الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (83) قوله تعالى: وتلك حجتنا آتيناها : "تلك" إشارة إلى الدلائل المتقدمة في قوله: وكذلك نري إبراهيم إلى قوله: وما أنا من المشركين . ويجوز في "حجتنا" وجهان، أحدهما: أن يكون خبر المبتدإ وفي "آتيناها" حينئذ وجهان، أحدهما: أنه في محل نصب على الحال والعامل فيها معنى الإشارة، ويدل على ذلك التصريح بوقوع الحال في نظيرتها كقوله تعالى: فتلك بيوتهم خاوية . والثاني: أنه في محل رفع على أنه خبر ثان أخبر عنها بخبرين، أحدهما مفرد والآخر جملة. والثاني من الوجهين الأولين: أن تكون "حجتنا" بدلا أو بيانا لتلك، والخبر الجملة الفعلية.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الحوفي: إن الجملة من "آتيناها" في موضع النعت لـ "حجتنا" على نية الانفصال، إذ التقدير: حجة لنا ، يعني الانفصال من الإضافة [ ص: 25 ] ليحصل التنكير المسوغ لوقوع الجملة صفة لحجتنا، وهذا لا ينبغي أن يقال، وقال أيضا: إن "إبراهيم" مفعول ثان لآتيناها، والمفعول الأول هو "ها"، وقد قدمت لك في أوائل البقرة أن هذا مذهب السهيلي عند قوله آتينا موسى الكتاب ، وأن مذهب الجمهور أن تجعل الأول ما كان عاقلا والثاني غيره، ولا تبالي بتقديم ولا تأخير.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "على قومه" فيه وجهان أحدهما: أنه متعلق بـ "آتينا" قاله ابن عطية والحوفي أي: أظهرناها لإبراهيم على قومه. والثاني: أنها متعلقة بمحذوف على أنها حال أي: آتيناها إبراهيم حجة على قومه أو دليلا على قومه، كذا قدره أبو البقاء، ويلزم من هذا التقدير أن تكون حالا مؤكدة، إذ التقدير: وتلك حجتنا آتيناها له حجة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقدرها الشيخ على حذف مضاف فقال:" أي آتيناها إبراهيم مستعلية على حجج قومه قاهرة لها". وهذا حسن. ومنع أبو البقاء أن تكون متعلقة بحجتنا قال: "لأنها مصدر، وآتيناها خبر أو حال، وكلاهما لا يفصل به بين الموصول وصلته". ومنع الشيخ ذلك أيضا، ولكن لكون الحجة ليست مصدرا قال: "إنما هو الكلام المؤلف للاستدلال على الشيء" ثم قال: "ولو جعلناها مصدرا لم يجز ذلك أيضا، لأنه لا يفصل بالخبر ولا بمثل هذه الحال بين المصدر ومطلوبه". وفي منعه ومنع أبي البقاء ذلك نظر، لأن الحال [ ص: 26 ] وإن كانت جملة ليست أجنبية حتى يمنع الفصل بها لأنها من جملة مطلوبات المصدر، وقد تقدم لي نظير ذلك بأشبع من هذا.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "نرفع" فيه وجهان الظاهر منهما: أنها مستأنفة لا محل لها من الإعراب. الثاني: جوزه أبو البقاء وبدأ به أنها في موضع الحال من "آتيناها" يعني من فاعل "آتيناها" ، أي: في حال كوننا رافعين، ولا تكون حالا من المفعول إذ لا ضمير فيها يعود إليه.

                                                                                                                                                                                                                                      ويقرأ "نرفع" بنون العظمة وبياء الغيبة، وكذلك "يشاء" . وقرأ أهل الكوفة "درجات" بالتنوين وكذا التي في يوسف، والباقون بالإضافة فيهما، فقراءة الكوفيين يحتمل نصب "درجات" فيها من خمسة أوجه أحدها: أنها منصوبة على الظرف و "من" مفعول "نرفع" أي: نرفع من نشاء مراتب ومنازل. والثاني: أن ينتصب على أنه مفعول ثان قدم على الأول، وذلك يحتاج إلى تضمين "نرفع" معنى فعل يتعدى لاثنين وهو "يعطي" مثلا، أي: نعطي بالرفع من نشاء درجات أي: رتبا، والدرجات هي المرفوعة كقوله: رفيع الدرجات وفي الحديث: "اللهم ارفع درجته في عليين" فإذا رفعت الدرجة فقد رفع صاحبها. والثالث: أن ينتصب على حذف حرف الجر أي: إلى منازل وإلى درجات. الرابع: أن ينتصب على التمييز، ويكون منقولا من المفعولية، فيؤول إلى قراءة الجماعة إذ الأصل: نرفع [ ص: 27 ] درجات من نشاء بالإضافة ثم حول كقوله: وفجرنا الأرض عيونا أي: عيون الأرض. الخامس: أنها منتصبة على الحال وذلك على حذف مضاف أي: ذوي درجات. ويشهد لهذه القراءة قوله تعالى: ورفع بعضكم فوق بعض درجات ، ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ ، ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما قراءة الجماعة: فدرجات مفعول "نرفع" ، والخطاب في "إن ربك" للرسول محمد عليه السلام، وقيل: لإبراهيم الخليل، فعلى هذا يكون فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب منبها بذلك على تشريفه له.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية