الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
السابع أن يضحي بكبش ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين ، وذبح بيده ، وقال : بسم الله ، والله أكبر ، هذا عني وعمن ، لم يضح من أمتي وقال صلى الله عليه وسلم : " من رأى هلال ذي الحجة ، وأراد أن يضحي فلا يأخذ من شعره ، ولا من أظفاره شيئا .

التالي السابق


( السابع أن يضحى [ ص: 405 ] بكبش) اعلم أنه اختلف في أفضل الأضاحي. فقال أبو حنيفة والشافعي وأحمد: أفضلها الإبل، ثم البقر، ثم الغنم، والضأن أفضل من المعز، وقال مالك: الأفضل الغنم، ثم الإبل، ثم البقر، وروى عنه ابن شعبان : الغنم، ثم البقر، ثم الإبل، وفحول كل جنس أفضل من إناثه .

وقال الرافعي : أفضلها البدنة، ثم البقرة، ثم الضأن، ثم المعز، وسبع من الغنم أفضل من بدنة أو بقرة على الأصح .

وقيل: البدنة أو البقرة أفضل لكثرة اللحم، والتضحية بشاة أفضل من المشاركة في بدنة؛ ( ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين، وذبح بيده، وقال: بسم الله، والله أكبر، هذا عني، وعن من لم يضح من أمتي) ، وفي بعض النسخ: ضحى بكبش .

وقال العراقي : متفق عليه دون قوله: هذا عني. إلخ من حديث أنس، وهذه الزيادة عن أبي داود والترمذي من حديث جابر، وقال الترمذي : غريب منقطع. اهـ .

قلت: والذي في المتفق عليه بزيادة أقرنين بعد أملحين، والأملح الذي فيه بياض وسواد، وقول الترمذي : إنه غريب منقطع يشير إلى أنه من رواية عمرو مولى المطلب، عن المطلب ورجل من بني سلمة، عن جابر، وفيه أنه دعا بكبش فذبحه، وقال: "عني وعن من لم يضح من أمتي". وقال الترمذي، ويقال: المطلب لم يسمع من جابر، وذكر في موضع آخر من كتابه، قال محمد : لا أعرف للمطلب سماعا من أحد من الصحابة إلا قوله: حدثني من شهد خطبة النبي صلى الله عليه وسلم، وسمعت عبد الله بن عبد الرحمن يقول: لا نعرف له سماعا من أحد من الصحابة. اهـ كلام الترمذي .

قلت: وكذا قاله أبو حاتم، وقال محمد بن سعد : لا يحتج بحديث المطلب؛ لأنه يرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا وليس له لقاء. اهـ .

ومع هذا فمولى المطلب قال فيه ابن معين : ليس بالقوي، وليس بحجة، أي: فلا يصح الاحتجاج بحديثه فافهم ذلك، وأخرج مسلم من حديث عائشة : أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بكبش أقرن يطأ في سواد، وينظر في سواد، ويبرك في سواد؛ فأتى به ليضحي به، فقال: يا عائشة هلمي المدية، ثم استحديها بحجر؛ ففعلت، ثم أخذها، وأخذ الكبش فأضجعه، ثم ذبحه، ثم قال: بسم الله، اللهم تقبل من محمد، ومن أمة محمد. ثم ضحى، وزاد النسائي : ويأكل في سواد .

وروى أصحاب السنن من حديث أبي سعيد، وصححه الترمذي، وابن حبان، وهو على شرط مسلم. قاله صاحب الاقتراح، ويروى عن عائشة وأبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين موجوأين. رواه أحمد وابن ماجه والبيهقي والحاكم من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل عنهما، هذه رواية الثوري . ورواه زهير بن محمد بن عقيل، عن أبي رافع . أخرجه الحاكم . ورواه حماد بن سلمة، عن ابن عقيل، عن عبد الرحمن بن جابر، عن أبيه. أخرجه البيهقي . ورواه أحمد والطبراني من حديث أبي الدرداء، والموجوأين المنزوعي الأنثيين، وروى أبو داود وابن ماجه والحاكم والبيهقي من حديث عبادة بن نسي، عن أبيه، عن عبادة بن الصامت : خير الضحية الكبش الأقرن .

وروى أحمد وأبو داود وابن ماجه والبيهقي، عن أبي عياش، عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبيشين أملحين، فلما وجههما قال: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض الآيتين. وأبو عياش لا يعرف .

وقول المصنف: وقال: بسم الله، والله أكبر. مأخوذ من الحديث الذي أخرجه مسلم عن عائشة، وفي بعض رواياته: فسمى وكبر. أي: قال: بسم الله، والله أكبر .

قال عياض في الإكمال: ولا خلاف أن بسم الله يجزئ منها. قال ابن حبيب: وكذا لو قال: الله أكبر فقط، ولا إله إلا الله، ولكن ما مضى عليه العمل: بسم الله، والله أكبر. وقال نحوه محمد بن الحسن .

وقوله في الحديث: اللهم تقبل إلخ أجازه أكثر العلماء؛ اقتداء بفعله صلى الله عليه وسلم، وكره أبو حنيفة أن يقول شيئا من ذلك عند الذبح والتسمية، ولا بأس به قبل ذلك، وكره مالك قولهم: اللهم منك وإليك. وقال: هذه بدعة، وأجاز ذلك الحسن وابن حبيب . قال القاضي في الإكمال: وفي قوله: اللهم تقبل.. إلخ: حجة لمالك ومن وافقه في تجويز الرجل الذبح عنه، وعن أهل بيته الضحية، وإشراكهم فيها مع استحباب مالك أن تكون واحدة عن كل واحد .

وكان الثوري وأبو حنيفة وأصحابه يكرهون ذلك، وقال الطحاوي: لا يجزئ، وزعم أن الحديث فيه منسوخ أو مخصوص. اهـ .

( وقال صلى الله عليه وسلم: "من رأى هلال ذي الحجة، وأراد أن يضحي فلا يأخذن [ ص: 406 ] من شعره، ولا من أظفاره) . قال العراقي : رواه مسلم من حديث أم سلمة. اهـ .

قلت: وفي لفظ لمسلم: "إذا دخل العشر، وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس شعره، وبشره شيئا". قال الحافظ: واستدركه الحاكم فوهم، وأعله الدارقطني بالوقف. رواه الترمذي، وصححه. اهـ .

وقد عقد عليه البيهقي بابا؛ فقال: السنة لمن أراد أن يضحي أن لا يأخذ من شعره وظفره إذا أهل ذو الحجة حتى يضحي، وأورد فيه حديث أم سلمة هذا .

وقال الرافعي في الشرح: من أراد التضحية، ودخل عليه العشر، كره أن يحلق شعره، ويقلم ظفره حتى يضحي، وفيه وجه حكاه صاحب الرقم، وهو شاذ. والحكمة فيه أن يبقي كامل الأعضاء ليعتق من النار. وقيل: للتشبه بالمحرم، وهو ضعيف؛ فإنه لا يترك الطيب، ولبس المخيط وغيرهما، وحكي وجه أن الحلق والقلم لا يكرهان، إلا إذا دخلت العشر، واشترى ضحيته أو عين شاة من مواشيه للتضحية، وحكي قول أنه لا يكره القلم. قال النووي : قال الشيخ إبراهيم المروزي في تعليقه: إجزاء سائر البدن كالشعر، والله أعلم .



( فصل)

قال ابن هبيرة في الإفصاح: اتفقوا على أنه يكره لمن أراد الأضحية أن يأخذ من شعره، وظفره من أول العشر إلى أن يضحي، وقال أبو حنيفة : لا يكره. اهـ .

قلت: والذي صرح به أصحابنا أن حديث أم سلمة محمول على القرب دون الوجوب بالإجماع، ونقل صاحب المضمرات، عن ابن المبارك في تقليم الأظافر وحلق الرأس في العشر قال: لا تؤخر السنة، وقد ورد ذلك، ولا يجب التأخير. اهـ .

وهذا يشير إلى ما ذكرناه أنه محمول على الندب إلا أن نفي الوجوب لا ينافي الاستحباب، فيكون مستحبا إلا إن استلزم الزيادة على وقت إباحة التأخير، ونهاية ما دون الأربعين، فإنه لا يباح ترك قلم الأظفار ونحوها فوق الأربعين، والأفضل في ذلك في كل أسبوع، وإلا ففي كل خمسة عشر يوما، ولا عذر في تركه وراء الأربعين، وهو الأبعد، والذي يليه الأوسط .



( تنبيه) :

نقل البيهقي بعد أن أورد حديث أم سلمة المذكور في الباب عن الشافعي رضي الله عنه أنه اختيار لا واجب، واستدل على ذلك بحديث عائشة أنها فتلت قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي آخرة فلم يحرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء أحله الله له حتى نحر الهدي. قال الشافعي: البعث بالهدي أكثر من إرادة التضحية. اهـ .

قلت: في بعض طرق هذا الحديث في الصحيح: كنت أفتل قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيبعث بهديه إلى الكعبة، فما يحرم عليه شيء مما حل للرجل من أهله حتى يرجع الناس، فثبت بهذا أن الذي لا يحسبه هو ما يحسبه المحرم من أهله لا ما سوى ذلك من حلق شعر وقص ظفر، ولا يخالف حديث أم سلمة لو كان لفظ الحديث كما أورد البيهقي أمكن العمل بالحديثين، فحديث أم سلمة يدل على أن إرادة التضحية يمنع الحلق والقلم، وحديث عائشة يدل على أن بعث الهدي غير مانع فيعمل، ولا يلزم من كون البعث غير مانع أن يكون إرادة التضحية غير مانعة، وفي التمهيد ذكر الأثرم أن أحمد كان يأخذ بحديث أم سلمة قال: ذكرت ليحيى بن سعيد الحديثين، قال: ذاك له وجه وهذا له وجه. حديث عائشة : إذا بعث بالهدي فأقام، وحديث أم سلمة إذا أراد أن يضحي بالمصر، والأشبه في الاستدلال أن يقال: كان صلى الله عليه وسلم يريد التضحية؛ لأنه لم يتركها أصلا، ومع ذلك لم يجتنب شيئا على ما في حديث عائشة، فدل أن إرادة التضحية لا تحرم ذلك فتأمل، والله أعلم .




الخدمات العلمية