الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الطبقة الثانية تائب سلك طريق الاستقامة في أمهات الطاعات وترك كبائر الفواحش كلها إلا أنه ليس ينفك عن ذنوب تعتريه لا عن عمد وتجريد قصد ولكن يبتلى بها في مجاري أحواله من غير أن يقدم عزما على الإقدام عليها ولكنه كلما أقدم عليها لام نفسه وندم وتأسف وجدد عزمه على أن يتشمر للاحتراز من أسبابها التي تعرضه لها وهذه ، النفس جديرة بأن تكون هي النفس اللوامة إذ تلوم صاحبها على ما تستهدف له من الأحوال الذميمة لا عن تصميم عزم وتخمين رأي وقصد وهذه أيضا رتبة عالية ، وإن كانت نازلة عن الطبقة الأولى وهي أغلب أحوال التائبين لأن الشر معجون بطينة الآدمي ، قلما ينفك عنه وإنما غاية سعيه أن يغلب خيره شره حتى يثقل ميزانه فترجح ، كفة الحسنات ; فأما أن تخلو بالكلية كفة السيئات فذلك في غاية البعد ، وهؤلاء لهم حسن الوعد من الله تعالى ; إذ قال تعالى : الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة ، فكل إلمام يقع بصغيرة لا عن توطين نفسه عليه فهو جدير بأن يكون من اللمم المعفو عنه ، قال تعالى : والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم فأثنى عليهم مع ظلمهم لأنفسهم لتندمهم ، ولومهم أنفسهم عليه ، وإلى مثل هذه الرتبة الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه علي كرم الله وجهه : « خياركم كل مفتن تواب » وفي خبر آخر : « المؤمن كالسنبلة يفيء أحيانا ، ويميل أحيانا وفي الخبر : لا بد للمؤمن من ذنب يأتيه الفينة بعد الفينة ، أي : الحين بعد الحين فكل ذلك أدلة قاطعة على أن هذا القدر لا ينفض التوبة ، ولا يلحق صاحبها بدرجة المصرين ومن يؤيس مثل هذا عن درجة التائبين كالطبيب الذي يؤيس الصحيح عن دوام الصحة بما يتناوله من الفواكه ، والأطعمة الحارة مرة بعد أخرى من غير مداومة واستمرار وكالفقيه الذي يؤيس المتفقه عن نيل درجة الفقهاء بفتوره عن التكرار والتعليق في أوقات نادرة غير متطاولة ، ولا كثيرة وذلك يدل على نقصان الطبيب والفقيه بل الفقيه في الدين هو الذي لا يؤيس الخلق عن درجات السعادات بما يتفق لهم من الفترات ومقارفة السيئات المختطفات ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : كل بني آدم خطاءون وخير الخطائين التوابون المستغفرون .

وقال أيضا: المؤمن واه راقع، فخيرهم من مات على رقعة أي: واه بالذنوب راقع بالتوبة والندم وقال تعالى أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرءون بالحسنة السيئة فما وصفهم بعدم السيئة أصلا .

التالي السابق


(الطبقة الثانية) وهي تلي الطبقة الأولى في القرب منها: (تائب سلك طريق الاستقامة في أمهات الطاعات) وأصولها; بأن دام على العمل فيها من غير مرة، (وترك كبائر الفواحش كلها) بأن اجتنبها لا يسعى فيها ولا يهم بها (إلا أنه لا ينفك) ، وفي نسخة: ليس ينفك (عن ذنوب تعتريه لا عن عمد وتجديد قصد) لها، (ولكن يبتلى بها) أي: بدخولها عليه (في مجاري أحواله) عليه (من غير) قصد إليها، ولا (أن يقدم عزما على الإقدام عليها) ، ويمتحن بالهم واللمم، (ولكنه كلما أقدم عليها لام نفسه وندم وتأسف) وحزن، (وجدد عزمه على أن يتشمر للاحتراز عن أسبابها) الباعثة عليها (التي تعرضه لها، و) هذا من صفات المؤمنين ترجى له الاستقامة; لأنه في طريقها، و (هذه النفس جديرة بأن [ ص: 595 ] تكون هي النفس اللوامة ) التي أقسم الله بها; (إذ تلوم صاحبها على ما يستهدف له من الأحوال الذميمة لا عن تصميم عزم وتخمين رأي وقصد) ، وصاحبها من المقتصدين، (وهذه أيضا رتبة عالية، وإن كانت نازلة عن الطبقة الأولى) ، لكنها قريبة منها، (وهي أغلب أحوال التائبين) ، وصاحب هذا الحال داخل في وصف المتقين; (لأن الشر معجون بطينة الآدمي، قلما ينفك عنه) ، وهذه الذنوب تدخل على النفس من معاني صفاتها، وغرائز حبلاتها، وأوائل إنشائها من نبات الأرض، وتركيب الأطوار من الأرحام خلقا من بعد خلق، ومن اختلاط الأشباح بعضها ببعض، (وإنما غاية سعيه أن يغلب خيره شره حتى يثقل ميزانه، فتربح كفة الحسنات; فأما أن تخلو بالكلية كفة السيئات فذلك في غاية البعد، وهؤلاء لهم حسن الوعد من الله تعالى; إذ قال تعالى: الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ، فكل إلمام يقع بصغيرة لا عن توطين نفسه عليه فهو جدير بأن يكون من اللمم المعفو عنه، وقد قال تعالى: والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم فأثنى عليهم مع ظلمهم لأنفسهم لتندمهم، ولومهم أنفسهم عليه، وإلى مثل هذه الرتبة الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه علي كرم الله وجهه: "خياركم كل مفتن تواب") أي: كل ممتحن يمتحنه الله تعالى بالذنب، ثم يتوب ثم يعود ثم يتوب. قال العراقي: رواه البيهقي في الشعب بسند ضعيف اهـ .

قلت: رواه الديلمي، وفي سند البيهقي النعمان بن سعد قال الذهبي: كوفي مجهول، وروى أبو نعيم في الحلية من حديث ابن عباس: "إن المؤمن خلق مفتنا توابا ناسيا، إذا ذكر ذكر"، وفي رواية له: "إن المؤمن خلق ناسيا، فإذا ذكر ذكر".

وروى أحمد من حديث علي: "إن الله يحب العبد المؤمن المفتن التواب"، (وفي خبر آخر: "المؤمن كالسنبلة يفئ أحيانا، ويميل أحيانا) . قال العراقي: رواه أبو يعلى، وابن حبان في الضعفاء من حديث أنس، والطبراني من حديث عمار بن ياسر، والبيهقي في الشعب من حديث الحسن مرسلا، وكلها ضعيفة، وقال: يقوم بدل يفيء، وفي الأمثال للرامهرمزي إسناد جيد لحديث أنس اهـ .

قلت: حديث أنس رواه أيضا البزار والضياء ولفظهم: "مثل المؤمن مثل السنبلة تميل أحيانا وتقوم أحيانا". وأما حديث عمار عند الطبراني فلفظه مثل لفظ حديث أنس بزيادة: "ومثل الكافر مثل أرز تخر ولا تشعر، وقد روي من حديث جابر بلفظ: "مثل المؤمن مثل السنبلة تستقيم مرة، وتخر مرة، ومثل الكافر مثل الأرزة لا تزال مستقية حتى تخر ولا تشعر" رواه أحمد، وعبد بن حميد، والسائسي، والضياء في المختارة، وفي معناه ما رواه الشيخان من حديث أبي هريرة: "مثل المؤمن كمثل خامة الزرع من حيث أتتها الريح كفتها، فإذا سكنت اعتدلت، وكذلك المؤمن يكفى بالبلاء، ومثل الفاجر كالأرزة صماء معتدلة حتى يقسمها الله عز وجل إذا شاء، ومن حديث كعب بن مالك: "مثل المؤمن كالخامة من الزرع تفيئها الريح مرة، وتعدلها مرة، ومثل المنافق كالأرزة لا تزال حتى يكون انحفافها مرة واحدة، وكذلك رواه أحمد أيضا، وفي لفظ لأحمد من حديث أبي هريرة: "مثل المؤمن كمثل الزرع، لا تزال الريح تكفئه، ولا يزال المؤمن يصيبه بلاء، ومثل المنافق كمثل شجرة الأرزة لا تهتز حتى تستحصد"، ورواه كذلك الترمذي، وقال: حسن صحيح، وروى أحمد وأبو يعلى من حديث أم ولد أبي بن كعب، عن أبي بن كعب مرفوعا: "مثل المؤمن مثل الخامة تحمر مرة، وتصفر أخرى، والكافر كالأرزة.

(وفي الخبر: لا بد للمؤمن من ذنب يأتيه الفينة بعد الفينة، أي: الحين بعد الحين) . قال العراقي: رواه الطبراني، والبيهقي في الشعب من حديث ابن عباس بأسانيد حسنة انتهى .

قلت: ولفظ الطبراني في الكبير: "ما من عبد مؤمن إلا وله ذنب يعتاده الفينة بعد الفينة، أو ذنب هو يقيم عليه لا يفارقه حتى يفارق الدنيا، إن المؤمن خلق مفتنا توابا نسايا إذا ذكر ذكر، وفي لفظ له: "ما من مسلم إلا وله ذنب يصيبه الفينة بعد الفينة، إن المؤمن نساء، إذا ذكر ذكر" (فكل ذلك أدلة قاطعة على أن هذا القدر لا ينقض التوبة، ولا يلحق صاحبها بدرجة المصرين) ، ولا يؤيس هذا عن درجة التائبين، (ومن يؤيس مثل هذا عن درجة التائبين كالطبيب الذي يؤيس الصحيح عن دوام الصحة بما يتناول من الفواكه، والأطعمة الحارة [ ص: 596 ] مرة بعد أخرى من غير مداومة واستمرار) عليها، (و) أيضا (كالفقيه الذي يؤيس المتفقه عن نيل درجة الفقهاء بفتوره عن التكرار والتعليق في أوقات نادرة غير متطاولة، ولا كثيرة) ، والمراد بالتكرار إعادة ما يحصله في درسه مرة بعد أخرى حتى يرسخ في الذهن، والتعليق أن يعلق ما يسمع من فوائد الشيوخ في أوراق، (وذلك يدل على نقصان) مقام (الطبيب والفقيه) جميعا، (بل الفقيه في الدين هو الذي لا يؤيس الخلق من درجات السعادات بما يتفق لهم من الفترات ومقارفة السيئات المختطفات، قال النبي صلى الله عليه وسلم: كل بني آدم خطاء) بتشديد الطاء من أبنية المبالغة، يقال: رجل خطاء، إذا كان ملازما للخطأ، قال الطيبي في شرح المشكاة: إن أريد بلفظ كل الكل من حيث هو كل فهو تغليب; لأن الأنبياء ليسوا بمبالغين في الخطأ، وإن أريد به الاستغراق وأن كل واحد واحد خطاء لم يستقم إلا على التوزيع كما يقال: هو ظلام للعبيد، أي: يظلم كل واحد واحد، فهو ظالم بالنسبة إلى كل أحد، ظلام بالنسبة إلى المجموع، وإذا قلت: هو ظلام لعبده كان مبالغا في الظلم، (وخير الخطائين المستغفرون) أي: الذين يستغفرون عن ذنوبهم، ويرجعون إلى الله تعالى بالتوبة والاستغفار، ولا يؤتى العبد من فعل المعصية وإن عظمت وكثرت، وإنما يؤتى من ترك التوبة والاستغفار. وقال العراقي: رواه الترمذي واستغربه، والحاكم وصحح إسناده من حديث أنس، وقال: التوابون بدل المستغفرون .

قلت: فيه علي بن مسعدة، ضعفه البخاري انتهى. قلت: ورواه كذلك أحمد، وعبد بن حميد، وابن ماجه، والدارمي، والبيهقي، ولفظ الترمذي بعد أن أخرجه: غريب لا نعرفه إلا من حديث علي بن مسعدة انتهى .

قلت: علي بن مسعدة الباهلي أبو حبيب البصري قال ابن حبان: لا يحتج به كذا قال الذهبي، ورد على الحاكم تصحيحه، وقال: بل فيه لين، وفي أمالي أبي زرعة حديث فيه ضعف فكأنه تبع فيه والده، وقال الحافظ في التهذيب: صدوق له أوهام، وقد روى له البخاري في الأدب المفرد، والترمذي، وابن ماجه، ومال ابن القطان إلى تصحيح الحاكم وقال: ابن مسعدة صالح الحديث، وغرابته إنما هي فيمن انفرد به عن قتادة، (وقال) صلى الله عليه وسلم (أيضا: المؤمن واه راقع، فخيرهم من مات على رقعة) قال العراقي: رواه الطبراني، والبيهقي في الشعب من حديث جابر بسند ضعيف، وقالا: فسعيد بدل فخيرهم. انتهى. قلت: ورواه كذلك البزار، والعسكري في الأمثال، والطبراني في الصغير والأوسط، كلهم من طريق سعد بن خالد الخزاعي، عن محمد بن المنكدر، عن جابر به مرفوعا بلفظ: "وسعيد من هلك على رقعه"، وفي لفظ: "فالسعيد" قال المنذري: ضعيف، وقال الهيثمي: سعيد بن خالد ضعيف. قلت: هو من رجال أبي داود، وقال أبو زرعة ضعيف (أي: واه) لربه (بالذنوب راقع) له (بالتوبة والندم) فكلما انخرق دينه بالمعصية رقعه بالتقرب، قال الزمخشري: شبهه بمن يهي ثوبه فيرقعه، وقد وهى الثوب إذا بلي، ومعنى من مات على رقعه أي: من مات وهو راقع لدينه بالتوبة والندم ونحوه: "استقيموا ولن تحصوا" أي: لن تستطيعوا أن تستقيموا في كل شيء حتى لا تميلوا، ومنه أيضا: "يا حنظلة ساعة وساعة"، (وقال تعالى) في وصف المؤمنين بترك متابعة الذنوب وبترديف السيئة الحسنة في قوله عز وجل: ويدرءون بالحسنة السيئة وجعل هذا من نعوت العاملين الذين صبروا فقال ( أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرءون بالحسنة السيئة ) فجعل لهم صبرين على الذنب وعلى التوبة فآتاهم أجرين، (فما وصفهم بعدم السيئة أصلا) فازدراء هذا العبد على نفسه، ومقته عن معرفته بها وترك نظره إليها، وسكون إلى خير إن ظهر عليها يكون من كفارات ذنوبه; لأنه من تدبر الخطاب في قوله تعالى: فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى .




الخدمات العلمية