الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال تعالى : ( بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ( 81 ) ) .

قوله تعالى : ( بلى ) : حرف يثبت به المجيب المنفي قبله تقول : أما جاء زيد ؟ فيقول المجيب : بلى ; أي قد جاء ، ولهذا يصح أن تأتي بالخبر المثبت بعد بلى ، فتقول : بلى ، قد جاء ، فإن قلت في جواب النفي : نعم ، كان اعترافا بالنفي ، وصح أن تأتي بالنفي بعده ، كقوله : ما جاء زيد ؟ فتقول : نعم ، ما جاء .

والياء من نفس الحرف . وقال الكوفيون : هي بل ، زيدت عليها الياء وهو ضعيف .

( من كسب ) : في " من " وجهان : أحدهما : هي بمعنى الذي ، والثاني : شرطية ، وعلى كلا الوجهين هي مبتدأة ، " إلا أن كسب " لا موضع لها إن كانت من موصولة ، ولها موضع إن كانت شرطية ، والجواب : فأولئك ، وهو مبتدأ و ( أصحاب النار ) : خبره ، والجملة جواب الشرط ، أو خبر من .

والسيئة على فيعلة ; مثل سيد وهين ، وقد ذكرناه في قوله : ( أو كصيب ) [ البقرة : 19 ] وعين الكلمة واو ، لأنه من ساءه يسوءه .

: ( به ) : يرجع إلى لفظ من ، وما بعده من الجمع يرجع إلى معناها ، ويدل على أن " من " بمعنى الذي المعطوف ، وهو قوله : ( والذين آمنوا ) .

[ ص: 72 ] قال تعالى : ( وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون ( 83 ) ) .

قوله تعالى : ( لا تعبدون إلا الله ) : يقرأ بالتاء على تقدير : قلنا لهم لا تعبدون ، وبالياء ; لأن بني إسرائيل اسم ظاهر ، فيكون الضمير وحرف المضارعة بلفظ الغيبة ; لأن الأسماء الظاهرة كلها غيب ، وفيها من الإعراب أربعة أوجه :

أحدها : أنه جواب قسم دل عليه المعنى ، وهو قوله : " أخذنا ميثاق " ; لأن معناه أحلفناهم ، أو قلنا لهم بالله لا تعبدون . والثاني أن : " أن " مرادة ، والتقدير : أخذنا ميثاق بني إسرائيل على أن لا تعبدوا إلا الله ، فحذف حرف الجر ، ثم حذف أن فارتفع الفعل ونظيره .

ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى :

بالرفع والتقدير عن أن أحضر . والثالث أنه في موضع نصب على الحال تقديره أخذنا ميثاقهم موحدين ; وهي حال مصاحبة ، ومقدرة ; لأنهم كانوا وقت أخذ العهد موحدين ، والتزموا الدوام على التوحيد ، ولو جعلتها حالا مصاحبة فقط على أن يكون التقدير أخذنا ميثاقهم ملتزمين الإقامة على التوحيد جاز ، ولو جعلتها حالا مقدرة فقط جاز ويكون التقدير أخذنا ميثاقهم مقدرين التوحيد أبدا ما عاشوا .

والوجه الرابع أن يكون لفظه لفظ الخبر ، ومعناه النهي والتقدير : قلنا لهم لا تعبدوا ، وفيه وجه خامس ، وهو أن يكون الحال محذوفة ، والتقدير : أخذنا ميثاقهم قائلين كذا وكذا ، وحذف القول كثير ، ومثل ذلك قوله تعالى ( وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون ) [ البقرة : 84 ] .

( إلا الله ) : مفعول تعبدون ، ولا عمل لإلا في نصبه إلا أن الفعل قبله لم يستوف مفعوله . ( وبالوالدين إحسانا ) : إحسانا مصدر أي : وقلنا أحسنوا بالوالدين إحسانا ، ويجوز أن يكون مفعولا به ، والتقدير : وقلنا استوصوا بالوالدين إحسانا ، ويجوز أن يكون مفعولا له ، أي ووصيناهم بالوالدين لأجل الإحسان إليهم .

( وذي القربى ) : إنما أفرد ذي هاهنا لأنه أراد الجنس أو يكون وضع الواحد موضع الجمع وقد تقدم نظيره . ( واليتامى ) : جمع يتيم ; وجمع فعيل على فعالى قليل .

[ ص: 73 ] والميم في : ( والمساكين ) : زائدة ; لأنه من السكون .

( وقولوا ) : أي وقلنا لهم قولوا .

( حسنا ) : يقرأ بضم الحاء وسكون السين وبفتحهما وهما لغتان ; مثل العرب والعرب ; والحزن والحزن ; وفرق قوم بينهما فقالوا : الفتح صفة لمصدر محذوف ; أي قولا حسنا ، والضم على تقدير حذف مضاف أي قولا ذا حسن .

وقرئ بضم الحاء من غير تنوين على أن الألف للتأنيث .

( إلا قليلا منكم ) : النصب على الاستثناء المتصل ، وهو الوجه .

وقرئ بالرفع شاذا ، ووجهه أن يكون بفعل محذوف كأنه قال : امتنع قليل ، ولا يجوز أن يكون بدلا ; لأن المعنى يصير : ثم تولى قليل ، ويجوز أن يكون مبتدأ ، والخبر محذوف ; أي إلا قليل منكم لم يتول ; كما قالوا : ما مررت بأحد إلا ورجل من بني تميم خير منه ، ويجوز أن يكون توكيدا للضمير المرفوع المستثنى منه ، وسيبويه وأصحابه يسمونه نعتا ووصفا ، وأنشد أبو علي في مثل رفع هذه الآية .


وبالصريمة منهم منزل خلق عاف تغير إلا النؤي والوتد

.

( وأنتم معرضون ) : جملة في موضع الحال المؤكدة ; لأن توليتم يغني عنه .

وقيل المعنى توليتم بأبدانكم وأنتم معرضون بقلوبكم فعلى هذا هي حال منتقلة وقيل توليتم يعني آباءهم وأنتم معرضون يعني أنفسهم ; كما قال ( وإذ نجيناكم من آل فرعون ) [ البقرة : 39 ] يعني آباءهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية