الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (111) قوله تعالى: أرجه : في هذه الكلمة هنا والشعراء ست قراءات في المشهور المتواتر، ولا التفات إلى من أنكر بعضها ولا لمن أنكر على راويها. وضبط ذلك أن يقال: ثلاث مع الهمز وثلاث مع عدمه، فأما الثلاث التي مع الهمز فأولها قراءة ابن كثير، وهشام عن ابن عامر: أرجئهو بهمزة ساكنة وهاء متصلة بواو. الثانية قراءة أبي عمرو: أرجئه كما تقدم إلا أنها لم يصلها بواو. الثانية قراءة أبي عمرو: أرجئه كما تقدم إلا أنها لم يصلها بواو. الثالثة: قراءة ابن ذكوان عن ابن عامر: أرجئه بهمزة ساكنة وهاء مكسورة من غير صلة. وأما الثلاث التي مع غير الهمز فأولها قراءة عاصم وحمزة: أرجه بكسر الجيم وسكون الهاء وصلا ووقفا. الثانية [ ص: 410 ] قراءة الكسائي: أرجهي بهاء متصلة بياء. الثالثة: قراءة قالون بهاء مكسورة دون ياء.

                                                                                                                                                                                                                                      فأما ضم الهاء وكسرها فقد عرف مما تقدم. وأما الهمز وعدمه فلغتان مشهورتان يقال: أرجأته وأرجيته أي: أخرته، وقد قرئ قوله تعالى: ترجي من تشاء بالهمز وعدمه. وهذا كقولهم: توضأت وتوضيت. وهل هما مادتان أصليتان أم المبدل فرع الهمز؟ احتمالان.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد طعن قوم على قراءة ابن ذكوان فقال الفارسي: "ضم الهاء مع الهمز لا يجوز غيره، ورواية ابن ذكوان عن ابن عامر غلط". وقال ابن مجاهد: "وهذا لا يجوز، لأن الهاء لا تكسر إلا بعد كسرة أو ياء ساكنة". وقال الحوفي: "ومن القراء من يكسر مع الهمز وليس بجيد". وقال أبو البقاء: "ويقرأ بكسر الهاء مع الهمز وهو ضعيف، لأن الهمزة حرف صحيح ساكن فليس قبل الهاء ما يقتضي الكسر".

                                                                                                                                                                                                                                      قلت: وقد اعتذر الناس عن هذه القراءة على سبيل التنازل بوجهين: أحدهما: أن الهمزة ساكنة والساكن حاجز غير حصين، وله شواهد مذكورة في موضعها، فكأن الهاء وليت الجيم المكسورة فلذلك كسرت. الثاني: أن الهمزة كثيرا ما يطرأ عليها التغيير، وهي هنا في معرض أن تبدل ياء ساكنة لسكونها بعد كسرة فكأنها وليت ياء ساكنة فلذلك كسرت. [ ص: 411 ] وقد اعترض أبو شامة على هذين الجوابين بثلاثة أوجه. الأول: أن الهمز معتد به حاجزا بإجماع في أنبئهم و " نبئهم " ، والحكم واحد في ضمير الجمع والمفرد فيما يرجع إلى الكسر والضم. الثاني: أنه كان يلزمه صلة الهاء إذ هي في حكم كأنها قد وليت الجيم. الثالث: أن الهمز لو قلب ياء لكان الوجه المختار ضم الهاء مع صريح الياء نظرا إلى أن أصلها همزة، فما الظن بمن يكسر الهاء مع صريح الهمزة. وسيأتي تحقيق ذلك في باب وقف حمزة وهشام، فضم الهاء مع الهمزة هو الوجه.

                                                                                                                                                                                                                                      واستضعف أبو البقاء قراءة ابن كثير وهشام فإنه قال: "وأرجئه" يقرأ بالهمز وضم الهاء من غير إشباع وهو الجيد، وبالإشباع وهو ضعيف; لأن الهاء خفية، فكأن الواو التي بعدها تتلو الهمزة، وهو قريب من الجمع بين الساكنين، ومن ههنا ضعف قولهم: "عليهي مال" بالإشباع . قلت: وهذا التضعيف ليس بشيء لأنها لغة ثابتة عن العرب أعني إشباع حركة الهاء بعد ساكن مطلقا، وقد تقدم أن هذا أصل لابن كثير ليس مختصا بهذه اللفظة، بل قاعدته: كل هاء كناية بعد ساكن أن يشبع حركتها حتى يتولد منها حرف مد نحو: "منهو وعنهو وأرجئهو" إلا قبل ساكن فإن المد يحذف لالتقاء الساكنين إلا في موضع واحد رواه عنه البزي وهو عنه تلهى بتشديد التاء، وكذلك [ ص: 412 ] استضعف الزجاج قراءة حمزة وعاصم. قال بعدما أنشد قول الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                      2259 - لما رأى أن لا دعه ولا شبع مال إلى أرطاة حقف فالطجع



                                                                                                                                                                                                                                      "هذا شعر لا يعرف قائله ولا هو بشيء، ولو قاله شاعر مذكور لقيل له: أخطأت، لأن الشاعر يجوز أن يخطئ، وهذا مذهب لا يعرج عليه". قلت: قد تقدم أن تسكين هاء الكناية لغة ثابتة، وتقدم شواهدها فلا حاجة إلى إعادة ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله "وأخاه" الأحسن أن يكون نسقا على الهاء في "أرجه"، ويضعف نصبه على المعية لإمكان النسق من غير ضعف لفظي ولا معنوي.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: في المدائن متعلق بـ أرسل، و "حاشرين" مفعول به، ومفعول "حاشرين" محذوف أي: حاشرين السحرة بدليل ما بعده. والمدائن جمع مدينة وفيها ثلاثة أقوال: أحدها وهو الصحيح أن وزنها فعيلة فميمها أصلية وياؤها زائدة، مشتقة من مدن يمدن مدونا أي: أقام. واستدل لهذا القول بإطباق القراء على همز مدائن كصحيفة وصحائف وسفينة وسفائن، ولو كانت مفعلة لم تهمز نحو: معيشة ومعايش، ولأنهم جمعوها أيضا على مدن كقولهم: سفينة وسفن وصحيفة وصحف. قال الشيخ: :"ويقطع بأنها فعيلة جمعهم لها على فعل قالوا: مدن، كما قالوا: صحف في صحيفة". [ ص: 413 ] قلت: قد قال الزجاجي: "المدن في الحقيقة جمع المدين، لأن المدينة لا تجمع على مدن، ولكن تجمع على المدائن ومثل هذا: سفن كأنهم جمعوا سفينة على سفين ثم جمعوه على سفن". ولا أدري ما حمله على جعل مدن جمع مدين، ومدين جمع مدينة مع اطراد فعل في فعيلة لا بمعنى مفعولة، اللهم إلا أن يكون قد لحظ في مدينة أنها فعيلة بمعنى مفعولة لأن معنى مدينة أن يمدن فيها أي: يقام، ويؤيد هذا ما سيأتي من أن مدينة وزنها في الأصل مديونة عند بعضهم.

                                                                                                                                                                                                                                      القول الثاني: أن وزنها مفعلة من دانه يدينه أي: ساسه يسوسه فمعنى مدينة أي: مملوكة ومسوسة أي: مسوس أهلها، من دانهم ملكهم إذا ساسهم، وكان ينبغي أن يجمع على مداين بصريح الياء كمعايش في مشهور لغة العرب.

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث: أن وزنها مفعولة وهو مذهب أبي العباس. قال: هي من دانه يدينه إذا ملكه وقهره، وإذا كان أصلها مديونة فأعلت كما يعل مبيع اسم مفعول من البيع، ثم يجري الخلاف في المحذوف: هل هو الياء الأصلية أو الواو الزائدة؟ الأول قول الأخفش، والثاني قول المازني وهو مذهب جماهير النحاة. والمدينة معروفة وهي البقعة المسورة المستولي عليها ملك.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية