الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولا يغفل في طلب الصف الأول عن ثلاثة أمور ؛ أولها أنه : إذا كان يرى بقرب الخطيب منكرا يعجز عن تغييره من لبس حرير من الإمام ، أو غيره أو صلى في سلاح كثير ثقيل شاغل أو سلاح مذهب أو غير ذلك مما يجب فيه الإنكار فالتأخر له أسلم وأجمع للهم فعل ذلك جماعة من العلماء طلبا للسلامة .

قيل : لبشر بن الحرث نراك تبكر وتصلي في آخر الصفوف ، فقال : إنما يراد قرب القلوب قرب الأجساد .

وأشار به إلى أن ذلك أقرب لسلامة قلبه .

ونظر سفيان الثوري إلى شعيب بن حرب عند المنبر يستمع إلى الخطبة من أبي جعفر المنصور فلما فرغ من الصلاة قال : شغل قلبي قربك من هذا هل أمنت أن تسمع كلاما يجب عليك إنكاره ، فلا تقوم به ، ثم ذكر ما أحدثوا من لبس السواد فقال يا أبا عبد الله أليس في الخبر ادن واستمع : فقال : ويحك ذاك للخلفاء الراشدين المهديين فأما هؤلاء ، فكلما بعدت عنهم ولم تنظر إليهم كان أقرب إلى الله عز وجل وقال سعيد بن عامر صليت إلى جنب أبي الدرداء فجعل يتأخر في الصفوف حتى كنا في آخر صف ، فلما صلينا قلت له : أليس يقال : خير الصفوف أولها قال نعم : إلا أن هذه الأمة مرحومة منظور إليها من بين الأمم ، فإن الله تعالى إذا نظر إلى عبد في الصلاة غفر له ولمن وراءه من الناس فإنما تأخرت رجاء أن يغفر لي بواحد منهم ينظر الله إليه .

وروى بعض الرواة أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك فمن تأخر على هذه النية إيثارا وإظهارا لحسن الخلق فلا بأس ، وعند هذا يقال : الأعمال بالنيات .

التالي السابق


(ولا يغفل عند طلب الصف الأول عن ثلاثة أمور؛ أولها: إنه إذا كان يرى بقرب الخطيب منكرا) شرعيا (يعجز) هو (عن تغييره) ، أي: مما يجب عليه إنكاره، ويرى ما يلزم الأمر فيه، والنهي عنه (من لبس حرير) ، أو ديباج (من الإمام، أو غيره) ممن هو بجنبه (أو صلاة في سلاح ثقيل) ، وفي نسخة: كثير (شاغل) عن الحضور (أو سلاح مذهب) ، أي: معمول بالذهب نسجا، أو تصفيحا، أو تطلية (أو غير ذلك مما يجب عليه الإنكار فيه) ، ويلزمه النهي عنه (فالتأخير له) من الصف المقدم (أسلم) لعينه، وقلبه (وأجمع للهم) ، فما كان أصلح للقلب، وأجمع للهم، فهو الأفضل حينئذ، وقد (فعل ذلك جماعة من العلماء) من السلف الصالحين (قيل: لبشر بن الحارث) ، كذا في النسخ، والذي في القوت: وقيل لبشر رحمه الله، ولم ينسبه إلى أبيه، فاحتمل أن يكون بشر بن حرب، وتصحف على النساخ، وهو من مشايخ شعبة، والحمادين، وروى عن أبي هريرة وجمع، ويحتمل أن يكون غيره، وهو عندي إن شاء الله تعالى بشر بن منصور السلمي الزاهد، كما يقتضيه سياق صاحب الحلية. والله أعلم. (نراك تبكر) يوم الجمعة (وتصلي في آخر الصفوف، فقال:) يا هذا، (إنما يراد قرب القلوب لا قرب الأجساد) ، كذا في القوت (وأشار به إلى أن ذلك أسلم لقلبه) ، وأجمع لهمه (ونظر سفيان الثوري) رحمه الله (إلى شعيب بن حرب) المدائني أبي صالح المدائني نزيل مكة أحد المذكورين بالعبادة، والصلاح، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، قال أبو حاتم: وابن معين ثقة مأمون، وقال السري السقطي -رحمه الله تعالى-: أربعة كانوا في الدنيا أعملوا أنفسهم في طلب الحلال، ولم يدخلوا أجوافهم إلا الحلال: وهيب بن الورد، وشعيب بن حرب، ويوسف بن أسباط، وسليمان الخواص، وروي عن شعيب قال: أكلت في عشرة أيام أكلة، وشربت شربة. مات بمكة سنة 197. روى له البخاري، وأبو داود، والنسائي (عند المنبر) ، أي: في بغداد؛ لأنه كان نزلها (يستمع إلى الخطبة من أبي جعفر) ، ولفظ القوت: يستمع إلى خطبة أبي جعفر، وهو المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ثاني الخلفاء العباسية توفي سنة 158، ومات سفيان سنة 161 (فلما فرغ من الصلاة) .

وفي القوت: فلما جاءه بعد الصلاة (قال: شغل قلبي قربك من هذا) ، أي: (هل أمنت أن تسمع كلاما يجب عليك إنكاره، فلا تقوم به، ثم ذكر) سفيان ما (أحدثوا) ، أي: الخلفاء (من لبس السواد) يوم الجمعة، وكان سفيان ينكر على هذا لما بلغه أن أحب الثياب إلى الله البيض، ويوم الجمعة يوم الزينة، فينبغي أن يلبس فيه أحب ما يتزين فيه، والخلفاء نظروا إلى دخوله -صلى الله عليه وسلم- مكة وعليه عمامة سوداء، فتفاءلوا بذلك السواد، والثياب، وأن فيه إرهابا (فقال) شعيب (يا أبا عبد الله) -يعني به سفيان-، فإنه يكنى بذلك (أليس في الخبر: ادن فاستمع) . قال العراقي: أخرجه أبو داود من حديث سمرة: احضروا الذكر وادنوا من الإمام، وتقدم بلفظ الخبر، ودنا، واستمع، وهو عند أصحاب السنن من حديث شداد. اهـ .

قلت: وأخرج من حديث سمرة أيضا أحمد، والحاكم، والبيهقي، ولفظ البيهقي: احضروا الجمعة وادنوا من الإمام، فإن الرجل لا يزال يتباعد حتى يؤخر في الجنة، وإن دخلها، وفي رواية لأحمد: فإن الرجل ليتخلف عن الجمعة حتى إنه يتخلف عن الجنة، وإنه لمن أهلها، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، وأقره الذهبي في التلخيص، وسكت عليه أبو داود، ولكن تعقبه المنذري بأن فيه انقطاعا، وقال الذهبي في تعقبه على البيهقي: فيه الحكم بن عبد الملك قال ابن معين: ليس بشيء (فقال: ويحك ذلك للخلفاء الراشدين المهديين) الذين هم الأربعة، وعمر بن عبد العزيز (فأما هؤلاء، فكلما تباعدت عنهم)

[ ص: 266 ] بظاهرك (ولم تنظر إليهم كنت أقرب إلى الله -عز وجل-) ، ولفظ القوت: كان أقرب لك من الله تعالى .

(وقال سعيد بن عامر) : هو تابعي مجهول، روى عن ابن عمر، وذكره ابن حبان في الثقات، روى عنه ليث بن أبي سليم، وقال ابن معين: ليس به بأس، وزعم ابن خلفون أنه سعيد بن عامر بن جذيم، وتعقبه الحافظ بن حجر في تهذيب التهذيب بأن ذاك قد مات في خلافة عمر (صليت إلى جنب أبي الدرداء) -رضي الله عنه- (فجعل يتأخر في الصفوف حتى كنا في آخر الصف، فلما صلينا قلت له: أليس يقال:) ، ولفظ القوت: أليس قد قال -صلى الله عليه وسلم-: (خير الصفوف أولها) ، وشرها آخرها. اهـ .

وهذا لم يتعرض له العراقي لكون المصنف أورده بلفظ: يقال، وقد أخرج مسلم، والأربعة من حديث أبي هريرة، والطبراني في الكبير من حديث أبي أمامة، وابن عدي، والبزار من حديث فاطمة بنت قيس، والطبراني أيضا عن ابن عباس، وابن ماجه، عن أنس، والطبراني في الأوسط، عن عمر بلفظ: خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها. وأخرجه ابن أبي شيبة من حديث جابر: خير صفوف الرجال مقدمها، وشرها مؤخرها، وخير صفوف النساء مؤخرها، وشرها مقدمها (فقال: نعم، إلا أن هذه أمة مرحومة منظور إليها من بين الأمم، فإن الله تعالى إذا نظر إلى عبد في صلاة غفر لمن وراءه من الناس) . هكذا لفظ القوت، ويوجد في بعض نسخ الكتاب: غفر له، ولمن وراءه من الناس (وإنما تأخرت رجاء أن يغفر لي بواحد منهم ينظر الله إليه، وروى بعض الرواة أنه قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول ذلك) ، ولفظ القوت، وقد رفعه بعض الرواة أن أبا الدرداء سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول ذلك. قال العراقي: لم أجده بهذا اللفظ، وروى ابن عساكر في تاريخ دمشق نحوه. اهـ .

(فمن تأخر) عن الصف الأول (على هذه النية إيثارا) على نفسه لغيره من إخوانه (وإظهارا لحسن الخلق) ، ولين الجانب، وكسر النفس (فلا بأس، وعند هذا يقال: الأعمال بالنيات) هو لفظ حديث، هكذا رواه ابن حبان في صحيحه، ومثله في مسند أبي حنيفة، والمشهور: إنما الأعمال، وقد بينت طرقه في الجواهر المنيفة .




الخدمات العلمية