الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
النوع الثالث أن يقرر عندهم أن تعجيل العقوبة في الدنيا متوقع على الذنوب ، وأن كل ما يصيب العبد من المصائب فهو بسبب جناياته فرب عبد يتساهل في أمر الآخرة ويخاف من عقوبة الله في الدنيا أكثر لفرط جهله فينبغي أن يخوف به ، فإن الذنوب كلها يتعجل في الدنيا شؤمها في غالب الأمر ، كما حكي في قصة داود وسليمان عليهما السلام حتى إنه قد يضيق على العبد رزقه بسبب ذنوبه ، وقد تسقط منزلته من القلوب ، ويستولي عليه أعداؤه ; قال صلى الله عليه وسلم : إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه وقال ابن مسعود : إني لأحسب أن العبد ينسى العلم بالذنب يصيبه وهو معنى قوله عليه السلام : من قارف ذنبا فارقه عقل لا يعود إليه أبدا وقال بعض السلف : ليست اللعنة سوادا في الوجه ، ونقصا في المال ، إنما اللعنة أن لا تخرج من ذنب إلا وقعت في مثله أو شر منه ، وهو كما قال ; لأن اللعنة هي الطرد والإبعاد ، فإذا لم يوفق للخير ، ويسر له الشر فقد أبعد والحرمان عن رزق التوفيق أعظم حرمان وكل ذنب فإنه يدعو إلى ذنب آخر ويتضاعف فيحرم العبد به عن رزقه النافع من مجالسة العلماء المنكرين للذنوب ، ومن مجالسة الصالحين ، بل يمقته الله تعالى ليمقته الصالحون وحكي عن بعض العارفين أنه كان يمشي في الوحل جامعا ثيابه محترزا عن زلقة رجله حتى زلقت رجله ، وسقط فقام ، وهو يمشي في وسط الوحل ويبكي ويقول هذا مثل العبد لا يزال يتوقى الذنوب ، ويجانبها حتى يقع في ذنب وذنبين فعندها يخوض في الذنوب خوضا وهو إشارة إلى أن الذنب تتعجل عقوبته بالانجرار إلى ذنب آخر ; ولذلك قال الفضيل ما أنكرت من تغير الزمان ، وجفاء الإخوان فذنوبك ورثتك ذلك وقال بعضهم : إني لأعرف عقوبة ذنبي في سوء خلق حماري وقال آخر : أعرف العقوبة حتى في فأر بيتي وقال بعض صوفية الشام نظرت إلى غلام نصراني حسن الوجه فوقفت أنظر إليه فمر بي ابن الجلاء الدمشقي فأخذ بيدي فاستحييت منه ، فقلت : يا أبا عبد الله ، سبحان الله تعجبت من هذه الصورة الحسنة ، وهذه الصنعة المحكمة ، كيف خلقت للنار فغمز يدي ، وقال : لتجدن عقوبتها بعد حين قال : فعوقبت بها بعد ثلاثين سنة وقال أبو سليمان الداراني الاحتلام عقوبة وقال لا يفوت أحدا صلاة جماعة إلا بذنب يذنبه وفي الخبر ما أنكرتم من زمانكم فبما غيرتم من أعمالكم وفي الخبر يقول الله تعالى : إن أدنى ما أصنع بالعبد إذا آثر شهوته على طاعتي أن أحرمه لذيذ مناجاتي وحكي عن أبي عمرو بن علوان في قصة يطول ذكرها ، قال فيها : كنت قائما ذات يوم أصلي فخار قلبي هوى طاولته بفكرتي حتى تولد منه شهوة الرجال فوقعت إلى الأرض ، واسود جسدي كله ، فاستترت في البيت فلم أخرج ثلاثة أيام وكنت أعالج غسله في الحمام بالصابون فلا يزداد إلا سوادا حتى انكشف بعد ثلاث فلقيت الجنيد وكان قد وجه إلي فأشخصني من الرقة فلما أتيته قال لي أما استحييت من الله تعالى كنت قائما بين يديه ، فساررت نفسك بشهوة حتى استولت عليك برقة ، وأخرجتك من بين يدي الله تعالى ، فلولا أني دعوت الله لك ، وتبت إليه عنك للقيت الله بذلك اللون ، قال : فعجبت كيف علم بذلك ، وهو ببغداد ، وأنا بالرقة .

التالي السابق


(النوع الثالث أن يقرر عندهم) ويودع في أذهانهم (أن تعجيل العقوبة في الدنيا متوقع على الذنوب في الدنيا، وأن كل ما يصيب العبد من المصائب) ، والبلايا (فهو بسبب جنايته) التي صدرت منه (فرب عبد يتساهل في أمر الآخرة) ويستخفه (ويخاف من عقوبة الله في الدنيا أكثر لفرط جهله فينبغي أن يخوف به، فإن الذنوب كلها يتعجل في الدنيا شؤمها في غالب الأمر، كما حكي في قصة داود وسليمان عليهما السلام) مما تقدم ذكر بعضها (حتى إنه قد يضيق على العبد رزقه بسبب ذنوبه، وقد تسقط منزلته من القلوب، ويستولي عليه أعداؤه; قال صلى الله عليه وسلم: إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه) كذا في القوت رواه ابن ماجه، والحاكم، واللفظ له، وصحح إسناده، إلا أنه قال: الرجل، بدل العبد، من حديث ثوبان. انتهى .

قلت: وفيه زيادة: ولا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر، وقد رواه بهذه الزيادة أيضا أحمد، والنسائي، وأبو يعلى، وابن معين، والروياني، وابن حبان، والطبراني، والضياء.

وأقر الذهبي تصحيح الحاكم. وقال المنذري: رجال النسائي رجال الصحيح، قال المظهر: اللام في الرجل للعهد والمعهود بعض الجنس من المسلمين فلا يقدح فيه ما يرى من أن الكفرة والفسقة أعظم مالا وصحة من العلماء; لأن الكلام في مسلم: يريد الله رفع درجته في الآخرة فيصيبه من ذنوبه في الدنيا، وبه عرف أنه لا تناقض بينه وبين خبر: إن الرزق لا تنقصه المعصية; ولهذا وجه بعضهم الخبر بأن لله لطائف يحدثها للمؤمن ليصرف وجهه إليه عن اتباع شهوته والانهماك في نهمته، فإذا اشتغل بذلك عن ربه رزقه، فيكون زجرا له إليه عما أقبل عليه، وتأديبا له; لأن لا يعود لمثله .

(وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إني لأحسب أن العبد ينسى العلم بذنب يصيبه) ، ولفظ القوت وكان ابن مسعود يقول فساقه إلا أنه قال: بالذنب يصيبه، (وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: من قارف ذنبا فارقه عقل لا يعود إليه أبدا) تقدم الكلام عليه، (وقال بعض السلف: ليست اللعنة سوادا في الوجه، ونقصا في المال، إنما اللعنة أن لا تخرج من ذنب إلا وقعت في مثله أو شر منه، وهو كما قال; لأن اللعنة هي الطرد والإبعاد، فإذا لم يوفق للخير، ويسر له الشر فقد أبعد) نقله صاحب القوت إلا أنه قال: وذلك لأن اللعنة هي الطرد والبعد، فإذا طرد من الطاعات فلم يتيسر له، وبعد عن القربات فلم يوفق لها فقد لعن، (والحرمان عن رزق التوفيق أعظم حرمان) ، ولفظ القوت وقيل: حرمان الرزق من الآخرة من قلة التوفيق [ ص: 618 ] للأعمال الصالحات، (وكل ذنب فإنه يدعو إلى ذنب آخر) ، ويجره إليه، (ويتضاعف فيحرم العبد به عن رزقه النافع من مجالسة العلماء المنكرين للذنوب، ومن مجالسة الصالحين، بل يمقته الله فيمقته الصالحون) .

وقال صاحب القوت: وفي الخبر الذي رويناه: إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه، قيل: يحرم الحلال، ولا يوفق له بوقوعه في المعصية، وقيل: يحرم مجالسة العلماء، ولا ينشرح قلبه لمحبة الخير وأهله، وقيل: يمقته الصالحون وأهل العلم بالله تعالى فيعرضوا عنه، وقيل: يحرم العلم الذي لا صلاح للعمل إلا به; لأجل إقامته على الجهل، ولا تكشف له الشبهات بإقامته على الشبهات، بل تتلبس عليه فيحار فيها بغير عصمة من الله عز وجل، ولا يوفق للأصوب والأفضل، (وحكي عن بعض العارفين أنه كان يمشي في الوحل جامعا ثيابه محترزا عن زلقة رجله حتى زلقت رجله، وسقط فقام، وهو يمشي في وسط الوحل ويبكي ويقول) ولفظ القوت: وحدثت عن بعض أهل الاعتبار أنه كان يمشي في الوحل وكان يتقي وشيح ثيابه عن ساقيه، ويمشي في جوانب الطريق إلى أن زلقت رجله في الوحل فأدخل في وسط الوحل، وجعل يمشي في المحجة قال: فبكى، قيل له: ما يبكيك؟ فقال: (هذا مثل العبد لا يزال يتقي الذنوب، ويجانبها حتى يقع في ذنب) منها، (وذنبين فعندها يخوض في الذنوب خوضا) إلى هنا لفظ القوت (وهو إشارة إلى أن الذنب تتعجل عقوبته بالانجرار إلى ذنب آخر; ولذلك قال الفضيل) بن عياض رحمه الله تعالى (ما أنكرت من تغير الزمان، وجفاء الإخوان فذنوبك أورثتك ذلك) نقله صاحب القوت، وهو في الحلية لأبي نعيم، (وقال بعضهم: إني لأعرف عقوبة ذنبي في سوء خلق حماري) نقله صاحب القوت، وفي معنى الحمار الفرس والبغلة، (وقال آخر: أعرف العقوبة حتى في فأر بيتي) نقله صاحب القوت قال: ويقال: نسيان القرآن بعد حفظه من أشد العقوبات، والمنع من تلاوته وضيق الصدر بقرائته، والاشتغال عنه بضده عقوبة الإصرار، (وقال بعض الصوفية بالشام نظرت) ذات يوم (إلى غلام نصراني حسن الوجه فوقفت أنظر إليه فمر بي ابن الجلاء الدمشقي) هو عبد الله بن أحمد بن يحيى الجلاء بغدادي الأصل أقام بالشام صحب أبا تراب النخشبي وذا النون المصري وأبا عبيد البسري، وأبا يحيى الجلاء، ترجم له القشيري في الرسالة (فأخذ بيدي فاستحييت منه، فقلت: يا أبا عبد الله، سبحان الله تعجبت من هذه الصورة الحسنة، وهذه الصنعة المحكمة، كيف خلقت للنار فغمز يدي، وقال: لتجدن عقوبتها) أي: النظرة (بعد حين) أي: بعد مدة من الزمان (قال: فعوقبت بها بعد ثلاثين سنة) هكذا هو في القوت قيل: هذه العقوبة أنه نسي القرآن بعد حفظه .

وأورد القشيري في الرسالة هذه القصة لابن الجلاء في ترجمته من الرسالة ما لفظه، وقال ابن الجلاء: كنت أمشي مع أستاذي، فرأيت حدثا جميلا، فقلت: يا أستاذي ترى يعذب الله هذه الصورة؟ فقال: سترى غبه فنسيت القرآن بعده لعشرين سنة. انتهى .

ويحتمل تعدد الواقعة، (وقال أبو سليمان الداراني) رحمه الله تعالى (الاحتلام عقوبة) نقله صاحب القوت، وقد تقدم للمصنف في كتاب النكاح، (وقال) أبو سليمان أيضا: (لا يفوت أحدا صلاة جماعة إلا بذنب يذنبه) نقله صاحب القوت، ولفظه: لا يفوت أحدا صلاة في جماعة إلا بذنب، فدقائق العقوبات على قدر جلائل الدرجات، قال: وحدثني بعض الأشياخ، عن منصور الفقيه قال: رأيت أبا عبد الله السكري في النوم، فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: أوقفني في العرق حتى سقط لحم خدي، قلت: ولم ذلك؟ قال: نظرت إلى غلام مقبلا ومدبرا، والعقوبة موضوعها الشدة والمشقة، فعقوبة كل أحد من حيث تشتد عليه، فأهل الدنيا يعاقبون بحرمان رزق الدنيا من تعذر الاكتساب وإتلاف الأموال، وأهل الآخرة يعاقبون بحرمان رزق الآخرة من قلة التوفيق للأعمال الصالحة وتعذر فتوح العلوم الصادقة، ذلك تقدير العزيز العليم، (وفي الخبر ما أنكرتم من زمانكم فبما غيرتم من أعمالكم) قال العراقي: رواه البيهقي في الرقاق من حديث أبي الدرداء، وقال: غريب تفرد به، هكذا العقيلي، وهو عبد الله بن هانئ، قلت: هو متهم بالكذب، قال ابن أبي حاتم: روى عن أبيه أحاديث بواطيل. انتهى .

قلت: وكذلك رواه الطبراني في الكبير، وابن عساكر، وتمامه: فإن يك خيرا فواها واها، وإن يك شرا فواها واها، وقال ابن [ ص: 619 ] عساكر: حديث غريب، قال الذهبي في الديوان: عبد الله بن هانئ بن أبي عبلة عن أبيه اتهم بالكذب، وتركه أبو حاتم ولم يسمع منه، وأما أبو الزعراء عبد الله بن هانئ الراوي عن أبي مسعود فهو من رجال الترمذي والنسائي، قال: البخاري لا يتابع عليه، ووثقه العجلي، (و) قال جاء (في الخبر يقول الله تعالى: إن أدنى ما أصنع بالعبد إذا آثر شهوته على طاعتي أن أحرمه لذيذ مناجاتي) وفي نسخة: لذة مناجاتي، ولفظ القوت: حلاوة مناجاتي، وقال العراقي: غريب لم أجده، (وحكي عن أبي عمرو بن علوان في قصة يطول ذكرها، قال فيها: كنت) لفظ القوت: وقد حدثني بعض هذه الطائفة عن أبي عمرو بن علوان في قصة تطول، قال فيها: وكنت (قائما ذات يوم أصلي فخامر قلبي) أي: خالطه (هوى) أي: ميل نفساني (طاولته بفكرتي حتى تولد منه شهوة الرجل) وفي نسخة: الرجال قال: (فوقعت إلى الأرض، واسود جسدي كله، فاستترت في البيت فلم أخرج ثلاثة أيام وكنت) في أثناء هذه الأيام (أعالج غسله في الحمام بالصابون) والألوان الغاسلة (فلا يزداد إلا سوادا حتى انكشفت بعد ثلاث) لفظ القوت: ثم انكشفت عني بعد ثلاث، فرجعت إلى لون البياض قال: (فلقيت) أبا القاسم (الجنيد) رضي الله عنه (وكان قد وجه إلى فأشخصني من الرقة) أي: طلب شخوصي منها، والرقة بلد بالعراق (فلما أتيته قال) في أول مواجهتي له (أما استحييت من الله تعالى كنت قائما بين يديه، فساررت نفسك بشهوة حتى استولت عليك برقة، وأخرجتك من بين يدي الله تعالى، فلولا أني دعوت الله لك، وتبت إليه عنك للقيت الله بذلك اللون، قال: فعجبت كيف علم بذلك، وهو ببغداد، وأنا بالرقة) وبينهما مسافة ولم يطلع على ذلك إلا الله تعالى .




الخدمات العلمية