالنظر والتفكر في البداية والنهاية، وهذه سيقت في معرض كمال الامتنان فناسب الأمر بالأكل، وتحصل من مجموع الآيتين الانتفاع الأخروي والدنيوي، وهذا هو السبب لتقدم النظر على الأمر بالأكل.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية