الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقال الشافعي رضي الله عنه : إذا شرب الحنفي النبيذ حددته ولم أرد شهادته فقد جعله كبيرة بإيجاب الحد ، ولم يرد به الشهادة فدل على أن الشهادة نفيا وإثباتا لا تدور على الصغائر والكبائر ، بل كل الذنوب تقدح في العدالة إلا ما لا يخلو الإنسان عنه غالبا بضرورة مجاري العادات كالغيبة والتجسس وسوء الظن والكذب في بعض الأقوال وسماع الغيبة ، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأكل الشبهات وسب الولد والغلام وضربهما بحكم الغضب زائدا على حد المصلحة وإكرام السلاطين الظلمة ومصادقة الفجار والتكاسل عن تعليم الأهل والولد جميع ما يحتاجون إليه من أمر الدين ، فهذه ذنوب لا يتصور أن ينفك الشاهد عن قليلها أو كثيرها إلا بأن يعتزل الناس ويتجرد لأمور الآخرة ، ويجاهد نفسه مدة بحيث يبقي على سمعته مع المخالفة بعد ذلك ، ولو لم يقبل إلا قول مثله لعز وجوده وبطلت الأحكام والشهادات ، وليس لبس الحرير وسماع الملاهي واللعب بالنرد ومجالسة أهل الشرب في وقت الشرب ، والخلوة بالأجنبيات وأمثال هذه الصغائر من هذا القبيل فإلى مثل هذا المنهاج ينبغي أن ينظر في قبول الشهادة وردها لا إلى الكبيرة والصغيرة ، ثم آحاد هذه الصغائر التي لا ترد الشهادة بها ، لو واظب عليها لأثر في رد الشهادة كمن اتخذ الغيبة وثلب الناس عادة وكذلك مجالسة الفجار ومصادقتهم والصغيرة تكبر بالمواظبة كما أن المباح يصير صغيرة بالمواظبة كاللعب بالشطرنج والترنم بالغناء على الدوام وغيره ، فهذا بيان حكم الصغائر والكبائر .

التالي السابق


(وقال الشافعي رحمه الله تعالى: إذا شرب الحنفي النبيذ حددته) أي: أقمت عليه الحد، (ولم أرد شهادته) ; لأنه يعتقد حليته (فقد جعله كبيرة بإيجاب الحد، ولم يرد به الشهادة) ، وفي الخادم للزركشي، ومن النبيذ المختلف فيه إذا شرب اليسير منه معتقدا تحريمه ففي كونه كبيرة خلاف من أجل اختلاف العلماء فيه، ولهذا صرح الرافعي بأنه على وجهين، وأن الأكثرين على الرد أي: رد الشهادة به; لأنه فسق، ولو استعملت للتداوي على القول بالتحريم، فيحتمل أن يقال ليس بكبيرة إذا قلنا: لا يجب فيه الحد كما صححه النووي، ويحتمل خلافه للجرأة انتهى، وقال غيره: الأوجه الأول، (فدل على أن الشهادة نفيا وإثباتا لا تدور على الصغائر والكبائر، بل كل الذنوب تقدح في العدالة) أي: الصغائر والكبائر، أما الكبائر فبمجردها يخرج عن العدالة، وأما الصغائر فبوقوعها منه مرة بعد مرة (إلا ما لا يخلو الإنسان عنه غالبا بضرورة مجاري العادات كالغيبة والتجسس وسوء الظن والكذب) الذي لا حد فيه ولا ضرر (في بعض الأقوال) ولو تعمدوا (وسماع الغيبة والإصغاء إليها، والسكوت عليها، وترك الأمر بالمعروف) والنهي عن المنكر مع عدم القدرة عليها، (وأكل الشبهات) وعدم التحري فيها، (وسب الولد والغلام وضربهما بحكم الغضب) الطبعي (زائدا على حد المصلحة) الشرعية، (وإكرام السلاطين الظلمة) وأعوانهم، (ومصادقة الفجار) ، ومجالستهم إيناسا لهم، (والتكاسل عن تعليم الأهل والولد جميع ما يحتاجون إليه من أمر الدين، فهذه ذنوب لا يتصور أن ينفك الشاهد عن قليلها وكثيرها) لا سيما في بعض ما ذكر ما قيل إنه من الكبائر (إلا بأن يعتزل الناس) مدة، (ويتجرد لأمور الآخرة، ويجاهد نفسه مدة) مديدة (بحيث يبقى على سمته مع المخالطة بعد ذلك، ولو لم يقبل إلا قول مثله لعز وجوده) أي: قل (وبطلت الأحكام والشهادات، وليس لبس الحرير) والديباج، (وسماع الملاهي) والأوتار، (واللعب بالنرد) ، وما في معناه من المنقلة، والكنجفة والأربعة عشر وغيرها، (ومجالسة أهل الشرب) بفتح فسكون جمع شارب كركب وراكب (في وقت الشرب، والخلوة بالأجنبيات) ، وكذا مباشرتهن بغير الجماع، (وأمثال هذه الصغائر) كالنظر إلى ما لا يجوز وهجر المسلم فوق ثلاث لغير عذر شرعي، وكثرة الخصومات، وإن كان محقا، والتبختر في المشي، والعبث في الصلاة، وكشف العورة في الحمام، وكذا في الخلوة لغير حاجة في الأصح، وإرسال الريح بحضرة الناس، ومد الرجلين في المجالس، والإكثار من الحكايات المضحكة، وغير ذلك (من هذا القبيل) ، أما مجالسة أهل الشرب فقد نقل الأذرعي عن صاحب العدة: إنه من الصغائر، وأقره الشيخان: الرافعي والنووي، وتقييد المصنف بكونه وقت الشرب دال على أن مجالستهم في غير هذا الوقت مباحة، فإن قصد إيناسهم من حيث كونهم فسقة فلا شك في حرمة ذلك، وأما لبس الحرير فقيل: إنه كبيرة، وأما سماع الملاهي والأوتار فقد نقل الإمام عن الشيخ أبي محمد أن سماع الأوتار مرة واحدة لا يوجب رد الشهادة، وإنما ترد بالإصرار، وتبعه المصنف فقال: وما ذكرناه في سماع الأوتار مفروض فيما إذا لم يكن الإقدام عليه مرة يشعر بالانحلال، وإلا فالمرة الواحدة لا ترد بها الشهادة، وأما اللعب بالنرد ففيه أربعة أقوال: أحدها أنه مكروه كراهة تنزيه، وبه قال أبو إسحاق المروزي، والإسفراييني، وحكاه ابن خيران، واختاره أبو الطيب، وهو غلط ليس بشيء لمخالفته المنقول والدليل، وقول جماعة: إنه منصوص عليه في الأم وغيره مردود، ولهذا قال صاحب البيان: إن المنصوص عليه في الأم التحريم، وبه قال أكثر الأصحاب .

الثاني: أنه حرام صغيرة [ ص: 546 ] وعليه مشى المصنف هنا، ورجحه الرافعي.

الثالث أنه حرام كبيرة، وهو الذي عليه الشافعي وأصحابه، أشار إليه الروياني في الحلية، ونقل القرطبي في شرح مسلم الإجماع عليه، وكذا الموفق الحنبلي في المغني نقل الإجماع عليه .

الرابع التفصيل بين بلد يستعظمون اللعب به فترد به الشهادة، وبلد ليس كذلك فلا ترد به، وهذه التفرقة ضعيفة كما قاله البلقيني، وعلى القول بأنه صغيرة كما مشى عليه المصنف هنا فمحله حيث خلا عن القمار، وإلا فهو كبيرة بلا نزاع كما أشار إليه الزركشي، وهو واضح .

(فإلى مثل هذا المنهاج ينبغي أن ينظر في قبول الشهادة وردها لا إلى الكبيرة والصغيرة، ثم آحاد هذه الصغائر التي لا ترد الشهادة بها، لو واظب عليها لأثر في رد الشهادة) ، والمراد بالمواظبة هنا المداومة على نوع منها، وهذا هو الإصرار السالب للعدالة، وبه قال جماعة من الأصحاب، (كمن اتخذ الغيبة وثلب الناس) أعراضهم (عادة) له، ومنهم من فسر المواظبة بالإكثار على الصغائر سواء كانت من نوع أو أنواع مختلفة، وبه فسروا الإصرار السالب للعدالة، ونقل الرافعي القولين، قال: ويوافق الثاني قول الجمهور أن من تغلب طاعته معاصيه كان عدلا، ومن تغلب معاصيه طاعته كان مردود الشهادة، وذا قلنا به لم تضر المداومة على نوع واحد من الصغائر إذا غلبت الطاعات، وعلى الاحتمال الأول تضر. انتهى .

وتبعه النووي في الروضة، وقضية كلامهما ترجيح الثاني، وبه صرح ابن سراقة وغيره .

(وكذلك مجالسة الفجار ومصادقتهم) ، ولو في حال فجورهم، وكلام بعض الأصحاب صريح في أن مجرد مصادقتهم حرام، وإن لم يجالسهم، وكلام بعضهم أن مجرد المجالسة من غير مصادقة ولا قصد إيناس لا إثم فيها، وكلام المصنف صريح في أن كلا منهما يأثم به، (والصغيرة تكبر) أي: تصير كبيرة (بالمواظبة) عليها أي: تصير مثلها في رد الشهادة (كما أن المباح يصير كبيرة بالمواظبة عليه) ، وهذا بناء على القول الضعيف; فإن المعتمد أنه لا تضر المداومة على نوع من الصغائر، أو أنواع سواء كان مقيما على الصغيرة أو الصغائر، أو مكثرا مكررا من فعل ذلك، حيث غلبت الطاعات المعاصي، هكذا نقله الأذرعي، والبلقيني، والزركشي، وابن العماد، وغيرهم. ويؤيده قول الجمهور: من غلبت معاصيه طاعاته ردت شهادته سواء كانت المعاصي من نوع أو أنواع، ومن ثم قال الأذرعي: المذهب وقول الجمهور وما تضمنته النصوص أن من كان الأغلب عليه الطاعة والمروءة قبلت شهادته، أو المعصية وخلاف المروءة ردت شهادته، وهذا القول الذي اعتمده المصنف مشى عليه الرافعي والنووي، حيث قالا: المداومة على الصغيرة تصيرها كبيرة، لكن إن انضم إليه كون طاعاته لم تغلب معاصيه، ثم على هذا القول من أن مطلق الإصرار على الصغيرة يصيرها كبيرة يحتاج لمعرفة ضبط الإصرار; قال ابن الصلاح: الإصرار هو التلبس بضد التوبة باستمرار النوع على المعاودة واستدامة الفعل بحيث يدخل به في حيز ما يطلق عليه الوصف بصيرورته كبيرة، وقال العز بن عبد السلام: الإصرار أن تتكرر منه الصغيرة تكرارا يشعر بقلة مبالاته بدينه إشعار ارتكاب الكبيرة بذلك، قال: وكذلك إذا اجتمعت صغائر مختلفة الأنواع بحيث يشعر مجموعها بما يشعر به أصغر الكبائر، انتهى. هذا ضبط الإصرار .

وأما على القول المعتمد السابق فالمدار على غلبة الطاعات والمعاصي، وعلى هذا المعتمد كان ينبغي أن يقال: شرط العدالة اجتناب الكبائر وعدم غلبة الصغائر على الطاعة، وقد أشار إلى ذلك البلقيني (كاللعب بالشطرنج والترنم بالغناء على الدوام، وغيرهما) ، وقوله: على الدوام متعلق بالقولين; فاللعب بالشطرنج مكروه عند الشافعي، حرام عند غيره بشروط; قال النووي في فتاويه: الشطرنج حرام عند أكثر العلماء إن فوت به صلاة عن وقتها، أو لعب به على عوض، فإن انتفى ذلك كره عند الشافعي، وحرم عند غيره , انتهى .

وفي كلام ابن العماد أن اللعب به من الرذائل المباحة مع الكراهة، فالإكباب عليه والملازمة له يصيره صغيرة، وكذا الترنم بالغناء مع نفسه، إذا كان في بعض الأوقات لإزالة الوحشة عن نفسه، لا بأس به، فإن داوم عليه حتى اتخذه عادة يصير صغيرة، (فهذا بيان حكم الصغائر والكبائر) .



ثم اعلم أنه قد تقدم ذكر الكبائر وما يتعلق بها، وأما الصغائر فحصرها متعذر، وقد ذكر ابن حجر منها في شرح الشمائل جملة فقال: هي كالغيبة في غير عالم أو حامل قرآن معا، بل حكي فيه [ ص: 547 ] الإجماع قالوا: إنها كبيرة مطلقا نعم تباح لأسباب ستة مقررة في محلها، وكقبلة أجنبية ولعن ولو بهيمة وكذب لا حد فيه ولا ضرر، وهجو مسلم ولو تعريضا وصدقا، وإشراف على بيت غيره، وهجر مسلم فوق ثلاثة عدوانا، ونحو تناج، وجلوس مع فاسق لا يناسبه، وتنجيس بدن أو ثوب أو ثوب عدو، أو نجش واحتكار، وبيع معيب علم عيبه ولم يذكره اهـ. فهذه ثلاثة عشر، وقال ابن العماد في كتاب الذريعة في أعداد الشريعة زاد على ما ذكر: النظر إلى ما لا يجوز، وذكر في التطلع على بيوت الناس بأنه لو كان المؤذن ينظر إلى بيوت الجيران وجب على الناظر عزله، ثم قالوا: كثرة الخصومات وإن كان محقا، قال الرافعي: وينبغي أن لا يكون معصية إذا راعى حد الشرع، قال النووي: وهو الصواب، والسكوت على الغيبة والصياح، وشق الجيب في المصيبة، والتبختر في المشي، واللعب بالقردة وبالصور، ونطاح الكباش، ومهارشة الديكة والجلوس إليهم، وإعانتهم بدفع مال إليهم، والشغل في وقت الكراهة، والبيع والشراء في المسجد، وإدخال الصبيان والمجانين والنجاسات إليه، وإمامة قوم يكرهونه، والعبث في الصلاة والضحك فيها، وتخطي الرقاب يوم الجمعة ونحوه، والتغوط مستقبل القبلة أو في طريق المسلمين، والقبلة للصائم التي تحرك شهوته، والوصال في الصوم على الأصح، والاستمناء باليد، ومباشرة الأجنبية بغير الجماع، ووطء الزوجة المظاهر منها قبل التكفير، ووطء الرجعية، والخلوة بالأجنبية، ومسامرة المرأة بغير زوج ولا محرم ولا نسوة ثقات، والبيع على بيع أخيه، والخطبة والسوم على سومه، وتلقي الركبان، وبيع الحاضر للبادي، وتصرية الحيوان، واقتناء الكلب لغير الحراسة والصيد، وبيع العبد المسلم للكافر وكذا المصحف وسائر كتب العلم الشرعي، وكشف العورة في الحمام، وكذا في الخلوة على الأصح، والسفاهة، ولبس الحرير، والرقص مع التثني، وسماع أشعار الشربة، وضرب الكوبة والصفاقتين، والحاقر إن حرمت كحرسه كما صححه النووي، واللعب بالنرد. انتهى. فهذه سبعة وأربعون، قال الصيدلاني: ومما ترد به الشهادة إرسال الريح بحضرة الناس .

ثم قال ابن العماد: ومن الرذائل المباحة مع الكراهة: قبلة الزوجة أو الأمة بحضرة الناس، وذكر ما جرى بينهما في الخلوة، والمشي مكشوف الرأس، ومد الرجلين في المجالس، وكذا نتف اللحية على المرجح في الكفاية قال الماوردي: وكذا خضبها، ولبس فقيه قباء وقلنسوة حيث لا يعتاد، ولبس تاجر خمال ثياب، ولبس حمال عمامة وطيلسانا، والإكثار من الحكايات المضحكة، ومن اللعب بالحمام وشبهه، ومن اللعب بالشطرنج وبالخاتم إذا كان بغير عوض، ومن الغناء وسماعه، والحرف الدنية مما لا يليق به كالحجامة والكنس والدبغ، وقيم الحمام والحارس، والنجال، والإسكاف، والقصاب، وكذلك الحائك في الأشبه، لا الصباغ على الأصح، وفيما ذكر نظر، والله أعلم .



(فصل)

وقال أصحابنا: الصحيح في حد العدالة المعتبرة في الشهادات اجتناب الكبائر، وعدم الإصرار على الصغائر، وغلبة صوابه على خطئه، وصدقه على كذبه وإن ألم بمعصية لأن في اعتبار اجتنابه الكل سد باب وهو مفتوح إحياء للعقوق .

والكبيرة كل ما يسمى فاحشة كاللواطة، ونكاح منكوحة الأب، أو ثبت لها بنص قاطع عقوبة في الدنيا وفي الآخرة، وقال الشمس الحلواني: كل ما كان شنيعا بين المسلمين، وفيه هتك حرمة الله والدين فهو كبيرة، ولا تقبل شهادة مخنث ونائحة ومغنية ومدمن على الشرب، ومن يلعب بالطيور والطنبور، ومن يفعل كبيرة توجب الحد، ومن يأكل الربا، أو يقامر بالشطرنج، أو تفوته الصلاة بسببه أو يدخل الحمام بغير إزار، أو يفعل فعلا مستخفا كالبول والأكل على الطريق، ومن يظهر سب السلف، والله أعلم .




الخدمات العلمية