الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (3) قوله تعالى: من ربكم : يجوز فيه وجهان، أحدهما: أن يتعلق بأنزل، وتكون "من" لابتداء الغاية المجازية. والثاني: أن يتعلق بمحذوف على أنه حال: إما من الموصول، وإما من عائده القائم مقام الفاعل.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: من دونه أولياء : "من دونه" يجوز أن يتعلق بالفعل قبله، والمعنى: لا تعدلوا عنه إلى غيره من الشياطين والكهان. والثاني: أن يتعلق بمحذوف، لأنه كان في الأصل صفة لأولياء، فلما تقدم نصب حالا، وإليه يميل تفسير الزمخشري فإنه قال: "أي لا تتولوا من دونه من شياطين الإنس والجن فيحملوكم على الأهواء والبدع". والضمير في "دونه" يحتمل وهو الظاهر أن يعود على "ربكم"; ولذلك قال الزمخشري: "من دون الله"، وأن يعود على "ما" الموصولة، وأن يعود على الكتاب المنزل، [ ص: 246 ] والمعنى: لا تعدلوا عنه إلى الكتب المنسوخة. وقرأ الجحدري: "ابتغوا" بالغين المعجمة من الابتغاء. ومالك بن دينار ومجاهد: "ولا تبتغوا" من الابتغاء أيضا.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: قليلا ما تذكرون قد تقدم نظير هذا في قوله تعالى: فقليلا ما يؤمنون وهو أن "قليلا" نعت مصدر محذوف أي: تذكرا قليلا تذكرون، أو نعت ظرف زمان محذوف أيضا أي: زمانا قليلا تذكرون، فالمصدر أو الظرف منصوب بالفعل بعده، و "ما" مزيدة للتوكيد، وهذا إعراب جلي واضح. وقد أجاز الحوفي أن يكون نعت مصدر محذوف لقوله "ولا تتبعوا" أي: ولا تتبعوا من دونه أولياء اتباعا قليلا، وهو ضعيف، لأنه يصير مفهومه أنهم غير منهيين عن اتباع الكثير، ولكنه معلوم من جهة المعنى فلا مفهوم له.

                                                                                                                                                                                                                                      وحكى ابن عطية عن أبي علي: أن "ما" مصدرية موصولة بالفعل بعدها، واقتصر على هذا القدر، ولا بد من تتمة له، فقال بعض الناس: ويكون "قليلا" نعت زمان محذوف، وذلك الزمان المحذوف في محل رفع خبرا مقدما، و "ما" المصدرية وما بعدها بتأويل مصدر مبتدأ مؤخرا، والتقدير: زمنا قليلا تذكركم أي: أنهم لا يقع تذكرهم إلا في بعض الأحيان، ونظيره: زمنا قليلا قيامك. وقد قيل: إن "ما" هذه نافية، وهو بعيد; لأن "ما" لا يعمل ما بعدها فيما قبلها عند البصريين، وعلى تقدير تسليم ذلك فيصير المعنى: ما تذكرون قليلا، وليس بطائل، وهذا كما سيأتي في قوله تعالى: كانوا قليلا من الليل ما يهجعون عند من جعلها نافية. [ ص: 247 ] وهناك وجه لا يمكن أن يأتي هاهنا وهو: أن تكون "ما" مصدرية، وهي وما بعدها في محل رفع بالفاعلية بـ "قليلا" الذي هو خبر "كان"، والتقدير: كانوا قليلا هجوعهم، وأما هنا فلا يمكن ذلك لعدم صحة نصب "قليلا" بقوله: "ولا تتبعوا" حتى تجعل "ما تذكرون" مرفوعا به.

                                                                                                                                                                                                                                      ولا يجوز أن يكون "قليلا" حالا من فاعل "تتبعوا" و "ما تذكرون" مرفوع به، إذ يصير المعنى: أنهم نهوا عن الاتباع في حال قلة تذكرهم، وليس ذلك بمراد.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الأخوان وحفص: "تذكرون" بتاء واحدة وتخفيف الذال، وابن عامر بتاءين وتخفيف الذال، والباقون بتاء وتشديد الذال، وهن واضحات، تقدم معناها في الأنعام.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية