الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (150) قوله تعالى: غضبان أسفا : حالان من موسى عند من يجيز تعدد الحال، وعند من لا يجيزه يجعل "أسفا" حالا من الضمير المستتر في "غضبان" فتكون حالا متداخلة، أو يجعلها بدلا من الأولى، وفيه نظر لعسر إدخاله في أقسام البدل، وأقرب ما يقال: إنه بدل بعض من كل إن فسرنا الأسف بالشديد الغضب، أو بدل اشتمال إن فسرناه بالحزين. يقال: أسف يأسف أسفا، أي: اشتد غضبه. قال تعالى: فلما آسفونا انتقمنا منهم ويقال: بل معناه حزن ومنه قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      2297 - غير مأسوف على زمن ينقضي بالهم والحزن



                                                                                                                                                                                                                                      فلما كانا متقاربين في المعنى صحت البدلية على ما ذكرته لك، ويدل على مقاربة ما بينهما كما قال الواحدي قوله: [ ص: 466 ]

                                                                                                                                                                                                                                      2298 - . . . . . . . . . . . . . . .     فحزن كل أخي حزن أخو الغضب



                                                                                                                                                                                                                                      وقال الأعشى:


                                                                                                                                                                                                                                      2299 - أرى رجلا منكم أسيفا كأنما     يضم إلى كشحيه كفا مخضبا



                                                                                                                                                                                                                                      فهذا بمعنى غضبان. وفي الحديث: "إن أبا بكر رجل أسيف" أي: حزين، ورجل أسف: إذا قصد ثبوت الوصف واستقراره، فإن قصد به الزمان جاء على فاعل.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: قال بئسما هذا جواب "لما" وتقدم الكلام على "بئسما"، ولكن المخصوص بالذم محذوف، والفاعل مستتر يفسره "ما خلفتموني" والتقدير: بئس خلافة خلفتمونيها خلافتكم.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: أعجلتم أمر ربكم في "أمر" وجهان أحدهما: أنه منصوب على المفعول بعد إسقاط الخافض وتضمين الفعل معنى ما يتعدى بنفسه، والأصل: أعجلتم عن أمر ربكم. قال الزمخشري: "يقال: عجل عن الأمر: إذا تركه غير تام، ونقيضه تم، وأعجله عنه غيره، ويضمن معنى سبق فيتعدى تعديته فيقال: عجلت الأمر، والمعنى: أعجلتم عن أمر ربكم" . والثاني: أنه متعد بنفسه غير مضمن معنى فعل آخر. حكى يعقوب: "عجلت الشيء سبقته" وأعجلت الرجل استعجلته، أي: حملته على العجل .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: يجره إليه فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أن الجملة حال من ضمير موسى المستتر في "أخذ"، أي: أخذ جارا إليه. الثاني: أنها حال من "رأس" [ ص: 467 ] قاله أبو البقاء وفيه نظر لعدم الرابط. الثالث: أنها حال من "أخيه" قال أبو البقاء: وهو ضعيف، يعني من حيث إن الحال من المضاف إليه يقل مجيئها أو يمتنع عند بعضهم. قلت: وقد تقدم غير مرة أن بعضهم يجوزه في صور هذه منها، وهو كون المضاف جزءا من المضاف إليه.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: قال ابن أم قرأ الأخوان وأبو بكر وابن عامر هنا وفي طه بكسر الميم والباقون بفتحها. فأما قراءة الفتح ففيها مذهبان: مذهب البصريين أنهما بنيا على الفتح لتركبهما تركيب خمسة عشر، فعلى هذا فليس "ابن" مضافا لـ "أم" بل مركب معها فحركتهما حركة بناء.

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: مذهب الكوفيين وهو أن "ابن" مضاف لـ "أم" و "أم" مضافة لياء المتكلم، وياء المتكلم قد قلبت ألفا كما تقلب في المنادى المضاف إلى ياء المتكلم نحو: يا غلاما، ثم حذفت الألف واجتزئ عنها بالفتحة كما يجتزأ عن الياء بالكسرة، فحينئذ حركة "ابن" حركة إعراب وهو مضاف لـ "أم" فهي في محل خفض بالإضافة.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما قراءة الكسر فعلى رأي البصريين هو كسر بناء لأجل ياء المتكلم، بمعنى أنا أضفنا هذا الاسم المركب كله لياء المتكلم فكسر آخره، ثم اجتزئ عن الياء بالكسرة فهو نظير: يا أحد عشري ثم: يا أحد عشر بالحذف، ولا جائز أن يكونا باقيين على الإضافة إذ لم يجز حذف الياء لأن الاسم ليس منادى، ولكنه مضاف إليه المنادى فلم يجز حذف الياء منه. وعلى رأي الكوفيين يكون الكسر كسر إعراب وحذفت الياء مجتزأ عنها بالكسرة كما اجتزئ عن ألفها بالفتحة. وهذان الوجهان يجريان في "ابن أم" و "ابن عم" [ ص: 468 ] و "ابنة أم" و "ابنة عم" . فاعلم أنه يجوز في هذه الأمثلة الأربعة خاصة خمس لغات، فصحاهن: حذف الياء مجتزأ عنها بالكسرة، ثم قلب الياء ألفا فيلزم قلب الكسرة فتحة، ثم حذف الألف مجتزأ عنها بالفتحة، ثم إثبات الياء ساكنة أو مفتوحة، وأما غير هذه الأمثلة الأربعة مما أضيف إلى مضاف إلى ياء المتكلم في النداء فإنه لا يجوز فيه إلا ما يجوز في غير باب النداء لأنه ليس منادى نحو: يا غلام أبي ويا غلام أمي، وإنما جرت هذه الأمثلة خاصة هذا المجرى تنزيلا للكلمتين منزلة كلمة واحدة ولكثرة الاستعمال.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ "يابن أمي" بإثبات الياء ساكنة، ومثله قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      2300 - يابن أمي ويا شقيق نفسي     أنت خلفتني لدهر شديد



                                                                                                                                                                                                                                      وقول الآخر:


                                                                                                                                                                                                                                      2301 - يا بن أمي فدتك نفسي ومالي      . . . . . . . . . . . . . . .



                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ أيضا: "ابن إم" بكسر الهمزة والميم وهو إتباع. ومن قلب الياء ألفا قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      2302 - يا بنة عما لا تلومي واهجعي      ... ... ... ...

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 469 ] وقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      2303 - كن لي لا علي يا بن عما     ندم عزيزين ونكف الذما



                                                                                                                                                                                                                                      قوله: فلا تشمت العامة على ضم التاء وكسر الميم وهو من أشمت رباعيا، "الأعداء" مفعول به. وقرأ ابن محيصن "فلا تشمت" بفتح التاء وكسر الميم، ومجاهد بفتح التاء أيضا وفتح الميم، "الأعداء" نصب على المفعول به. وفي: هاتين القراءتين تخريجان، أظهرهما: أن شمت أو شمت بكسر الميم أو فتحها متعد بنفسه كأشمت الرباعي، يقال: شمت بي زيد العدو، كما يقال: أشمت بي العدو.

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أن "تشمت" مسند لضمير الباري تعالى، أي: فلا تشمت يا رب، وجاز هذا كما جاز الله يستهزئ بهم ثم أضمر ناصبا للأعداء كقراءة الجماعة قاله ابن جني، ولا حاجة إلى هذا التكلف لأن "شمت" الثلاثي يكون متعديا بنفسه، والإضمار على خلاف الأصل. وقال أبو البقاء في هذا التخريج: "فلا تشمت أنت" فجعل الفاعل ضمير موسى، وهو أولى من إسناده إلى ضمير الله تعالى. وأما تنظيره بقوله الله يستهزئ بهم فإنما جاز ذلك للمقابلة في قوله: إنما نحن مستهزئون وكقوله: ومكروا ومكر الله ولا يجوز ذلك في غير المقابلة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ حميد بن قيس: "فلا تشمت" كقراءة ابن محيصن، ومجاهد [ ص: 470 ] كقراءته فيه أولا، إلا أنهما رفعا الأعداء على الفاعلية، جعلا شمت لازما فرفعا به "الأعداء" على الفاعلية، فالنهي في اللفظ للمخاطب والمراد به غيره كقولهم: "لا أرينك ههنا"، أي: لا يكن منك ما يقتضي أن تشمت بي الأعداء.

                                                                                                                                                                                                                                      والإشمات والشماتة: الفرح ببلية تنال عدوك قال:


                                                                                                                                                                                                                                      2304 - . . . . . . . . . . . . . . . . . .     والموت دون شماتة الأعداء



                                                                                                                                                                                                                                      قيل: واشتقاقها من شوامت الدابة وهي قوائمها; لأن الشماتة تقلب قلب الحاسد في حالتي الفرح والترح كتقلب شوامت الدابة. وتشميت العاطس وتسميته بالشين والسين الدعاء له بالخير، قال أبو عبيد: "الشين أعلى اللغتين". وقال ثعلب: "الأصل فيهما السين من السمت، وهو القصد والهدي". وقيل: معنى تشميت العاطس بالمعجمة أن يثبته الله كما يثبت قوائم الدابة. وقيل: بل التفعيل للسلب، أي: أزال الله الشماتة به، وبالسين المهملة، أي: رده الله إلى سمته الأول أي هيئته لأنه يحصل له انزعاج. وقال أبو بكر: يقال: سمته وسمت عليه، وفي الحديث: "وسمت عليهما".

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية