الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فالعاصي بالضرورة ناقص الإيمان ، وليس الإيمان بابا واحدا ، بل هو نيف وسبعون بابا ، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ومثاله قول القائل : ليس الإنسان موجودا واحدا ، بل هو نيف وسبعون موجودا أعلاها القلب والروح ، وأدناها إماطة الأذى عن البشرة بأن يكون مقصوص الشارب مقلوم الأظافر نقي البشرة عن الخبث حتى يتميز عن البهائم المرسلة الملوثة بأرواثها المستكرهة الصور بطول مخالبها وأظلافها وهذا مثال مطابق فالإيمان كالإنسان وفقد شهادة التوحيد يوجد البطلان بالكلية ، كفقد الروح والذي ليس له إلا شهادة التوحيد والرسالة هو كإنسان مقطوع الأطراف مفقوع العينين فاقد لجميع أعضائه الباطنة والظاهرة ، لا أصل الروح وكما أن من هذا حاله قريب من أن يموت فتزايله الروح الضعيفة المنفردة التي تخلف عنها الأعضاء التي تمدها وتقويها فكذلك من ليس له إلا أصل الإيمان ، وهو مقصر في الأعمال قريب من أن تقتلع شجرة إيمانه إذا صدمتها الرياح العاصفة المحركة للإيمان في مقدمة قدوم ملك الموت ووروده ، فكل إيمان لم يثبت في اليقين أصله ، ولم تنتشر في الأعمال فروعه لم يثبت على عواصف الأهوال عند ظهور ناصية ملك الموت ، وخيف عليه سوء الخاتمة لا ما يسقى بالطاعات على توالي الأيام والساعات حتى رسخ وثبت وقول العاصي للمطيع : إني مؤمن كما أنك مؤمن كقول شجرة القرع لشجرة الصنوبر أنا شجرة ، وأنت شجرة وما أحسن جواب شجرة الصنوبر إذ قالت : ستعرفين اغترارك بشمول الاسم إذا عصفت رياح الخريف فعند ذلك تنقطع أصولك ، وتتناثر أوراقك ، وينكشف غرورك بالمشاركة في اسم الشجرة مع الغفلة عن أسباب ثبوت الأشجار .

سوف

ترى إذا انجلى الغبار أفرس تحتك أم حمار

وهذا أمر يظهر عند الخاتمة ، وإنما انقطع نياط العارفين خوفا من دواعي الموت ومقدماته الهائلة التي لا يثبت عليها إلا الأقلون فالعاصي إذا كان لا يخاف الخلود في النار بسبب معصيته كالصحيح المنهمك في الشهوات المضرة إذا كان لا يخاف الموت بسبب صحته وأن الموت غالبا لا يقع فجأة فيقال له : الصحيح يخاف المرض ، ثم إذا مرض خاف الموت وكذلك ، العاصي يخاف سوء الخاتمة ، ثم إذا ختم له بالسوء والعياذ بالله وجب الخلود في النار فالعاصي للإيمان كالمأكولات المضرة للأبدان فلا تزال تجتمع في الباطن حتى تغير مزاج الأخلاط وهو لا يشعر بها إلى أن يفسد المزاج فيمرض دفعة ثم يموت دفعة ، فكذلك المعاصي فإذا كان الخائف من الهلاك في هذه الدنيا المنقضية يجب عليه ترك السموم وما يضره من المأكولات في كل حال ، وعلى الفور فالخائف من هلاك الأبد أولى بأن يجب عليه ذلك وإذا كان متناول السم إذا ندم يجب عليه أن يتقيأ ويرجع عن تناوله بإبطاله وإخراجه عن المعدة على سبيل الفور والمبادرة ; تلافيا لبدنه المشرف على هلاك لا يفوت عليه إلا هذه الدنيا الفانية ، فمتناول سموم الدين وهي الذنوب أولى بأن يجب عليه الرجوع عنها بالتدارك الممكن ما دام يبقى للتدارك مهلة وهو ، العمر فإن المخوف من هذا السم فوات الآخرة الباقية التي فيها النعيم المقيم والملك العظيم وفي فواتها نار الجحيم والعذاب المقيم الذي تتصرم أضعاف أعمار الدنيا دون عشر عشير مدته إذ ليس لمدته آخر البتة ، فالبدار البدار إلى التوبة قبل أن تعمل سموم الذنوب بروح الإيمان عملا يجاوز الأمر فيه الأطباء واختيارهم ولا ينفع بعده الاحتماء فلا ينجح بعد ذلك نصح الناصحين ، ووعظ الواعظين وتحق الكلمة عليه بأنه من الهالكين ويدخل تحت عموم قوله تعالى : إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ولا يغرنك لفظ الإيمان فنقول المراد بالآية الكافر إذ بين لك أن الإيمان بضع وسبعون بابا وأن الزاني لا يزني حين يزني وهو مؤمن فالمحجوب عن الإيمان الذي هو شعب وفروع سيحجب في الخاتمة عن الإيمان الذي هو أصل كما أن الشخص الفاقد لجميع الأطراف التي هي حروف وفروع ، سيساق إلى الموت المعدم للروح التي هي أصل فلا بقاء للأصل دون الفرع .

ولا وجود للفرع دون الأصل ، ولا فرق بين الأصل والفرع إلا في شيء واحد ، وهو أن وجود الفرع وبقاءه جميعا يستدعي وجود الأصل وأما وجود الأصل فلا يستدعي وجود الفرع فبقاء الأصل بالفرع ووجود الفرع بالأصل فعلوم المكاشفة وعلوم المعاملة متلازمة كتلازم الفرع والأصل فلا يستغني أحدهما عن الآخر ، وإن كان أحدهما في رتبة الأصل ، والآخر في رتبة التابع وعلوم المعاملة إذا لم تكن باعثة على العمل فعدمها خير من وجودها ، فإن هي لم تعمل عملها الذي تراد له قامت مؤيدة للحجة على صاحبها ولذلك يزاد في عذاب العالم الفاجر على عذاب الجاهل الفاجر كما أوردنا من الأخبار في كتاب العلم .

التالي السابق


(فالعاصي إذا كان لا يخاف الخلود في النار بسبب معصيته كالصحيح المنهمك في الشهوات المضرة) من المأكولات وغيرها، (إذا كان لا يخاف الموت بسبب صحته) وقوة مزاجه، (وأن الموت غالبا لا يقع فجأة) ، بل يتقدمه المرض، (فيقال له: الصحيح يخاف المرض، ثم إذا مرض خاف الموت، فكذلك العاصي يخاف سوء الخاتمة، ثم إذا ختم له بسوء وجب الخلود في النار) عياذا بالله منه، وإذا عرفت ما ذكرنا (فالعاصي للإيمان كالمأكولات المضرة بالأبدان فلا تزال تجتمع في الباطن حتى تغير مزاج الأخلاط) الأربعة عن أصلها، (وهو لا يشعر به) ، وفي نسخة بها (إلى أن يفسد المزاج) من أصله (فيمرض دفعة) واحدة، (ثم يموت دفعة، فكذلك المعاصي) بمنزلة السموم المهلكة، (فإذا كان الخائف من الهلاك في هذه الدنيا المنقضية) الفانية (يجب عليه الترك للسموم وما يضره من المأكولات) المفسدة مزاج البدن (في كل حال، وعلى الفور) بلا تراخ، (فالخائف من هلاك الأبد أولى بأن يجب عليه ذلك) ، وهذا يظهر وجوب التوبة على الفور، (وإذا كان متناول السم إذا ندم) من تناوله بأن راجعه تصديق قول الطبيب (يجب عليه أن يتقايأ) بنحو سمن أو لبن ليفرغ ما استقر في جوفه، (ويرجع عن تناوله بإبعاده وإخراجه من المعدة على سبيل الفور والمبادرة; تلافيا لبدنه المشرف على الهلاك لا يفوت عليه إلا هذه الدنيا الفانية، فمتناول سموم الدين وهي الذنوب أولى بأن يجب عليه الرجوع عنها بما أمكن التدارك ما دام باقيا للتدارك مهلة، وهي العمر) أي مدة بقائه في هذه الدنيا (فإن المخوف من هذا السم فوات الآخرة الباقية التي فيها النعيم المقيم) لا يحول، (والملك العظيم) لا يزول، (وفي فواتها نار الجحيم والعذاب الأليم) ; أي: الموجع (الذي تنصرم) أي: تنقطع وتفنى (أضعاف أعمار الدنيا دون عشر عشير مدته إذ ليس [ ص: 514 ] لمدته آخر البتة، فالبدار البدار) ، والسرعة السرعة (إلى التوبة قبل أن تعمل سموم الذنوب بروح الإيمان عملا يجاوز الأمر فيه اختيار الأطباء) ، وفي نسخة: الأطباء واختبارهم، (ولا ينفع بعده الاحتماء) ، وفي نسخة: الحمية (فلا ينجع) أي: لا ينفع ولا يؤثر (بعد ذلك نصح الناصحين، ووعظ الواعظين) وزجر الزاجرين، (وتحق الكلمة) أي: تجب كلمة الله (عليه بأنه من) الخاسرين (الهالكين) أبد الآبدين، وأشار بذلك إلى قوله تعالى: لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون يعني قوله تعالى: لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ، (ويدخل تحت عموم قوله تعالى: إنا جعلنا في أعناقهم ) جمع عنق بضمتين، وبضم فسكون في لغة الحجاز أي: في رقابهم (أغلالا) جمع غل بالضم، وهو طرف من حديد، وهو تقرير لتصميمهم على الكفر، والطبع على قلوبهم بحيث لا تغني عنهم الآيات والنذر بتمثيلهم بالذين غلت أعناقهم، (فهي) أي: تلك الأغلال (إلى الأذقان) أي: واصلة إلى أذقانهم فلا تخليهم يطأطؤن رءوسهم (فهم مقمحون) رافعون رءوسهم غاضون أبصارهم، ( وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون ) أي: أحاط بهم سدان فغطى أبصارهم بحيث لا يبصرون قدامهم ووراءهم في أنهم محبوسون في مطمورة الجهالة، ممنوعون عن النظر في الآيات والدلائل، ( سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم ) أي: هؤلاء مستو عليهم إنذارك وعدمه لهم، أو معناه إنذارك وعدمه سيان عليهم، والإنذار التخويف من الله، وإنما اقتصر عليه; لأنه أوقع في القلب، وأشد تأثيرا في النفس من حيث إن رفع الضرر أهم من جذب النفع، فإذا لم ينفع فيهم كانت البشارة بعدم النفع أولى، ( لا يؤمنون ) جملة مفسرة لإجمال ما قبلها فيما فيه الاستواء، (ولا يغرنك لفظ الإيمان) من قوله: لا يؤمنون ، وقد نفى عنهم وصف الإيمان، (فتقول المراد به) أشخاص بأعيانهم كأبي جهل حين أراد الفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم فلزقت يده، وقصده آخر فقال: لأرضخنه بهذا الحجر، فأعماه الله تعالى، أو أن المراد به (الكافر) ، وفي نسخة: الكافرون أي: على الإطلاق ممن اتصف بالكفر، (إذ بين لك) مما سبق (أن الإيمان نيف وسبعون بابا وأن الزاني لا يزني حين يزني وهو مؤمن) ، والسارق لا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، (فالمحجوب عن الإيمان الذي هو شعب) متبوعة، (وفروع) متشعبة (سيحتجب في الخاتمة عن الإيمان الذي هو أصل) لتلك الفروع، (كما أن الشخص الفاقد لجميع الأطراف التي هي حروف وفروع، سيساق إلى الموت المعدم للروح التي هي أصل) لبقاء تلك الأطراف، (فلا بقاء للأصل دون الفرع، ولا وجود للفرع دون الأصل، ولا فرق بين الفرع والأصل إلا في شيء واحد، وهو أن وجود الفرع وبقاءه جميعا يستدعي وجود الأصل) فلا بد من وجود الأصل حتى يوجد الفرع ويكون سبب بقائه، (وأما وجود الأصل فلا يستدعي وجود الفرع) فقد يكون موجودا بنفسه من غير فرع (فبقاء الأصل بالفرع) أي: قوته به (ووجود الفرع بالأصل) لأنه السبب فيه، (فعلوم المكاشفة وعلوم المعاملة متلازمة كتلازم الفرع والأصل فلا يستغني أحدهما عن الآخر، وإن كان أحدهما في رتبة الأصل، والآخر في رتبة التابع) له، (وعلوم المعاملة إذا لم تكن باعثة على العمل فعدمها خير من وجودها، فإن هي لم تعمل عملها الذي تراد له) بعد ذلك (قامت) ، وفي نسخة: كانت (مؤيدة للحجة على صاحبها) فأردته إلى أسفل سافلين، (ولذلك يزاد في عذاب العالم الفاجر) الذي علم ولم يعمل بعلمه (على عذاب الجاهل الفاجر) كما قيل:


وعالم بعلمه لن يعملن معذب من قبل عباد الوثن

(كما أوردنا من الأخبار) الواردة من مذاهب العلماء الفجار (في كتاب العلم) وغيره، والله أعلم، وهذا الفضل بعينه هو الفرار، وهو من لواحق التوبة، قال الله تعالى: ففروا إلى الله ; لأن حقيقة الفرار الهرب [ ص: 515 ] من المعصية إلى الطاعة، هذا هو الفرار الواجب، ومن فر من محسوساته - أي: معقولاته - رأى ربه بعين قلبه يقينا، ثم يفر منه إليه، ثم يفر من رؤيته لفراره، وليس وراء الله مرمى .




الخدمات العلمية