الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس .

واختلف الصحابة والتابعون في عدد الكبائر من أربع إلى سبع إلى تسع ، إلى إحدى عشرة ، فما فوق ذلك فقال ابن مسعود هن أربع وقال ابن عمر هن سبع وقال عبد الله بن عمرو هن تسع وكان ابن عباس إذا بلغه قول ابن عمر الكبائر سبع يقول هن : إلى سبعين أقرب منها إلى سبع وقال مرة كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة وقال غيره كل ما أوعد الله عليه بالنار فهو من الكبائر .

وقال بعض السلف : كل ما أوجب عليه الحد في الدنيا فهو كبيرة وقيل : إنها مبهمة لا يعرف عددها كليلة القدر ، وساعة يوم الجمعة وقال ابن مسعود لما سئل عنها : اقرأ من أول سورة النساء إلى رأس ثلاثين آية منها عند قوله : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه فكل ما نهى الله عنه في هذه السورة إلى هنا فهو كبيرة .

التالي السابق


(وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه عبد الله بن عمرو) بن العاص رضي الله عنهما: (الكبائر الإشراك بالله) وذلك بأن يتخذ مع الله إلها غيره، (وعقوق الوالدين) الأصليين المسلمين وإن عليا، (وقتل النفس) التي حرمها الله إلا بالحق: كالقصاص، والقتل بالردة، والرجم، (واليمين الغموس) ، والواو في الثلاثة للعطف على السياق .

قال العراقي: رواه البخاري. قلت: ورواه كذلك أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن جرير، وعند بعضهم: أو قتل النفس، شك شعبة.

فهذه الآيات والأخبار دالة على انقسام الكبائر في عظمها إلى كبير وأكبر، وأخذ منها ثبوت الصغيرة; لأن الكبائر بالنسبة إليها أكبر منها; ولذلك قال المصنف: لا يليق إنكار الفرق بين الكبائر والصغائر، وقد عرف من تدارك الشرع، (واختلفت الصحابة) رضوان الله عليهم، (والتابعون) لهم (في عدد الكبائر من أربع إلى سبع إلى تسع، إلى إحدى عشرة، فما فوق ذلك فقال ابن مسعود) رضي الله عنه (هي أربع) الإشراك بالله، واليأس من روح الله، والقنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله. رواه عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا في التوبة، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني.

(وقال) عبد الله (بن عمر) بن الخطاب رضي الله عنهما (هي سبع) : الإشراك بالله، وقذف المحصنة، وقتل النفس المؤمنة، والفرار من الزحف، والسحر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم أخرجه علي بن الجعد في الجعديات، والبيهقي عن طيلسة قال: سألت ابن عمر عن الكبائر فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هي سبع، فذكره. وقد روي نحو ذلك عن أبي هريرة: "اجتنبوا السبع الموبقات: الشرك بالله، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والسحر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات" رواه الشيخان، وأبو داود، والنسائي، وابن أبي حاتم، ويروى عنه أيضا: الكبائر سبع: أولها الإشراك بالله، ثم قتل النفس بغير حقها، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم إلى أن يكبر، والفرار من الزحف، ورمي المحصنات، والانقلاب إلى الأعراب بعد الهجرة" هكذا رواه البزار، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.

وأما لفظ حديث أبي سعيد: "الكبائر سبع: الإشراك بالله، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وقذف المحصنة، والفرار من الزحف، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والرجوع إلى الأعرابية بعد الهجرة". ورواه الطبراني في الأوسط .

وأما حديث ابن عمر فلفظه: "هي عقوق الوالدين، والإشراك بالله، وقتل النفس، وقذف المحصنات، وأكل مال اليتيم، والفرار من الزحف، وأكل الربا" رواه ابن المنذر، والطبراني، وابن مردويه، (وقال عبد الله بن عمرو) بن العاص: (هي تسع) هكذا في القوت، وهي: الإشراك بالله، وقتل النسمة يعني بغير حق، وقذف المحصنة، والفرار من الزحف، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والذي يستسحر، وإلحاد في المسجد الحرام، وبكاء الوالدين من العقوق. رواه البخاري في الأدب المفرد، وابن راهويه، وعبد بن حميد، وابن جرير، والقاضي إسماعيل في أحكام القرآن، وابن المنذر بسند حسن، كلهم من طريق طيلسة، قالوا: عن ابن عمر، ولو يقولوا عن ابن عمرو، وقد روي مثله عن عبيد بن عمير الليثي عن أبيه رفعه: "الكبائر تسع: أعظمهن الإشراك بالله، وقتل النفس بغير حق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، والفرار من الزحف، وعقوق الوالدين، واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا" رواه أبو داود، والنسائي، وابن جرير، وابن أبي حاتم [ ص: 532 ] والطبراني، والحاكم، وابن مردويه، والبيهقي. (وكان ابن عباس إذا بلغه قول ابن عمر) رضي الله عنه: (الكبائر سبع يقول: هي إلى سبعين أقرب منها إلى سبع) رواه عبد الرزاق، وعبد بن حميد، ويروى عن سعيد بن جبير أن رجلا سأل ابن عباس: كم الكبائر؟ سبع هي؟ قال: إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع. غير أنه لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار. أخرجه ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، (وقال مرة) يعني ابن عباس في حد الكبيرة (كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة) ، ورواه عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، والبيهقي في الشعب من طرق عنه، وأخرج ابن جرير، عن أبي الوليد قال: سألت ابن عباس عن الكبائر قال: كل شيء عصي الله به فهو كبيرة، (وقال غيره) من السلف (كل ما أوعد الله عليه بالنار فهو من الكبائر) ، وهذا القول أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس، وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير قال: كل ذنب نسبه الله إلى النار فهو من الكبائر، وأخرج عن الضحاك قال: الكبائر كل موجبة أوجب الله لأهلها النار، وأخرج عن ابن عباس قال: كل ذنب حتمه الله بنار أو غضب أو لعنة وعذاب، وفي الروضة: وأصلها الكبيرة ما لحق صاحبها بخصوصها وعيد شديد بنص كتاب أو سنة. وحذف بعض المتأخرين تقييد الوعيد بكونه شديدا، وكأنه نظر إلى أن كل وعيد من الله تعالى لا يكون إلا شديدا، فهو من الوصف اللازم، وخرج بالخصوص ما اندرج تحت عموم، فلا يكفي ذلك في كونه كبيرة بخصوصه، (وقال بعض السلف: كل ما أوجب الله عليه الحد في الدنيا) كزنا، ولواط، وشرب خمر وإن قل ولم يسكر، ونبيذ ولم يعتقد حله، وسرقة، وقذف، فهذه فيها حدود، والصغائر عندهم من اللمم، وهو ما لا حد فيه، وما لم يتهدد بالنار عليه، قال صاحب القوت: وقد روي هذا عن أبي هريرة وغيره اهـ .

قلت: وبه قال البغوي وغيره: قال الرافعي: وهذان الوجهان في حد الكبيرة أكثر ما يوجد لهم، وهم إلى ترجيح هذا أميل، ولكن غير موافق لما ذكروه في تفصيل الكبائر أي: لأنهم نصوا على كبائر كثيرة، ولا حد فيها كأكل الربا، ومال اليتيم، والحقوق، وقطع الرحم، والسحر، والنميمة، وشهادة الزور، والسعاية، والقوادة، والدياثة، وغيرها، وبهذا يعلم أن الحد الأول منهما أصح من الثاني .

وإن قال الرافعي: إنهم إلى ترجيحه أميل، وأخذ صاحب الحاوي الصغير وغيره: أنه الراجح فجزم به، وقال الأذرعي في القوت: عجيب قول الشيخين: إن الأصحاب إلى الثاني أميل، وهو في غاية البعد اهـ. لكن إذا أول على أن مراد قائله ما هو المنصوص عليه، لكن بعيد على أنه يرد على الحد الأول أيضا بعض ما علم أنه كبيرة، ولم يرد فيه وعيد شديد، وقد عد العز بن عبد السلام في قواعده أنواعا من الكبائر اتفاقا مع أنه لم يرد فيها نص، (وقيل: إنها مبهمة لا يعرف) حقيقة (عددها كليلة القدر، وساعة يوم الجمعة) ، والصلاة الوسطى ليكون الناس على خوف ورجاء، فلا يقطعون بشيء، ولا يسكنون إلى شيء، كذا في القوت، واعتمده الواحدي في البسيط فقال: الصحيح أن الكبيرة ليس لها حد تعرفها العباد به، وإلا اقتحم الناس الصغائر واستباحوها، ولكن الله عز وجل أخفى ذلك عن العباد ليجتهدوا في اجتناب النهي عنه; رجاء أن يجتنبوا الكبائر، ونظائره إخفاء الصلاة الوسطى وليلة القدر وساعة الإجابة ونحو ذلك اهـ. .

وليس كما قال: بل الصحيح أن لها حدا معلوما، ونقل بعضهم عن الواحدي هذه المقالة لكن على وجه يخفى به الاعتراض عليه فقال: قال الواحدي المفسر: الكبائر كلها لا تعرف أي: لا تنحصر قالوا: لأنه ورد وصف أنواع من المعاصي بأنها كبائر، وأنواع أنها صغائر، وأنواع لم توصف بشيء منهما. وقال الأكثرون: إنها معروفة، واختلفوا: هل تعرف بحد، وضابط، أو بالعد اهـ. وكل ما سبق من الحدود ومما سيأتي منها للمتأخرين إنما قصدوا التقريب فقط، وإلا فهي ليست بحدود جامعة، وكيف يمكن ضبط ما لا مطمع في ضبطه، وذهب آخرون إلى تعريفها بالعد من غير ضبطها بالحد، (و) قد (قال ابن مسعود) رضي الله عنه فيها قولا حسنا من طريق الاستنباط (لما سئل عنها: اقرأ من أول سورة النساء إلى رأس ثلاثين آية منها عند قوله: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه ) نكفر عنكم سيئاتكم (فكل ما نهى الله عنه في هذه السورة إلى هنا فهي كبيرة) فأشبه هذا استدلال قول ابن عباس في استنباط ليلة القدر أنها ليلة سبع وعشرين، من كون قوله تعالى: هي سبعا وعشرين كلمة، قال [ ص: 533 ] صاحب القوت بعد أن نقل القول الأول وهو الإبهام: وهذا القول والله أعلم بحقيقة هذين القولين اهـ .

قلت: وقد استنبط ابن عباس أيضا ليلة القدر أنها ليلة سبع وعشرين أنه عد حروف ليلة القدر، وقد ذكرت ثلاث مرات في السورة كل كلمة منها تسعة أحرف، فهي سبع وعشرون حرفا; من ضرب ثلاثة في تسعة .

وأما قول ابن مسعود السابق فأخرجه عبد بن حميد، والبزار، وابن جرير أنه سئل عن الكبائر فقال: ما بين أول سورة النساء إلى رأس ثلاثين آية منها، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، قال: الكبائر من أول سورة النساء إلى قوله: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه ، وأخرج عبد بن حميد أنه سئل عن الكبائر فقال: افتحوا سورة النساء فكل شيء نهى الله عنه حتى تأتوا ثلاثين آية فهو كبيرة، ثم قرأ مصداق ذلك: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه من أول السورة إلى حيث بلغه، وقد روي ذلك أيضا عن إبراهيم النخعي قال: كانوا يرون أن الكبائر فيما بين أول هذه السورة سورة النساء إلى هذا الموضع إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه أخرجه عبد بن حميد، وابن جرير.



(فصل)

وقد بقي من حدود الكبيرة ما لم يذكرها المصنف هنا فنقول: قال إمام الحرمين: كل جريمة على ما نقله الرافعي، وعبارة إرشاده جريرة، وهي بمعناها تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين، ورقة الديانة مبطلة للعدالة، وكل جريمة أو جريرة لا تؤذن بذلك، بل لسبق حسن الظن ظاهرا بصاحبها لا تحبط العدالة، قال: وهذا أحسن ما يتميز به أحد الضدين عن الآخر اهـ .

وقد تابعه القشيري في الرسالة، واختاره الإمام السبكي وغيره، وفي معناه قوله في نهايته: الصادر من الشخص إن دل على الاستهانة لا بالدين فهو كبيرة، وإن صدر عنه فلتة خاطر أو لقلة ناظر فصغيرة، ومعنى قوله: لا بالدين، أي: لا بأصله; فإن الاستهانة بأصله كفر، ومن ثم عبر في الأصول بقلة اكتراث، ولم يقل بعدم اكتراث، والكفر وإن كان أكبر الكبائر فالمراد تفسير غيره بما يصدر من المسلم .

قال البرماوي: ورجح المتأخرون مقالة الإمام لحسن الضبط بها قياسا اهـ، وكأنه لم ير منازعة الأذرعي فيما قاله الإمام; فإنه قال: وإذا تأملت بعض ما عد من الصغائر توقفت فيما أطلقه اهـ. وكأنه أخذ ذلك من اعتراض ابن أبي الدم ضابط النهاية بأنه مدخول على أنك إذا تأملت كلام الإمام الأول ظهر لك أنه لم يجعل ذلك حدا للكبير خلافا لمن فهم منه ذلك; لأنه يشمل صغائر الخسة، وليست بكبائر، وإنما ضبط ما يبطل العدالة من المعاصي الشامل لصغائر الخسة، نعم هذا الحد أشمل من التعريفين المتقدمين على سائر مفردات الكبائر، ولكنه غير مانع لما علمت أنه يشمل صغائر الخسة وغيرها، وقال في الخادم نقلا عن الرافعي: التحقيق أن كل واحد من هذه الأوجه اقتصر على بعض أنواع الكبيرة، وإن مجموع هذه الأوجه يحصل به ضابط الكبيرة اهـ. ولهذا قال الماوردي في حاويه: الكبيرة ما أوجب الحد، أو توجه عليه الوعيد، وقال ابن عطية: كل ما وجب فيه أو ورد توعد بالنار، أو جاءت فيه لعنة، ونحوه عن ابن الصلاح واعترض قول الإمام وكل جريمة لا تؤذن بذلك إلخ، بأن من أقدم على غصب ما دون نصاب السرقة أتي بصغيرة، ولا يحسن في نفوس الناس الظن به، وكان القياس أن يكون كبيرة، وكذلك قبلة الأجنبية صغيرة، ولا يحسن في نفوس الناس الظن بفاعلها، ويجاب بأن كون هذين صغيرتين، إنما هو على قول جمع، وأما على مقابلة أنهما كبيرتان فلا اعتراض، وإنما يحسن أن لو اتفقوا على صغيرة، وأنها مما يسوء ظن أكثر الناس بفاعلها



(فصل)

ومن حدود الكبيرة أنها كل فعل نص الكتاب على تحريمه أو بلفظ التحريم، وهو أربعة أشياء: أكل لحم الميتة، والخنزير، ومال اليتيم، ونحوه، والفرار من الزحف، ورد بمنع الحصر في الأربعة .



(فصل)

ومن حدود الكبيرة ما قاله المصنف في بعض كتبه: كل معصية يقدم المرء عليها من غير استشعار خوف ووجدان ندم تهاونا واستجراء عليها فهي كبيرة، وما يحمل على فلتات النفس ولا ينفك عن ندم يمتزج بها وينقص التلذذ بها فليس بكبيرة، واعترضه العلائي بأنه بسط لعبارة الإمام، وهو مشكل جدا إن كان ضابطا للكبيرة من حيث هي; إذا يرد عليه من ارتكب نحو الزنا نادما عليه فقضيته أنه لا تنخرم به [ ص: 534 ] عدالته، ولا يسمى كبيرة حينئذ، وليس كذلك اتفاقا، وإن كان ضابطا كما هو المنصوص عليه فهو قريب اهـ. قال الجلال البلقيني: كان العلائي فهم أن كل من يذكر حدا يدخل المنصوص وهو ممنوع، وضابط الغزالي إنما هو لما عدا المنصوص عليه فهو قريب، وقد ذكر العلائي نفسه أن الحدود إنما هي لما عدا المنصوص عليه .



(فصل)

ومن حدود الكبيرة قول العز بن عبد السلام: الأولى ضبط الكبيرة بما يشعر بتهاون مرتكبها بدينه إشعار أصغر الكبائر المنصوص عليها قال: فإذا أردت الفرق بين الصغيرة والكبيرة فاعرض مفسدة الذنب على مفاسد الكبيرة المنصوص عليها، فإن نقصت عن أقل الكبائر فهي صغيرة، وإلا فهي كبيرة اهـ. واعترض الأذرعي فقال: وكيف السبيل إلى الإحاطة بالكبائر المنصوص عليها حتى ينظر في أقلها مفسدة، ويقيس بها مفسدة الذنب الواقع، هذا متعذر اهـ. قال الجلال البلقيني: ولا تعذر في ذلك إذا جمع ما صح من الأحاديث في ذلك إلا أن الإحاطة بمفاسدها حتى يعلم أقلها مفسدة في غاية الندور والاستحالة; إذا لا يطلع على ذلك إلا الشارع صلى الله عليه وسلم، ثم قال ابن عبد السلام بعد ما ذكر: وكذلك من أمسك امرأة محصنة لمن يزني بها، أو أمسك مسلما لمن يقتله، فلا شك أن مفسدته أعظم من مفسدة مال اليتيم، وكذلك لو دل الكفار على عورة المسلمين مع علمه بأنهم يستأصلونهم بدلالته، ويسبون حريمهم وأطفالهم، ويغنمون أموالهم; فإن نسبة هذه المفاسد أعظم من التولي يوم الزحف بغير عذر، وكذلك لو كذب على إنسان، وهو يعلم أنه يقتل بسبب كذبه، وأطال في ذلك إلى أن قال، وقد ضبط بعض العلماء الكبائر بأن كل ذنب قرن به وعيد أو حد أو لعن فهو من الكبائر، فتغيير منار الأرض -أي: طرقها- كبيرة; لاقتران اللعن به; فعلى هذا كل ذنب يعلم أن مفسدته كمفسدة ما قارن به الوعيد أو اللعن أو الحسد، أو كان أكثر من مفسدته فهو كبيرة اهـ .

قال ابن دقيق العيد: وعلى هذا فيشترط أن لا توجد المفسدة مجردة عما يقترن بها من أمر آخر; فإنه قد يقع الغلط في ذلك ألا ترى أن السابق إلى الذهن في مفسدة الخمر إنما هو السكر وتشويش العقل فإن أخذنا بمجرده لزم ألا يكون شرب القطرة الواحدة منه كبيرة; لخلوها عن المفسدة المذكورة، لكنها كبيرة لمفسدة أخرى، وهو التحري عن الشرب الكثير الموقع في المفسدة فبهذا الاقتران يصير كبيرة .



(فصل)

ومن حدود الكبيرة ما اختاره ابن الصلاح في فتاويه الكبيرة: كل ذنب عظم عظما يصح أن يطلق عليه اسم الكبيرة، ويوصف بكونه عظيما على الإطلاق، وعليها أمارات منها إيجاب الحد، ومنها الإيعاد عليه بالعذاب بالنار ونحوها في الكتاب أو السنة، ومنها وصف فاعلها بالفسق، ومنها اللعن اهـ. ولخصه البارزي في تفسير الحاوي فقال: والتحقيق أن الكبيرة كل ذنب قرن به وعيد أو لعن بنص كتاب أو سنة، أو علم أن مفسدته كمفسدة ما قرن به وعيد أو حد أو أكثر من مفسدته، أو أشعر بتهاون مرتكبه في دينه إشعار أصغر الكبائر المنصوص عليها، من ذلك لو قتل من يعتقد براءاته فظهر أنه مستحق لدمه أو وطئ امرأة ظانا أنه زان بها، فإذا هي زوجته أو أمته .




الخدمات العلمية