الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ويضع يده اليمنى على فخذه اليمنى ويقبض أصابعه اليمنى إلا المسبحة ولا بأس بإرسال الإبهام أيضا ويشير بمسبحة يمناه وحدها عند قوله : إلا الله لا عند قوله لا إله .

التالي السابق


ثم شرع المصنف في بيان هيئة الجلوس في التشهدين، فقال: (ويضع يده اليمنى على فخذه اليمنى) ، واليسرى على فخذه اليسرى، وعند الرافعي : وأما اليد اليمنى فيضعها على طرف الركبة اليمنى، وينبغي أن ينشر أصابعها بحيث تسامت رؤوسها الركبة، ويجعلها قريبة من طرف الركبة، وهل يفرج بين أصابع اليسرى أو يضمها؟ فالأشهر أنه يفرج تفريجا مقتصدا، ألا تراهم يقولون: لا يؤمر بضم الأصابع مع نشرها إلا في السجود؟

وحكى الكرخي وغيره من أصحابنا عن الشيخ أبي حامد أنه يضم بعضها إلى بعض حتى الإبهام، ليتوجه جميعها إلى القبلة، وهكذا ذكره الروياني، وقال النووي : وهو الأصح .

ونقل القاضي أبو حامد اتفاق الأصحاب عليه، وأما اليد اليمنى فيضعها كذلك، لكن (يقبض أصابعه) ، أي: أصابع يده اليمنى، أي: لا ينشرها، بل يقبض على الخنصر والبنصر والوسطى، (إلا المسبحة) ، فإنه يرسلها، (ولا بأس بإرسال الإبهام أيضا) .

وذكر الرافعي فيه ثلاثة أقوال: أحدها يقبض الوسطى مع الخنصر والبنصر، ويرسل الإبهام مع المسبحة .

والثاني يحلق بين الإبهام والوسطى، وفي كيفية التحليق وجهان؛ أحدهما أنه يضع أنملة الوسطى بين عقدتي الإبهام، وأصحهما أنه يحلق بينهما برأسهما .

والقول الثالث وهو الأصح: أنه يقبضهما أيضا لما روي عن ابن عمر [ ص: 80 ] أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا جلس في الصلاة وضع كفه اليمنى على فخذه اليمنى، وقبض أصابعه كلها، وأشار بالأصبع التي تلي الإبهام، وإليه أشار المصنف بقوله: (ويشير بمسبحة يمناه) ، والحديث المذكور أخرجه مسلم هكذا، وللطبراني في "الأوسط": كان إذا جلس في الصلاة للتشهد نصب يديه على ركبتيه، ثم يرفع أصبعه السبابة التي تلي الإبهام، وباقي أصابعه على يمينه مقبوضة كما هي، وفي "شرح المنهاج": ويرفعها مع إمالتها قليلا، كما قاله المحاملي وغيره، ويسن أن يكون رفعها إلى القبلة ناويا بذلك التوحيد والإخلاص، ويقيمها ولا يضعها كما قاله نصر المقدسي، وخصت المسبحة بذلك؛ لأن لها اتصالا بنياط القلب، فكأنها سبب لحضور القلب .

ثم قال المصنف: (وحدها) يشير إلى ما رواه الترمذي والنسائي من حديث أبي هريرة: "أن رجلا كان يدعو بأصبعيه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحد أحد"، وقال النووي في "الروضة": وتكره الإشارة بمسبحة اليسرى، حتى لو كان أقطع اليمنى لم يشر بمسبحة اليسرى؛ لأن سنتها البسط دائما اهـ .

قلت: وفي تسميتها مسبحة نظر ظاهر؛ لأنها ليست آلة التنزيه، قاله الولي العراقي، ثم الإشارة قد اختلف فيها عندنا، فكثير من المشايخ لا يقول بها، وعزي ذلك إلى أبي حنيفة، والصحيح أنها تسن، صرح به أصحابنا، ثم قال الرافعي : وفي كيفية وضع الإبهام على هذا القول -يعني به القول الثالث الذي قال فيه: وهو الأصح- وجهان، أحدهما أنه يضعها على أصبعه الوسطى، كأنه عاقد ثلاثة وعشرين، وأظهرهما أنه يضعها تحت المسبحة كأنه عاقد ثلاثا وخمسين، وأشار بالسبابة، ثم قال ابن الصباغ وغيره: كيفما فعل من هذه الهيآت فقد أتى بالسنة، لأن الأخبار قد وردت بهما جميعا، وكأنه صلى الله عليه وسلم كان يضع مرة هكذا ومرة هكذا .

قلت: يشير بذلك إلى حديث أبي حميد: وضع كفه اليمنى على ركبته اليمنى وكفه اليسرى على ركبته اليسرى". وأشار بأصبعه، يعني السبابة، رواه أبو داود والترمذي، وحديث وائل بن حجر رفعه: "كان يحلق بين الإبهام والوسطى"، رواه ابن ماجه والبيهقي، وأصله عند أبي داود والنسائي وابن خزيمة، وحديث ابن عمر الذي تقدم ذكره، رواه مسلم والطبراني، وحديث ابن الزبير رفعه: "كان يضع إبهامه على أصبعه الوسطى، ويلقم كفه اليسرى ركبتيه"، رواه مسلم، وحديث ابن عمر أيضا رفعه: "كان إذا قعد في التشهد وضع يده اليمنى على ركبته اليمنى، وعقد ثلاثا وخمسين"، وأشار بالسبابة، وصورتها أن يجعل الإبهام معترضة تحت المسبحة. وقال النووي في "المنهاج": والأظهر ضم الإبهام إلى المسبحة كعاقد ثلاثة وخمسين. قال شارحه: بأن يضعها تحتها على طرف راحته قال: وإنما عبر الفقهاء بهذا دون غيره من الروايات تبعا لرواية ابن عمر ، واعترض في "المجموع" قولهم: كعاقد ثلاثة وخمسين، فإن شرطه عند أهل الحساب أن يضع الخنصر على البنصر، وليس مرادا ههنا، بل مرادهم أن يضعها على الراحة كالبنصر والوسطى، وهي التي يسمونها تسعة وخمسين، ولم ينطقوا بها تبعا للخبر، وأجاب في "الإقليد"، بأن عده وضع البنصر على الخنصر في عقد ثلاثة وخمسين هي طريقة أقباط مصر، ولم يعتبر غيرهم فيها ذلك، وقال في "الكفاية": عدم اشتراط ذلك طريقة المتقدمين اهـ .

وقال ابن الفركاح: إن عدم الاشتراط طريقة لبعض الحساب، وعليه تكون تسعة وخمسون هيئة أخرى، أو تكون الهيئة الواحدة مشتركة بين العددين، فيحتاج إلى قرينة، وقال ابن الرفعة : صححوا الأول؛ لأن روايته أفقه، وعلى الأقوال يستحب أن يرفع مسبحته في كلمة الشهادة (عند قوله: إلا الله) ، وفي شرح الرافعي : إذا بلغ همزة "إلا الله"، (لا عند قوله لا إله) .

قلت: عند أصحابنا يرفعها عند النفي ويضعها عند الإثبات، أي: ليكون الرفع إشارة إلى نفي الألوهية عما سوى الله تعالى، والوضع إلى إثباتها لله تعالى وحده، ونقل الرافعي عن أبي القاسم الكرخي أنه حكى وجهين في كيفية الإشارة بالمسبحة، أصحهما أنه يشير بها في جميع التشهد، وهل يحركها عند الرفع؟ فيه وجهان؛ أحدهما نعم، لما روي عن وائل بن حجر، قال: "رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم أصبعه، فرأيته [ ص: 81 ] يحركها يدعو بها".

قلت: رواه ابن خزيمة والبيهقي بهذا اللفظ، وأصحهما لا، لما روي عن ابن الزبير، رفعه: كان يشير بالسبابة، ولا يحركها، ولا يجاوز بصره إشارته".

قلت: رواه أحمد وأبو داود والنسائي، وابن حبان في صحيحه، وأصله في مسلم دون قوله "ولا يجاوز.. إلخ" .

قلت: وعدم التحريك هو المذهب، ولذا قال في "المنهاج": ولا يحركها، وقد جمع البيهقي بين الحديثين، فقال: يحتمل أن يكون مراده بالتحريك الإشارة لا تكرير تحريكها، وقال النووي في "الروضة": وإذا قلنا بالأصح أنه لا يحركها فحركها، لم تبطل صلاته على الصحيح .




الخدمات العلمية