الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وما أرى أن هذه العظمة كلها للصلاة من حيث أعمالها الظاهرة إلا أن يضاف إليها مقصود المناجاة فإن ذلك يتقدم ، على الصوم والزكاة والحج وغيره بل الضحايا والقرابين التي هي مجاهدة للنفس بتنقيص المال قال الله تعالى لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم أي : الصفة التي استولت على القلب حتى حملته على امتثال الأوامر هي المطلوبة فكيف الأمر في الصلاة ولا أرب في أفعالها فهذا ما يدل من حيث المعنى على اشتراط حضور القلب .

فإن قلت : إن حكمت ببطلان الصلاة ، وجعلت حضور القلب شرطا في صحتها خالفت إجماع الفقهاء فإنهم لم يشترطوا إلا حضور القلب عند التكبير .

فاعلم أنه قد تقدم في كتاب العلم أن الفقهاء لا يتصرفون في الباطن ولا يشقون عن القلوب ولا في طريق الآخرة بل يبنون أحكام الدين على ظاهر أعمال الجوارح ، وظاهر الأعمال كاف لسقوط القتل وتعزير السلطان فأما أنه ينفع في الآخرة فليس هذا من حدود الفقه على أنه لا يمكن أن يدعى الإجماع .

فقد نقل عن بشر بن الحارث فيما رواه عنه أبو طالب المكي عن سفيان الثوري أنه قال : من لم يخشع فسدت صلاته ، وروي عن الحسن أنه قال : كل صلاة لا يحضر فيها القلب فهي إلى العقوبة أسرع .

وعن معاذ بن جبل من عرف من على يمينه وشماله متعمدا وهو في الصلاة ، فلا صلاة له .

وروي أيضا مسندا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن العبد ليصلي الصلاة لا يكتب له سدسها ولا عشرها ، وإنما يكتب للعبد من صلاته ما عقل منها وهذا لو نقل عن غيره لجعل مذهبا ، فكيف لا يتمسك به ، وقال عبد الواحد بن زيد أجمعت العلماء على أنه ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل منها فجعله إجماعا وما نقل من هذا الجنس عن الفقهاء المتورعين وعن علماء الآخرة أكثر من أن يحصى .

التالي السابق


ثم قال المصنف: (ما أرى أن هذه العظمة) ، أي: التعظيم (للصلاة من حيث أعمالها الظاهرة إلا أن [ ص: 115 ] يضاف إليها مقصود المناجاة، فإذ ذاك تتقدم على الصوم والزكاة والحج وغيرها) . وفي بعض النسخ: وغيرهما، وبإسقاط ذكر الحج، وفي بعضها: وغيره، (بل) تتقدم حينئذ أيضا على (الضحايا والقرابين التي هي مجاهدة للنفس بتنقيص الملك) ، والضحايا جمع: ضحية كعشية، معروف، والقرابين جمع قربان بالضم، هو ما يتقرب به إلى الله من الذبائح، قال الله تعالى: ( لن ينال الله ) أي: لن يصل إليه، ( لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ) هو صيانة النفس عما تستحق به العقوبة، (أي: الصفة التي استولت على القلب) وغمرته (حتى حملته على امتثال الأوامر) في الذبح وغيره، وتلك الصفة هي الخوف من الله والتحرز بطاعة الله (هي المطلوبة) ، أي: تلك الصفة هي المقبولة عند الله، (فكيف الأمر في الصلاة ولا أرب) ، أي: لا حاجة (في أفعالها فهذا) الذي ذكرناه فيه (ما يدل من حيث المعنى على اشتراط حضور القلب) فيها، (فإن قلت: إن حكمت ببطلان الصلاة، وجعلت حضور القلب شرطا في صحتها) إذ لا محالة انعدام المشروط بانعدام الشرط، (خالفت إجماع الفقهاء) من المذاهب المتبوعة، (فإنهم لم يشترطوا) في صحتها (إلا حضور القلب عند التكبير) الأول، فإذا حدث شيء بعد ذلك من الغفلة الطارئة في أفعالها، فالعبد معذور والصلاة صحيحة، والفرض عنه ساقط .

قلت: أولا دعوى الإجماع ممنوعة لمخالفة سفيان وغيره في ذلك كما سيأتي، وثانيا: كلام الفقهاء على ظاهر الشرع، وكلام سفيان على باطنه، فافترقا. وثالثا: كلام الفقهاء محمول على حصول أصل الصحة، وكلام سفيان وغيره محمول على نفي الكمال. ورابعا: سلمنا أن الفقهاء صححوها بما أدى إليه علمهم بمقتضيات أقوال أئمتهم، فهلا يأخذ المصلي بالاحتياط ليذوق لذة المناجاة، فالتقوى غير الفتوى، وقد أشار إلى ذلك كله المصنف فقال: (فاعلم أنه تقدم في كتاب العلم أن الفقهاء لا يتصرفون في) ، وفي بعض النسخ: لا ينظرون إلى (الباطن ولا يشقون على القلوب) ، وفي نسخة: ولا مطلع لهم على ما في القلوب (ولا في طريق الآخرة) .

وقد أشار بقوله: ولا يشقون على القلوب إلى حديث جندب البجلي: "هلا شققت عن قلبه فنظرت أصادق هو أم كاذب". رواه العقيلي والطبراني في الكبير والضياء في المختارة، (بل يبنون ظاهر أحكام الدين على ظاهر أعمال الجوارح، وظاهر الأعمال كاف لسقوط القتل وتعزير السلطان) ، وإليه يلحظ قول الإمام أحمد في الكافر إذا صلى حكم بإسلامه مطلقا، سواء صلى جماعة أو منفردا في المسجد، أو غيره في دار الإسلام أو غيرها، فهذا فيه سعة مع ما تقدم من القول بأن التارك للصلاة مع إذعانه لوجوبها يقتل. وقال مالك والشافعي : لا يحكم بإسلامه بمجرد أن صلى، إلا أن الشافعي استثنى دار الحرب فقال: إن صلى فيها حكم بإسلامه، وقال مالك : إن كانت صلاته حال الطمأنينة حكم بإسلامه، وقال أبو حنيفة : إذا صلى جماعة أو منفردا في المسجد حكم بإسلامه، ولكن الملحظ في هذه المسألة مع الإمام أحمد وهو الفتوى بظاهر الحال، (فأما أنه هل ينفع في الآخرة) أم لا، (فليس هذا من حدود الفقه) ، ولا من حظ الفقيه، وإنما لسان حاله يقول: أنا أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر .

(على أنه لا يمكن أن يدعي الإجماع) من السادة الفقهاء في هذه المسألة، (فقد) وجد لهم مخالف ومنازع لم يسلم لهم ذلك، وهم من رؤسائهم وخواصهم، وهو أنه (نقل عن بشر بن الحارث) الشهير بالحافي، أحد الأقطاب الجامعين بين الشريعة والحقيقة، (فيما رواه عنه الإمام أبو طالب المكي) في كتابه قوت القلوب، في باب وصف صلاة الخاشعين ما نصه: وروينا عن بشر بن الحارث -رحمه الله تعالى- (عن سفيان) ابن سعيد (الثوري:) أحد الفقهاء المتبوعين، وقد تقدمت ترجمته في كتاب العلم (من لم يخشع فسدت صلاته، وروي عن الحسن:) هو البصري سيد التابعين (كل صلاة لا يحضر فيها القلب فهي إلى العقوبة أسرع) منها إلى الثواب، هكذا أورده صاحب القوت في آخر الباب الذي قبل وصف صلاة الخاشعين، وأورده المصنف أيضا فيما مضى قبل هذا، (و) قال أبو طالب: وروينا (عن معاذ بن جبل) -رضي الله عنه- قال: (من عرف من على يمينه وشماله متعمدا) أي: قصدا من نفسه لمعرفة ذلك (وهو في الصلاة، فلا [ ص: 116 ] صلاة له) ، إلا أن نص القوت: وهو في الصلاة متعمدا، وقد أسنده إسماعيل بن أبي زياد.

قلت: هو السكوني قاضي الموصل روى عن ابن جريج ونحوه، وعنه نائل بن نجيح وجماعة، وهو من رجال ابن ماجه وحده، كذا في الكاشف للذهبي، وقال صاحب القوت أيضا: ومن الإقبال على الصلاة أن لا تعرف من على يمينك ولا من على شمالك من حسن القيام بين يدي القائم على كل نفس بما كسبت، وبذلك فسروا قوله تعالى: الذين هم في صلاتهم خاشعون ، وقال سعيد بن جبير: ما عرفت من على يميني ولا من على شمالي في الصلاة منذ أربعين سنة، منذ سمعت ابن عباس يقول: الخشوع في الصلاة أن لا يعرف المصلي من عن يمينه وشماله .

(وروي أيضا مسندا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن العبد ليصلي الصلاة لا يكتب له سدسها ولا عشرها، وإنما يكتب للعبد من صلاته ما عقل منها) . قال العراقي: أخرجه أبو داود والنسائي وابن حبان من حديث عمار بن ياسر بنحوه. اهـ .

قلت: وأحمد أيضا ولفظهم جميعا: إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عشر صلاته تسعها، ثمنها سبعها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها. وفي رواية للنسائي: إن الرجل ليصلي ولعله أن لا يكون له من صلاته إلا عشرها. إلخ، وفي رواية له أيضا: "منكم من يصلي الصلاة كاملة، ومنكم من يصلي النصف والثلث والربع، إلخ، ورجاله رجال الصحيح؛ ونص القوت: وفي الخبر عن عمار بن ياسر أنه صلى مرة فخففها، فقيل له: خففت يا أبا اليقظان، فقال: هل رأيتموني نقصت من حدودها شيئا؟ قالوا: لا، قال: إني بادرت سهو الشيطان، إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: إن العبد ليصلي الصلاة لا يكتب له نصفها ولا ثلثها ولا ربعها ولا خمسها، ولا سدسها ولا عشرها، وكان يقول: إنما يكتب للعبد من صلاته ما عقل".

قلت: وقد ظهر بهذا السياق أن الحديث قد تم إلى قوله: وعشرها، وما بعده، فهو من قول عمار، وسبق للعراقي قريبا أن ابن المبارك أخرج في الزهد موقوفا على عمار: "لا يكتب للرجل من صلاته ما سها عنه". وسيأتي للمصنف ذكره ثانيا بتمامه، (وهذا لو نقل عن غيره -صلى الله عليه وسلم- لجعل مذهبا، فكيف لا يتمسك به، وقال عبد الواحد بن زيد) البصري (أجمعت) ، ونص القوت: وقد ذكر عبد الواحد بن زيد أنه إجماع العلماء، وروينا عنه أنه قال أجمع (العلماء) ، على (أنه ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل منها) ، وليس في القوت منها (فجعله) عبد الواحد (إجماعا) من العلماء، ثم ساق صاحب القوت فقال: وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: من تشعبت به الهموم لم يبال الله في أي أوديتها هلك، وقد كان ابن مسعود يقول: ركعتان من زاهد أفضل من ألف ركعة من راغب في الدنيا. وما نقل من هذا الجنس عن الفقهاء المتورعين وعن علماء الآخرة أكثر من أن يحصى، ويأتي بعض ذلك في آخر الأبواب ومما نقله شارح المنهاج عن القاضي الحسين أنه قال: إذا انتهى بالمصلي مدافعة الأخبثين إلى أن ذهب خشوعه لم تصح صلاته .




الخدمات العلمية