الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (16) قوله تعالى: فبما أغويتني : في هذه الباء وجهان أحدهما: أن تكون قسمية وهو الظاهر. والثاني: أن تكون سببية، وبه بدأ الزمخشري قال: "فبما أغويتني: فبسبب إغوائك إياي لأقعدن لهم" ثم [ ص: 265 ] قال: والمعنى: فبسبب وقوعي في الغي لأجتهدن في إغوائهم حتى يفسدوا بسببي كما فسدت بسببهم. فإن قلت: بم تعلقت الباء فإن تعلقها بـ "لأقعدن" يصد عنه لام القسم لا تقول: والله بزيد لأمرن؟ قلت: تعلقت بفعل القسم المحذوف تقديره: فبما أغويتني أقسم بالله لأقعدن أي: فبسبب إغوائك أقسم. ويجوز أن تكون الباء للقسم أي: فأقسم بإغوائك لأقعدن. قلت: وهذان الوجهان سبق إليهما أبو بكر بن الأنباري، وذكر عبارة قريبة من هذه العبارة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الشيخ: "وما ذكره من أن اللام تصد عن تعلق الباء بـ "لأقعدن" ليس حكما مجمعا عليه بل في ذلك خلاف". قلت: أما الخلاف فنعم. لكنه خلاف ضعيف لا يقيد به أبو القاسم، والشيخ نفسه قد قال عند قوله تعالى: لمن تبعك منهم لأملأن في قراءة من كسر اللام في "لمن"، إن ذلك لا يجيزه الجمهور وسيأتي لك مبينا إن شاء الله.

                                                                                                                                                                                                                                      و "ما" تحتمل ثلاثة أوجه أظهرها: أنها مصدرية أي: فبإغوائك إياي. والثاني: أنها استفهامية يعني أنه استفهم عن السبب الذي أغواه به فقال: فبأي شيء من الأشياء أغويتني؟ ثم استأنف جملة أقسم فيها بقوله "لأقعدن" . وهذا ضعيف عند بعضهم أو ضرورة عند آخرين من حيث إن "ما" الاستفهامية إذا جرت حذفت ألفها، ولا تثبت إلا في شذوذ كقولهم: عما تسأل؟ أو ضرورة كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      2147 - على ما قام يشتمني لئيم كخنزير تمرغ في رماد

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 266 ] والثالث: أنها شرطية، وهو قول ابن الأنباري، ولا بد من إيراد نصه قال رحمه الله: ويجوز أن تكون "ما" بتأويل الشرط، والباء من صلة الإغواء، والفاء المضمرة جواب الشرط، والتقدير: فبأي شيء أغويتني فلأقعدن لهم صراطك. فتضمر الفاء [في] جواب الشرط كما تضمرها في قولك "إلى ما أومأت إني قابله، وبما أمرت إني سامع مطيع". وهذا الذي قاله ضعيف جدا، فإنه على تقدير صحة معناه يمتنع من حيث الصناعة، فإن فاء الجزاء لا تحذف إلا في ضرورة شعر كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      2148 - من يفعل الحسنات الله يشكرها     والشر بالشر عند الله مثلان



                                                                                                                                                                                                                                      أي: فالله. وكان المبرد لا يجوز ذلك ضرورة أيضا، وينشد البيت المذكور:


                                                                                                                                                                                                                                      من يفعل الخير فالرحمن يشكره      . . . . . . . . . . . . . .



                                                                                                                                                                                                                                      فعلى رأي أبي بكر يكون قوله "لأقعدن" جواب قسم محذوف، وذلك القسم المقدر وجوابه جواب الشرط، فيقدر دخول الفاء على نفس جملة القسم مع جوابها تقديره: فبما أغويتني فوالله لأقعدن.

                                                                                                                                                                                                                                      هذا يتمم مذهبه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: صراطك في نصبه ثلاثة أوجه أحدها: أنه منصوب على إسقاط الخافض. قال الزجاج: ولا اختلاف بين النحويين أن "على" [ ص: 267 ] محذوفة كقولك: "ضرب زيد الظهر والبطن" أي: على الظهر والبطن". إلا أن هذا الذي قاله الزجاج وإن كان ظاهره الإجماع ضعيف من حيث إن حرف الجر لا يطرد حذفه، بل هو مخصوص بالضرورة أو بشذوذ كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      2149 - تمرون الديار فلم تعوجوا      . . . . . . . . . . . . . . . . . . .



                                                                                                                                                                                                                                      وقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      2150 - . . . . . . . . . . . . . . . . .      . . . . . . . . . . . . لولا الأسى لقضاني



                                                                                                                                                                                                                                      وقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      2151 - فبت كأن العائدات فرشنني      . . . . . . . . . . . . . . . .



                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أنه منصوب على الظرف والتقدير: لأقعدن لهم في صراطك. وهذا أيضا ضعيف لأن "صراطك" ظرف مكان مختص، والظرف المكاني المختص لا يصل إليه الفعل بنفسه بل بـ "في"، تقول: صليت في المسجد ونمت في السوق. ولا تقول: صليت المسجد، إلا فيما استثني في كتب النحو، وإن ورد غير ذلك كان شاذا كقولهم: "رجع أدراجه" و "ذهبت" مع "الشام" خاصة. أو ضرورة كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      2152 - جزى الله بالخيرات ما فعلا بكم     رفيقين قالا خيمتي أم معبد

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 268 ] أي: قالا في خيمتي. وجعلوا نظير الآية في نصب المكان المختص قول الآخر:


                                                                                                                                                                                                                                      2153 - لدن بهز الكف يعسل متنه     كما عسل الطريق الثعلب



                                                                                                                                                                                                                                      وهذا البيت أنشده النحاة على أنه ضرورة. وقد شذ ابن الطراوة عن مذهب النحاة فجعل "الصراط" و "الطريق" في هذين الموضعين مكانين مبهمين. وهذا قول مردود لأن المختص من الأمكنة ما له أقطار تحويه وحدود تحصره، والصراط والطريق من هذا القبيل. والثالث: أنه منصوب على المفعول به لأن الفعل قبله وإن كان قاصرا فقد ضمن معنى فعل متعد. والتقدير: لألزمن صراطك المستقيم بقعودي عليه.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية