الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وروي أن الشافعي رحمه الله لما مرض مرض موته بمصر قال مروا فلانا يغسلني فلما توفي بلغه خبر وفاته ، فحضر ، وقال : ائتوني بتذكرته : فأتي بها ، فنظر فيها ، فإذا على الشافعي سبعون ألف درهم دين ، فكتبها على نفسه وقضاها عنه ، وقال : هذا غسلي إياه ، أي : أراد به هذا وقال أبو سعيد الواعظ الحركوشي لما قدمت مصر ، طلبت منزل ذلك الرجل ، فدلوني عليه ، فرأيت جماعة من أحفاده وزرتهم ، فرأيت فيهم سيما الخير ، وآثار الفضل ، فقلت : بلغ أثره في الخير إليهم ، وظهرت بركته فيهم ; مستدلا بقوله تعالى : وكان أبوهما صالحا وقال الشافعي رحمه الله لا أزال أحب حماد بن أبي سليمان لشيء بلغني عنه أنه كان ذات يوم راكبا حماره ، فحركه ، فانقطع زره فمر على الخياط ، فأراد أن ينزل إليه ليسوي زره ، فقال الخياط : والله لا نزلت ، فقام الخياط إليه ، فسوى زره ، فأخرج إليه صرة فيها عشرة دنانير ، فسلمها إلى الخياط واعتذر إليه من قلتها وأنشد الشافعي رحمه الله لنفسه :


يا لهف قلبي على مال أجود به على المقلين من أهل المروءات     إن اعتذاري إلى من جاء يسألني
ما ليس عندي لمن إحدى المصيبات

وعن الربيع بن سليمان قال : أخذ رجل بركاب الشافعي رحمه الله ، فقال : يا ربيع أعطه أربعة دنانير ، واعتذر إليه عني وقال الربيع : سمعت الحميدي يقول : قدم الشافعي من صنعاء إلى مكة بعشرة آلاف دينار ، فضرب خباءه في موضع خارج عن مكة ونثرها ، على ثوب ، ثم أقبل على كل من دخل عليه يقبض له قبضة ، ويعطيه حتى صلى الظهر ونفض الثوب ، وليس عليه شيء .

وعن أبي ثور قال : أراد الشافعي الخروج إلى مكة ، ومعه مال ، وكان قلما يمسك شيئا من سماحته فقلت له : ينبغي أن تشتري بهذا المال ضيعة تكون لك ، ولولدك قال : فخرج ، ثم قدم علينا فسألته عن ذلك المال ، فقال : ما وجدت بمكة ضيعة يمكنني أن أشتريها لمعرفتي بأصلها ، وقد وقف أكثرها ولكني بنيت بمنى مضربا يكون لأصحابنا إذا حجوا أن ينزلوا فيه وأنشد الشافعي رحمه الله لنفسه يقول .


أرى نفسي تتوق إلى أمور     يقصر دون مبلغهن مالي
فنفسي لا تطاوعني ببخل     ومالي لا يبلغني فعالي

وقال محمد بن عباد المهلبي دخل أبي على المأمون فوصله بمائة ألف درهم ، فلما قام من عنده تصدق بها ، فأخبر بذلك المأمون ، فلما عاد إليه عاتبه المأمون في ذلك ، فقال : يا أمير المؤمنين ، منع الموجود سوء ظن بالمعبود ، فوصله بمائة ألف أخرى .

وقام رجل إلى سعيد بن العاص فسأله فأمر له بمائة ألف درهم فبكى فقال له سعيد ما يبكيك قال أبكي على الأرض أن تأكل مثلك فأمر له بمائة ألف أخرى .

التالي السابق


(وروي أن الشافعي - رحمه الله تعالى - لما مرض مرض موته) بمصر (قال) في وصيته: (مروا فلانا يغسلني) ، وعنى به محمد بن عبد الله بن عبد الحكم (فلما توفي بلغه خبر وفاته، فحضر، وقال: ائتوني بتذكرته) ، أي: دفتر حسابه (قال: فأتي بها، فنظر فيها، فإذا على الشافعي - رحمه الله تعالى - سبعون ألف درهم دينا، فكتبها على نفسه) لأربابها (وقضاها عنه، وقال: هذا غسلي إياه، أي: أراد به هذا) .

أخرجه البيهقي في مناقب الشافعي.

(قال أبو سعيد الواعظ الخركوشي رحمه الله) المتقدم ذكره قريبا: (لما قدمت مصر، طلبت منزل ذلك الرجل، فدلوني عليه، فرأيت جماعة من أحفاده) ، أي: من ذريته (وزرتهم، فرأيت فيهم سيما الخير، وآثار الفضل، فقلت: بلغ أثره في الخير إليهم، وظهرت بركته فيهم; مستدلا بقوله تعالى: وكان أبوهما صالحا ) ، أي: فالصلاح يؤثر إلى سابع الولد .

(وقال الشافعي - رحمه الله تعالى - لا أزال أحب حماد بن أبي سليمان) الأشعري، مولاهم، أبا إسماعيل الكوفي، واسم أبيه مسلم، فقيه صدوق، وهو شيخ الإمام أبي حنيفة، مات سنة عشرين (لشيء بلغني عنه أنه كان ذات يوم راكبا حماره، فحركه، فانقطع زره) ، أي: زر قميصه (فمر على خياط، فأراد أن ينزل إليه ليسوي زره، فقال الخياط: والله لا نزلت، فقام الخياط إليه، فسوى زره، فأخرج) حماد (إليه صرة فيها عشرة دنانير، فسلمها إلى الخياط واعتذر إليه من قلتها) ، وهذا من المروءة والسخاء .

وقال الصلت بن بسطام: كان حماد يفطر كل ليلة في رمضان خمسين إنسانا، فإذا كان ليلة الفطر كساهم ثوبا ثوبا (وأنشد الشافعي رحمه الله لنفسه:


يا لهف نفسي على مال أفرقه على المقلين من أهل المروآت إن اعتذاري إلى من جاء يسألني
ما ليس عندي لمن إحدى المصيبات )

أوردهما البيهقي في مناقبه .

(وعن الربيع بن سليمان) المرادي - تقدمت ترجمته في كتاب العلم - (قال: أخذ رجل بركاب الشافعي - رحمه الله تعالى -، فقال: يا ربيع أعطه أربعة دنانير، واعتذر إليه عني) .

أخرجه البيهقي في مناقبه (وقال الربيع: سمعت) عبد الله بن الزبير بن عيسى القرشي الأسدي (الحميدي) المكي، تقدمت ترجمته في كتاب العلم (يقول: قدم الشافعي - رحمه الله تعالى - من صنعاء) اليمن (إلى مكة بعشرة آلاف دينار، فضرب خباءه في موضع خارجا من مكة، فنثرها على ثوب، ثم أقبل على كل من دخل عليه يقبض قبضة، ويعطيه حتى صلى الظهر ونفض الثوب، وليس عليه شيء) .

رواه البيهقي في مناقبه في كتاب العلم .

(وعن أبي ثور) [ ص: 190 ] إبراهيم بن خالد الكلبي الفقيه، تقدمت ترجمته في كتاب العلم (قال: أراد الشافعي) رحمه الله (الخروج إلى مكة، ومعه مال، وكان قلما يمسك شيئا من سماحته) ، أي: جوده، وسخائه (فقلت له: ينبغي أن تشتري بهذا المال ضيعة) ، أي: عقارا (تكون لك، ولولدك) من بعدك (قال: فخرج، ثم قدم علينا) مصر (فسألته عن ذلك المال، فقال: ما وجدت بمكة ضيعة يمكنني أن أشتريها لمعرفتي بأهلها، وقد وقف أكثرها) على وجوه البر (ولكن بنيت بمنى مضربا يكون لأصحابنا إذا حجوا أن ينزلوا فيه) .

أخرجه الحاكم، والبيهقي، والأبزي في مناقبه (وأنشد الشافعي) رحمه الله (لنفسه) :


(أرى نفسي تتوق إلى أمور يقصر دون مبلغهن مالي)


(فنفسي لا تطاوعني لبخل ومالي لا يبلغني فعالي)

أوردهما البيهقي في مناقبه .

(وقال محمد بن عباد المهلبي) من ولد المهلب بن أبي صفرة (دخل أبي) هو أبو معاوية عباد بن حبيب بن المهلب بن أبي صفرة الأزدي العتكي البصري، كان رجلا عاقلا أديبا، وثقه ابن معين، وقال أبو حاتم: صدوق لا بأس به، وقال ابن سعد: كان معروفا بالطب حسن الهيئة، ولم يكن بالقوي في الحديث، مات ببغداد سنة 179، روى له الجماعة، وجده حبيب بن المهلب، يكنى أبا بسطام، قتل مع أخيه يزيد سنة اثنين ومائة مع بقية إخوته وأهل بيته، وكان ذلك بقصر بابل، ووالده المهلب أول من عقد له اللواء أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - بعد وقعة الجمل، وهو يومئذ ابن ست وعشرين سنة، وأبوه أبو صفرة أسلم على يد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وأقام بالبصرة، وصار كأهلها، وعقبه بها، (على المأمون) العباسي (فوصله بمائة ألف درهم، فلما قام من عنده تصدق بها، فأخبر بذلك المأمون، فلما عاد إليه عاتبه المأمون في ذلك، فقال: يا أمير المؤمنين، منع الموجود سوء ظن بالمعبود، فوصله بمائة ألف أخرى) .




الخدمات العلمية