الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والخلق إنما نسوا أنفسهم ومآبهم ، ومنقلبهم بالدنيا لهاتين العلاقتين ; علاقة القلب بالحب ، وعلاقة البدن بالشغل ، ولو عرف نفسه ، وعرف ربه ، وعرف حكمة الدنيا ، وسرها علم أن هذه الأعيان التي سميناها دنيا لم تخلق إلا لعلف الدابة التي يسير بها إلى الله تعالى وأعني ، بالدابة البدن ، فإنه لا يبقى إلا بمطعم ، ومشرب ، وملبس ، ومسكن كما لا يبقى الجمل في طريق الحج إلا بعلف وماء وجلال .

ومثال العبد في الدنيا في نسيانه نفسه ، ومقصده مثال الحاج الذي يقف في منازل الطريق ، ولا يزال يعلف الناقة ويتعهدها وينظفها ، ويكسوها ألوان الثياب ويحمل إليها أنواع الحشيش ، ويبرد لها الماء بالثلج حتى تفوته القافلة ، وهو غافل عن الحج ، وعن مرور القافلة ، وعن بقائه في البادية فريسة للسباع هو وناقته والحاج البصير لا يهمه من أمر الجمل إلا القدر الذي يقوى به على المشي فيتعهده وقلبه إلى الكعبة والحج ، وإنما يلتفت إلى الناقة بقدر الضرورة فكذلك البصير في السفر إلى الآخرة لا يشتغل بتعهد البدن إلا بالضرورة كما لا يدخل بيت الماء إلا لضرورة ، ولا فرق بين إدخال الطعام في البطن ، وبين إخراجه من البطن في أن كل واحد منهما ضرورة البدن ، ومن همته ما يدخل بطنه فقيمته ما يخرج منها وأكثر ما شغل عن الله تعالى هو البطن فإن القوت ضروري وأمر المسكن والملبس أهون ولو عرفوا سبب الحاجة إلى هذه الأمور واقتصروا عليه لم تستغرقهم أشغال الدنيا وإنما استغرقتهم لجهلهم بالدنيا ، وحكمتها ، وحظوظهم منها ، ولكنهم جهلوا وغفلوا ، وتتابعت أشغال الدنيا عليهم ، واتصل بعضها ببعض وتداعت ، إلى غير نهاية محدودة فتاهوا في كثرة الأشغال ، ونسوا مقاصدها .

، ونحن نذكر تفاصيل أشغال الدنيا وكيفية ، حدوث الحاجة إليها ، وكيفية غلط الناس في مقاصدها حتى تتضح لك أشغال الدنيا كيف صرفت الخلق عن الله تعالى ؟ وكيف أنستهم عاقبة أمورهم ? فنقول : الأشغال الدنيوية هي الحرف ، والصناعات ، والأعمال التي ترى الخلق منكبين عليها وسبب كثرة الأشغال هو أن الإنسان مضطر إلى ثلاث : القوت ، والمسكن ، والملبس ، فالقوت للغذاء والبقاء والملبس لدفع الحر ، والبرد ، والمسكن لدفع الحر ، والبرد ، ولدفع أسباب الهلاك عن الأهل والمال ، ولم يخلق الله القوت والمسكن والملبس مصلحا بحيث يستغنى عن صنعة الإنسان فيه .

نعم ، خلق ذلك للبهائم ، فإن النبات يغذي الحيوان من غير طبخ ، والحر والبرد لا يؤثر في بدنه فيستغني عن البناء ويقنع بالصحراء ولباسها شعورها وجلودها ، فتستغني عن اللباس ، والإنسان ليس كذلك ، فحدثت الحاجة لذلك إلى خمس صناعات هي أصول الصناعات ، وأوائل الأشغال الدنيوية ، وهي : الفلاحة ، والرعاية ، والاقتناص ، والحياكة ، والبناء أما البناء فللمسكن والحياكة وما يكتنفها من أمر الغزل ، والخياطة ، فللملبس والفلاحة للمطعم ، والرعاية للمواشي والخيل أيضا للمطعم ، والمركب ، والاقتناص نعني به تحصيل ما خلقه الله من صيد ، أو معدن ، أو حشيش ، أو حطب فالفلاح يحصل النباتات ، والراعي يحفظ الحيوانات ، ويستنتجها ، والمقتنص يحصل ما نبت ونتج بنفسه من غير صنع آدمي ، وكذلك يأخذ من معادن الأرض ما خلق فيها من غير صنعة آدمي ، ونعني بالاقتناص ذلك ويدخل تحته صناعات ، وأشغال عدة ثم هذه الصناعات تفتقر إلى أدوات وآلات كالحياكة ، والفلاحة ، والبناء ، والاقتناص والآلات إنما تؤخذ إما من النبات ، وهو الأخشاب أو من المعادن كالحديد ، والرصاص ، وغيرهما ، أو من جلود الحيوانات ، فحدثت الحاجة إلى ثلاثة أنواع أخر من الصناعات : النجارة ، والحدادة والخز وهؤلاء هم عمال الآلات ونعني بالنجار كل عامل في الخشب كيفما كان ، وبالحداد كل عامل في الحديد ، وجواهر المعادن ، حتى النحاس والإبري ، وغيرهما وغرضنا ذكر الأجناس فأما ، آحاد الحرف فكثيرة وأما الخراز فنعني به كل عامل في جلود الحيوانات وأجزائها فهذه أمهات الصناعات .

التالي السابق


(والخلق إنما نسوا أنفسهم، وما بهم، ومنقلبهم بالدنيا لهاتين العلاقتين; علاقة القلب بالحب، وعلاقة البدن بالشغل، ولو عرف نفسه، وعرف ربه، وعرف حكمة الدنيا، وسرها) ، وأنها لماذا خلقت؟ ولماذا خلق هو؟ (علم أن هذه الأعيان التي سميناها دنيا لم تخلق إلا لعلف الدابة التي يسير بها إلى لله تعالى، وأعني بالدابة البدن، فإنه) ، أي: البدن (لا يبقى) ، أي: لا يوصف بالبقاء والمتعة (إلا بمطعم، ومشرب، وملبس، ومسكن) ، وهي ضرورات في حفظ البدن (كما لا يبقى الجمل في طريق الحج إلا بعلف وماء وجلال) جمع جل بالضم وهو ما يقي ظهره لئلا ينقبه الرحل (ومثال العبد في الدنيا في نسيانه نفسه، ومقصده) الذي هو متوجه إليه (مثال الحاج الذي يقف في منازل الطريق، ولا يزال يعلف الناقة ويتعهدها) بالخدمة (وينظفها، ويكسوها ألوان الثياب) المزخرفة [ ص: 129 ] (ويحمل إليها الحشيش، ويبرد لها الماء بالثلج) لم يزل مشغولا بذلك (حتى تفوته القافلة، وهو غافل عن الحج، وعن مرور القافلة، وعن بقائه في البادية فريسة للسباع) تفرسه (هو وناقته) ، أو نهبة للعربان يستفردونه فيأخذونه مع ناقته كالأسير إن لم يقتلوه (والحاج البصير العاقل لا يهمه من أمر الجمل إلا القدر الذي يقوى به على المشي فيتعهده) ، ويصلح شأنه (وقلبه إلى الكعبة والحج، وإنما يلتفت إلى الناقة بقدر الضرورة) ، والحاجة (وكذلك البصير في سفر الآخرة لا يشتغل بتعهد البدن إلا بالضرورة) ، بل يتناول ما يتناوله تناول مفطر عالم بقذارة مآله (كما لا يدخل بيت الماء إلا بالضرورة، ولا فرق بين إدخال الطعام في البطن، وبين إخراجه من البطن في أن كل واحد منهما ضرورة البدن، ومن همته ما يدخل بطنه) ، أي: من شغل همته في إصلاح ما يدخل بطنه (فقيمته ما يخرج من بطنه) فاخسس بهذه اللقمة التي قيمتها ذلك، فحقه أن يعلم أن نسبة الثمار والفواكه نسبة الجعل إلى الروث، فلو نطق الشجر لقال لك: تأكل فضالتي كما يأكل الجعل فضالتك، والخنزير إذا استطاب لفاظة الإنسان فما هو إلا كاستطابتها لفاظة الشجر، وبهذا يعلم أن شرف المطعم والمشرب بالإضافة لا بإطلاق، (وأكثر ما شغل الناس عن الله تعالى هو البطن) ; ولذا قيل: إن البطن عدو الإنسان (فإن القوت أمر ضروري) ، فإنه لا قوام له في الدنيا إلا به (وأمر المسكن والملبس أهون) من أمر القوت (ولو عرفوا سبب الحاجة إلى هذه الأمور واقتصروا عليه لم تستغرقهم أشغال الدنيا) ، أي: لم تستول عليهم (وإنما استغرقتهم لجهلهم بالدنيا، وحكمتها، وحظوظهم منها، ولكنهم جهلوا وغفلوا، وتتابعت أشغال الدنيا عليهم، واتصل بعضها ببعض، فتداعت إلى غير نهاية محدودة فتاهوا في كثرة الأشغال، ونسوا مقصودها، ونحن نذكر) الآن (تفاصيل أشغال الدنيا، وكيفيه حدوث الحاجة لها، وكيفية غلط الناس في مقاصدها حتى يتضح لك أن أشغال الدنيا كيف صرفت الخلق عن الله؟ وكيف أنستهم أمورهم؟ فنقول: الأشغال الدنيوية هي الحرف، والصناعات، والأعمال التي نرى الخلق منكبين عليها) يقال: أكب على كذا إذا لازم عليه (وسبب كثرة الأشغال هو أن الإنسان مضطر إلى ثلاث: القوت، والمسكن، والملبس، فالقوت للغذاء والبقاء) ، أي: بقاء البدن على اعتداله (والملبس لدفع الحر، والبرد، والمسكن لدفع الحر، والبرد، ولدفع أسباب الهلاك عن الأهل والمال، ولم يخلق الله القوت والملبس والمسكن مصلحا بحيث يستغنى عن صنعة الإنسان فيه .

نعم، خلق ذلك للبهائم، فإن النبات يغذي الحيوان من غير طبخ، والحر والبرد لا يؤثر) كل منهما (في بدنه فيستغني عن البناء) ، أي: المسكن (ويقنع بالصحراء) صيفا، وشتاء (ولباسها شعرها وجلودها، فتستغني عن اللباس، والإنسان ليس كذلك، فحدثت الحاجة لذلك إلى خمس صناعات) لا قوام للعالم دونها (هي أصول الصناعات، وأوائل الأشغال الدنيوية، وهي: الفلاحة، والرعاية، والاقتناص، والحياكة، والبناء) .

وعد أبو القاسم الراغب في الذريعة الأصول أربعة، فذكر الفلاحة، والحياكة، والبناء، وزاد السياسة، وجعل الرعاية من المرشحات، ولم يذكر الاقتناص .

(أما البناء فللمسكن) ، أي: لأجل تهيئة الموضع الذي يسكن فيه، فمحترفه يقال له: البناء (والحياكة وما يكتنفها من أمر الغزل، والخياطة، فللملبس) ، ومحترفها يقال له: الحائك، والنساج .

(والفلاحة، فللمطعم) ، ومحترفها يقال له: الفلاح، والزراع (والرعاية للمواشي) يتعهدها للإطعام، والاستقاء، وغيرهما، [ ص: 130 ] ومحترفها يقال له: الراعي، وراعي الجواميس بالخصوص يقال له: الجميسي .

(والخيل أيضا للمطعم، والمركب، والاقتناص نعني به تحصيل ما خلقه الله من صيد، أو معدن، أو حشيش، أو حطب) ، وهذا اصطلاح خاص، وإلا فالمقتنص في العرف هو الذي يصطاد حيوانات البر كالقنيص، والقانص كما أن الصائد والصياد له، والذي يصطاد الطيور وحيوانات البحر، ولمن يستخرج معادن البحر يقال له: الغطاس، ومعادن البر يقال له: النابل، ولمن يقطع الحشيش يقال له: الحشاش، والمتطلب الحطب من البراري والفيافي يقال له: الحطاب، فهذه اصطلاحات عرفية، والمصنف جعل الاقتناص لفظا شاملا للكل (فالفلاح يحصل النبات، والراعي يحفظ الحيوانات، ويستنتجها، والمقتنص يحصل ما نبت) في الأرض (ونتج بنفسه من غير صنع آدمي، وكذلك يأخذ من معادن الأرض ما خلق فيها من غير صنع آدمي، ونعني بالاقتناص ذلك) ، ولا مشاحة في الاصطلاح (وتدخل تحته صناعات، وأشغال عدة) هي كالخادمة لها .

(ثم هذه الصناعات تفتقر إلى أدوات وآلات كالحياكة، والفلاحة، والبناء، والاقتناص) ، فإن كلا منها يحتاج إلى ما ذكر (والآلات إنما تؤخذ إما من النبات، وهو الأخشاب أو من المعادن كالحديد، والرصاص، وغيرهما، أو من جلود الحيوانات، فحدثت الحاجة إلى ثلاثة أنواع أخر من الصناعات: النجارة، والحدادة) بكسرهما، والخرز، وهؤلاء هم عمال الآلات (ونعني بالنجار كل عامل في الخشب كيفما كان، وبالحداد كل عامل في الحديد، وجواهر المعادن، حتى النحاس، والإبري، وغيرهما) الذي يشتغل الإبر للخياطة، وغيرها، وهذا أيضا اصطلاح خاص; إذ المعروف أن الحداد كل عامل في جنس الحديد خاصة، وأما عامل بقية المعادن، فلكل اسم خاص، ففي النحاس نحاس، وفي الرصاص رصاص، وفي القلعي سمكري، وقس على ذلك صناعات مختلفة لا يدخل بعضها على بعض .

(وغرضنا ذكر الأجناس، وأما آحاد الحرف فكثيرة) لا تحصر .

(وأما الخراز فنعني به كل عامل في جلود الحيوانات وأجزائها) ، وتحته النعال، والقراب، والدباغ، والسروجي، وغيرهم (فهذه أمهات الصناعات) المحتاج إليها، وما عداها فإنها مرشحة لكل واحد، وخادمة له; كالحدادة للزراعة، وكالقصارة، والخياطة للحياكة، ومثل ذلك، بالإضافة إلى العالم مثل أجزاء الشخص إلى الشخص سواء، فإنها على ثلاثة أضرب، إما الأصول وكالقلب، والكبد، والدماغ، وإما مرشحة لتلك الأصول، وخادمة كالمعدة، والعروق، والشرايين، وإما مكملة له مربية كاليد والحاجب .

وأما بيان شرف هذه الصناعات مع بعضها، فقد تقدمت الإشارة إليه في كتاب العلم .




الخدمات العلمية