الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال تعالى : ( جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم ) ( 97 ) .

قوله تعالى : ( جعل الله ) : هي بمعنى صير ، فيكون ( قياما ) : مفعولا ثانيا ، وقيل : هي بمعنى خلق ، فيكون قياما حالا ، و ( البيت ) : بدل من الكعبة ، ويقرأ ( قياما ) بالألف ؛ أي : سببا لقيام دينهم ومعاشهم . ويقرأ : ( قيما ) بغير ألف وهو محذوف من قيام كخيم في خيام . ( ذلك ) : في موضع رفع خبر مبتدأ محذوف ؛ أي : الحكم الذي ذكرناه ذلك ؛ أي : لا غيره ، ويجوز أن يكون المحذوف هو الخبر ، ويجوز أن يكون في موضع نصب ؛ أي : فعلنا ذلك أو شرعنا ، واللام في " لتعلموا " متعلقة بالمحذوف .

قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم ) ( 101 ) .

قوله تعالى : ( عن أشياء ) : الأصل فيها عند الخليل وسيبويه " شيئاء " بهمزتين بينهما ألف ، وهي فعلاء من لفظ شيء ، وهمزتها الثانية للتأنيث ، وهي مفردة في اللفظ ، ومعناها الجمع ، مثل قصباء وطرفاء ، ولأجل همزة التأنيث لم تنصرف ، ثم إن الهمزة الأولى التي هي لام الكلمة قدمت فجعلت قبل الشين كراهية الهمزتين بينهما ألف ، خصوصا بعد الياء ، فصار وزنها لفعاء ، وهذا قول صحيح ، لا يرد عليه إشكال .

[ ص: 346 ] وقال الأخفش والفراء : أصل الكلمة شيء مثل هين على فيعل ، ثم خففت ياؤه كما خففت ياء هين ، فقيل : شيء كما قيل " هين " ثم جمع على أفعلاء ؛ وكان الأصل أشياء ؛ كما قالوا هين وأهوناء ، ثم حذفت الهمزة الأولى ، فصار وزنها أفعاء ، فلامها محذوفة .

وقال آخرون : الأصل في " شيء " شييء مثل صديق ، ثم جمع على أفعلاء كأصدقاء وأنبياء ، ثم حذفت الهمزة الأولى ، وقيل : هو جمع شيء من غير تغيير ؛ كبيت وأبيات ، وهو غلط ؛ لأن مثل هذا الجمع ينصرف ، وعلى الأقوال الأول يمتنع صرفه ؛ لأجل همزة التأنيث ، ولو كان أفعالا لانصرف ، ولم يسمع أشياء منصرفة البتة ، وفي هذه المسألة كلام طويل فموضعه التصريف . ( إن تبد لكم تسؤكم ) : الشرط وجوابه في موضع جر صفة لأشياء . ( عفا الله عنها ) : قيل : هو مستأنف .

وقيل : هو في موضع جر أيضا ، والنية به التقديم ؛ أي : عن أشياء قد عفا الله لكم عنها .

قال تعالى : ( قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين ) ( 102 ) .

قوله تعالى : ( من قبلكم ) : هو متعلق بسألها ، ولا يجوز أن يكون صفة لقوم ولا حالا ؛ لأن ظرف الزمان لا يكون صفة للجثة ، ولا حالا منها ، ولا خبرا عنها .

قال تعالى : ( ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون ) ( 103 ) .

قوله تعالى : ( ما جعل الله من بحيرة ) : " من " زائدة ، وجعل هاهنا بمعنى سمى ، فعلى هذا يكون بحيرة أحد المفعولين ، والآخر محذوف ؛ أي : ما سمى الله حيوانا بحيرة . ويجوز أن تكون جعل متعدية إلى مفعول واحد ، بمعنى ما شرع ، ولا وضع ، وبحيرة فعيلة بمعنى مفعولة ، والسائبة فاعلة من ساب يسيب إذا جرى ، وهو مطاوع سيبه فساب . وقيل : هي فاعلة بمعنى مفعولة ؛ أي : مسيبة ، والوصيلة بمعنى الواصلة ، والحامي فاعل من حمى ظهره يحميه .

قال تعالى : ( وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون ) ( 104 ) .

[ ص: 347 ] قوله تعالى : ( حسبنا ) : هو مبتدأ ، وهو مصدر بمعنى اسم الفاعل ، و " ما وجدنا " هو الخبر ، ( وما ) : بمعنى الذي ، أو نكرة موصوفة ؛ والتقدير : كافينا الذي وجدناه ، ووجدنا هنا يجوز أن تكون بمعنى علمنا ، فيكون " عليه " المفعول الثاني ، ويجوز أن تكون بمعنى صادفنا ، فتتعدى إلى مفعول واحد بنفسها ، وفي عليه على هذا وجهان : أحدهما : هي متعلقة بالفعل معدية له كما تتعدى ضربت زيدا بالسوط . والثاني : أن تكون حالا من الآباء ، وجواب ( أولو كان ) محذوف تقديره : أولو كانوا يتبعونهم .

قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون ) ( 105 ) .

قوله تعالى : ( عليكم أنفسكم ) : عليكم هو اسم للفعل هاهنا ، وبه انتصب " أنفسكم " ، والتقدير : احفظوا أنفسكم . والكاف والميم في عليكم في موضع جر ؛ لأن اسم الفعل هو الجار والمجرور ، وعلى وحدها لم تستعمل اسما للفعل ، بخلاف رويدكم ، فإن الكاف والميم هناك للخطاب فقط ، ولا موضع لهما ؛ لأن رويدا قد استعملت اسما للأمر للمواجه من غير كاف الخطاب . وهكذا قوله : ( مكانكم أنتم وشركاؤكم ) : الكاف والميم في موضع جر أيضا ، ويذكر في موضعه إن شاء الله تعالى . ( لا يضركم ) : يقرأ بالتشديد والضم على أنه مستأنف . وقيل : حقه الجزم على جواب الأمر ، ولكنه حرك بالضم إتباعا لضمة الضاد ، ويقرأ بفتح الراء على أن حقه الجزم وحرك بالفتح ، ويقرأ بتخفيف الراء وسكونها وكسر الضاد ، وهو من ضاره يضيره ، ويقرأ كذلك إلا أنه بضم الضاد ، وهو من ضاره يضوره ، وكل ذلك لغات فيه . و ( إذا ) : ظرف ليضر ، ويبعد أن يكون ظرفا لضل ؛ لأن المعنى لا يصح معه .

التالي السابق


الخدمات العلمية