الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (96) وقوله تعالى: فالق الإصباح : كقوله: "فالق الحب" فيما تقدم. والجمهور على كسر الهمزة وهو المصدر، يقال: أصبح يصبح إصباحا، وقال الليث والزجاج: إن الصبح والصباح والإصباح واحد، وهما أول النهار، وكذا الفراء. وقيل: الإصباح ضوء الشمس بالنهار وضوء القمر بالليل، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وقيل: هو إضاءة الفجر، نقل ذلك عن مجاهد، والظاهر أن الإصباح في الأصل مصدر سمي به الصبح وكذا الإمساء، قال امرؤ القيس: [ ص: 59 ]

                                                                                                                                                                                                                                      2005 - ألا أيها الليل الطويل ألا انجل بصبح وما الإصباح منك بأمثل



                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الحسن وأبو رجاء وعيسى بن عمر: الأصباح: بفتح الهمزة وهو جمع صبح نحو: قفل وأقفال وبرد وأبراد، وينشد قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      2006 - أفنى رياحا وبني رياح     تناسخ الأمساء والأصباح



                                                                                                                                                                                                                                      بفتح الهمزة من الأمساء والأصباح على أنهما جمع مسي وصبح، وبكسرها على أنهما مصدران. وقرئ "فالق الإصباح" بنصب الإصباح وذلك على حذف التنوين لالتقاء الساكنين كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      2007 - . . . . . . . . . . . . . . . . .     ولا ذاكر الله إلا قليلا



                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ: والمقيمي الصلاة ولذآئقو العذاب بالنصب حملا للنون على التنوين، إلا أن سيبويه لا يجيز حذف التنوين لالتقاء الساكنين إلا في شعر، وقد أجازه المبرد في السعة. وقرأ يحيى والنخعي وأبو حيوة: "فلق" فعلا ماضيا، وقد تقدم أن عبد الله قرأ الأولى كذلك، وهذا أدل دليل على أن القراءة عندهم سنة متبعة، ألا ترى أن عبد الله كيف قرأ "فلق الحب" فعلا ماضيا، وقرأ "فالق الأصباح" ، اسم فاعل، [ ص: 60 ] والثلاثة المذكورون بعكسه. قال الزمخشري: "فإن قلت: فما معنى فلق الصبح، والظلمة هي التي تنفلق عن الصبح كما قال:


                                                                                                                                                                                                                                      2008 - . . . . . . . . . . . . . . .     تفري ليل عن بياض نهار



                                                                                                                                                                                                                                      قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن يراد: فالق ظلمة الإصباح، يعني أنه على حذف مضاف. والثاني: أن يراد فالق الإصباح الذي هو عمود الفجر عن بياض النهار وإسفاره، وقالوا: انشق عمود الفجر وانصدع، وسموا الفجر فلقا بمعنى مفلوق، قال الطائي:


                                                                                                                                                                                                                                      2009 - وأزرق الفجر يبدو قبل أبيضه      . . . . . . . . . . . . . . . .



                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ: فالق وجاعل بالنصب على المدح. انتهى. وأنشد غيره:


                                                                                                                                                                                                                                      2010 - فانشق عنها عمود الفجر جافلة     عدو النحوص تخاف القانص اللحما



                                                                                                                                                                                                                                      قوله: وجاعل الليل قرأ الكوفيون: "جعل" فعلا ماضيا، والباقون بصيغة اسم الفاعل، والرسم يحتملهما، والليل منصوب عند الكوفيين بمقتضى قراءتهم، ومجرور عند غيرهم، ووجه قراءتهم له فعلا مناسبته [ ص: 61 ] ما بعده فإن بعده أفعالا ماضية نحو: جعل لكم النجوم ، وهو الذي أنشأكم إلى آخر الآيات، ويكون "سكنا" : إما مفعولا ثانيا على أن الجعل بمعنى التصيير، وإما حالا على أنه بمعنى الخلق، وتكون الحال مقدرة.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما قراءة غيرهم فجاعل يحتمل أن يكون بمعنى المضي، وهو الظاهر، ويؤيده قراءة الكوفيين، والماضي عند البصريين لا يعمل إلا مع أل خلافا لبعضهم في منع إعمال المعرف بها، وللكسائي في إعماله مطلقا، وإذا تقرر ذلك فـ "سكنا" منصوب بفعل مضمر عند البصريين، وعلى مقتضى مذهب الكسائي ينصبه به. وقد زعم أبو سعيد السيرافي أن اسم الفاعل المتعدي إلى اثنين يجوز أن يعمل في الثاني وإن كان ماضيا، قال: "لأنه لما أضيف إلى الأول تعذرت إضافته للثاني فتعين نصبه له" . وقال بعضهم: "لأنه بالإضافة أشبه المعرف بأل فعمل مطلقا" فعلى هذا "سكنا" منصوب به أيضا، وأما إذا قلنا إنه بمعنى الحال والاستقبال فنصبه به. و "سكن" فعل بمعنى مفعول كالقبض بمعنى مقبوض.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: والشمس والقمر حسبانا الجمهور بنصب "الشمس" و "القمر" وهي واضحة على قراءة الكوفيين أي: بعطف هذين المنصوبين على المنصوبين بـ "جعل" ، و "حسبانا" فيه الوجهان في "سكنا" من المفعول الثاني والحال، وأما على قراءة الجماعة فإن اعتقدنا كونه ماضيا فلا بد من إضمار فعل ينصبهما أي: وجعل الشمس، وإن قلنا إنه غير ماض فمذهب سيبويه أيضا أن النصب بإضمار فعل، تقول: "هذا ضارب زيد الآن أو غدا أو عمرا" بنصب عمرو، وبفعل مقدر لا على موضع المجرور باسم الفاعل، وعلى رأي [ ص: 62 ] غيره يكون النصب على محل المجرور، وينشدون قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      2011 - هل أنت باعث دينار لحاجتنا     أو عبد رب أخا عون بن مخراق



                                                                                                                                                                                                                                      بنصب "عبد" وهو محتمل للمذهبين. وقال الزمخشري: أو يعطفان على محل "الليل". فإن قلت: كيف يكون لـ "الليل" محل والإضافة حقيقة لأن اسم الفاعل المضاف إليه في معنى المضي ولا تقول: زيد ضارب عمرا أمس؟ قلت: ما هو بمعنى الماضي، وإنما هو دال على فعل مستمر في الأزمنة.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الشيخ: أما قوله إنما هو دال على فعل مستمر في الأزمنة، يعني فيكون عاملا ويكون للمجرور إذ ذاك بعده موضع فيعطف عليه "الشمس والقمر" . قال: وهذا ليس بصحيح، إذا كان لا يتقيد بزمن خاص، وإنما هو للاستمرار، فلا يجوز له أن يعمل، ولا لمجروره محل، وقد نصوا على ذلك وأنشدوا على ذلك:


                                                                                                                                                                                                                                      2012 - ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة      . . . . . . . . . . . . . .



                                                                                                                                                                                                                                      فليس الكاسب هنا مقيدا بزمان، وإذا تقيد بزمان: فإما أن يكون ماضيا دون أل فلا يعمل عند البصريين، أو بأل أو حالا أو مستقبلا فيعمل ويضاف على ما أحكم في النحو. ثم قال: وعلى تقدير تسليم أن الذي للاستمرار [ ص: 63 ] يعمل فلا يجوز العطف على محل مجروره، بل مذهب سيبويه في الذي بمعنى الحال والاستقبال أن لا يجوز العطف على محل مجروره، بل النصب بفعل مقدر، لو قلت: هذا ضارب زيد وعمرا لم يكن نصب "عمرا" على المحل على الصحيح وهو مذهب سيبويه; لأن شرط العطف على الموضع مفقود وهو أن يكون للموضع محرز لا يتغير، وهذا موضح في علم النحو.

                                                                                                                                                                                                                                      قلت: وقد ذكر الزمخشري في أول الفاتحة في مالك يوم الدين أنه لما لم يقصد به زمان صارت إضافته محضة فلذلك وقع صفة للمعارف، فمن لازم قوله أنه يتعرف بالإضافة أن لا يعمل، لأن العامل في نية الانفصال عن الإضافة، ومتى كان في نية الانفصال كان نكرة، ومتى كان نكرة فلا يقع صفة للمعرفة. وهذا حسن حيث يرد عليه بقوله، وقد تقدم تحقيق هذا في الفاتحة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ أبو حيوة: والشمس والقمر جرا نسقا على اللفظ. وقرئ شاذا والشمس والقمر رفعا على الابتداء، وكان من حقه أن يقرأ "حسبان" رفعا على الخبر، وإنما قرأه نصبا، فالخبر حينئذ محذوف تقديره: مجعولان حسبانا أو مخلوقان حسبانا. فإن قلت: لا يمكن في هذه القراءة رفع "حسبان" حتى نلزم القارئ بذلك; لأن الشمس والقمر ليسا نفس الحسبان. فالجواب: أنهما في قراءة النصب: إما مفعولان أولان و "حسبانا" ثان، وإما صاحبا حال وحسبانا حال، والمفعول الثاني هو الأول، والحال لا بد وأن تكون صادقة على ذي الحال، فمهما كان الجواب لكم كان لنا والجواب ظاهر مما تقدم. [ ص: 64 ] والحسبان فيه قولان، أحدهما: أنه جمع، فقيل: جمع حساب كركاب وركبان وشهاب وشهبان، وهذا قول أبي عبيد والأخفش وأبي الهيثم والمبرد. وقال أبو البقاء: "هو جمع حسبانة" وهو غلط; لأن الحسبانة القطعة من النار، وليس المراد ذلك قطعا. وقيل: بل هو مصدر كالرجحان والنقصان والخسران، وأما الحساب فهو اسم لا مصدر، وهذا قول ابن السكيت. وقال الزمخشري: "والحسبان بالضم مصدر حسبت يعني بالفتح كما أن الحسبان بالكسر يعني مصدر حسبت بالكسر، ونظيره الكفران والشكران". وقيل: بل الحسبان والحساب مصدران وهو قول أحمد بن يحيى.

                                                                                                                                                                                                                                      وأنشد أبو عبيد عن أبي زيد في مجيء الحسبان مصدرا قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      2013 - على الله حسباني إذا النفس أشرفت     على طمع أو خاف شيئا ضميرها



                                                                                                                                                                                                                                      وانتصاب "حسبانا" على ما تقدم من المفعولية أو الحالية. وقال ثعلب عن الأخفش: إنه منصوب على إسقاط الخافض والتقدير: يجريان بحسبان كقوله لمن خلقت طينا أي: من طين. وقوله: " ذلك " إشارة إلى ما تقدم من الفلق أو الجعل أو جميع ما تقدم من الأخبار في قوله "فالق الحب" إلى "حسبانا" .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية