الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
فإن قلت : الضروري من القسم الأول التألم بفوات المحتاج إليه دون الغضب ، فمن له شاة مثلا ، وهي قوته فماتت لا يغضب على أحد ، وإن كان يحصل فيه كراهة وليس من ضرورة كل كراهة غضب فإن الإنسان ، يتألم بالفصد ، والحجامة ، ولا يغضب على الفصاد ، والحجام ، فمن غلب عليه التوحيد حتى يرى الأشياء كلها بيد الله ومنه فلا يغضب على أحد من خلقه ; إذ يراهم مسخرين في قبضة قدرته كالقلم في يد الكاتب ، ومن وقع ملك بضرب رقبته لم يغضب على القلم فلا يغضب على من يذبح شاته التي هي قوته كما لا يغضب على موتها إذ يرى الذبح والموت من الله عز وجل ، فيندفع الغضب بغلبة التوحيد ، ويندفع أيضا بحسن الظن بالله ، وهو أن يرى أن الكل من الله تعالى ، وإن الله لا يقدر له إلا ما فيه الخيرة ، وربما تكون الخيرة في مرضه وجوعه ، وجرحه ، وقتله ، فلا يغضب كما لا يغضب على الفصاد والحجام لأنه يرى أن الخيرة فيه .

فنقول : هذا على هذا الوجه غير محال ولكن غلبة التوحيد إلى هذا الحد إنما تكون كالبرق الخاطف تغلب في أحوال مختلفة ، ولا تدوم ويرجع القلب إلى الالتفات إلى الوسائط رجوعا طبيعيا لا يندفع عنه ولو تصور ذلك على الدوام لبشر لتصور لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان يغضب حتى تحمر وجنتاه .

حتى قال اللهم أنا بشر أغضب كما يغضب البشر ، فأيما مسلم سببته ، أو لعنته ، أو ضربته فاجعلها مني صلاة عليه ، وزكاة ، وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة .

وقال عبد الله بن عمرو بن العاص يا رسول الله أكتب عنك كل ما قلت في الغضب ، والرضا ? فقال : اكتب ; فوالذي بعثني بالحق نبيا ما يخرج منه إلا حق وأشار إلى لسانه فلم يقل إني لا أغضب ولكن قال : إن الغضب لا يخرجني عن الحق ، أي : لا أعمل بموجب الغضب وغضبت عائشة رضي الله تعالى عنها مرة ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك جاءك : ؟ شيطانك ، فقالت وما لك ، شيطان قال : بلى ولكني ، دعوت الله ، فأعانني عليه فأسلم ، فلا يأمرني إلا بالخير ولم يقل لا شيطان لي ، وأراد شيطان الغضب ، لكن ، قال : لا يحملني على الشر وقال علي رضي الله تعالى عنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغضب للدنيا ، فإذا أغضبه الحق لم يعرفه أحد ، ولم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له .

فكان يغضب على الحق ، وإن كان غضبه لله ، فهو التفات إلى الوسائط على الجملة ، بل كل من يغضب على من يأخذ ضرورة قوته ، وحاجته التي لا بد له في دينه منها ، فإنما غضب لله ; فلا يمكن الانفكاك عنه ، نعم ، قد يفقد أصل الغضب فيما هو ضروري إذا كان القلب مشغولا بضروري أهم منه ، فلا يكون في القلب متسع للغضب لاشتغاله بغيره ، فإن استغراق القلب ببعض المهمات يمنع الإحساس بما عداه .

وهذا كما أن سلمان لما شتم ، قال : إن خفت موازيني فأنا شر مما تقول ، وإن ثقلت موازيني لم يضرني ما تقول ، فقد كان همه مصروفا إلى الآخرة ، فلم يتأثر قلبه بالشتم وكذلك شتم الربيع بن خثيم فقال يا هذا ، قد سمع الله كلامك ، وإن دون الجنة عقبة إن قطعتها لم يضرني ما تقول ، وإن لم أقطعها ، فأنا شر مما تقول وسب رجل أبا بكر رضي الله عنه ، فقال ما ستر الله عنك أكثر ، فكأنه كان مشغولا بالنظر في تقصير نفسه عن أن يتقي الله حق تقاته ، ويعرفه حق معرفته ، فلم يغضبه نسبة غيره إياه إلى نقصان ; إذ كان ينظر إلى نفسه بعين النقصان ، وذلك لجلالة قدره .

وقالت امرأة لمالك بن دينار يا مرائي ، فقال : ما عرفني غيرك فكأنه كان مشغولا بأن ينفي عن نفسه آفة الرياء ، ومنكرا على نفسه ما يلقيه الشيطان إليه ، فلم يغضب لما نسب إليه وسب رجل الشعبي ، فقال : إن كنت صادقا فغفر الله لي ، وإن كنت كاذبا فغفر الله لك .

التالي السابق


(فإن قلت: الضروري من القسم الأول التألم بفوات المحتاج إليه) ، أي: حصول الألم فيه (دون الغضب، فمن له شاة مثلا، وهي قوته) يشرب من لبنها (فماتت) عليه (لا يغضب على أحد، وإن كان يحصل منه كراهة) ، وتألم بمقتضى الطبع .

(وليس من ضرورة كل كراهة غضب، فالإنسان يتألم بالفصد، والحجامة، ولا يغضب) بعد ذلك (على الفصاد، والحجام، فمن غلب عليه) نور (التوحيد) المطلق الذاتي، والفعلي (حتى) يرى الأشياء كلها من الله تعالى (فلا يغضب على أحد من خلقه; إذ يراهم مسخرين) مذللين منقادين (في قبضة قدرته كالقلم في يد الكاتب، ومن وقع ملك) من الملوك (بضرب رقبته) مثلا (لم يغضب على القلم) ، وأصل التوقيع أثر الكتابة في الكتاب، ومنه استعير التوقيع في القصص، وذلك بأن ترفع رقعة لعملك فيها شكاية حال، أو قصة، فيكتب عليها: يكون كذا وكذا، فيسمى ذلك توقيعا، (فلا يغضب على من يذبح شاته التي هي قوته كما لا يغضب على موتها) بحتف أنفها؛ (إذ يرى الموت والذبح من الله تعالى، فيندفع الغضب بغلبة) نور (التوحيد، ويندفع أيضا بحسن الظن بالله، وهو أن يرى أن الكل من الله، وإن الله لا يقدر له إلا ما فيه الخيرة، وربما تكون الخيرة في جوعه، ومرضه، وجرحه، وقتله، فلا يغضب كما لا يغضب على الفصاد) ، أو الحجام؛ (لأنه يرى أن الخيرة فيه) مع ظنه أنه لا يقدر له إلا ما فيه الخير، (فنقول: هذا على الوجه) المذكور (غير [ ص: 17 ] محال) ، فقد يتصور للعبد أن يترقى إلى هذا المقام، ويكشف عن بصيرته، فيتساوى عنده الذبح والموت، فلا يغضب للذبح كما لا يغضب للموت، وينكشف له حقيقة الحقائق، وعن أسراره الربوبية، وعما ينتج حسن الظن بالله، (ولكن غلبة التوحيد إلى هذا الحد إنما تكون كالبرق الخاطف يغلب في أحوال مختطفة، ولا يدوم) ، ولا يستمر حكمه مع العارف (ويرجع القلب) بعد ذلك (إلى الالتفات إلى الوسائط رجوعا طبيعيا لا يندفع عنه) ، فهو إذا حال لا مقام، (ولو تصور ذلك على الدوام) ، والاستمرار (لبشر لتصور لرسول الله صلى الله عليه وسلم) ، وهو أفضل الخلق أجمعين، وأكمل العباد العارفين، (فإنه كان يغضب أحيانا حتى تحمر وجنتاه) .

رواه مسلم من حديث جابر: كان إذا غضب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، وللحاكم: كان إذا ذكر الساعة احمرت وجنتاه، واشتد غضبه، وقد تقدم في أخلاق النبوة (حتى قال) صلى الله عليه وسلم: (اللهم أنا بشر أغضب كما يغضب البشر، فأيما مسلم سببته، أو لعنته، أو ضربته فاجعلها مني صلاة عليه، وزكاة، وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة) .

قال العراقي: رواه مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ: اللهم إنما أنا بشر، دون قوله: أغضب كما يغضب البشر، وقال: جلدته بدل ضربته، وفي رواية: اللهم إنما محمد بشر يغضب كما يغضب البشر، وأصله متفق عليه، وقد تقدم .

ولمسلم من حديث أنس: إنما أنا بشر أرضى كما يرضى البشر، وأغضب كما يغضب البشر، ولأبي يعلى من حديث أبي سعيد، وأبي هريرة، أو قال: ضربته، وفيه محمد بن إسحاق.

رواه بالعنعنة (وقال عبد الله بن عمرو بن العاص) بن وائل السهمي القرشي - رضي الله عنهما -: (أكتب عنك كل ما قلت في الغضب، والرضا؟ فقال: اكتب; فوالذي بعثني بالحق ما يخرج منه إلا وحي يوحى) .

قال العراقي: رواه أبو داود بنحوه بإسناد صحيح (فلم يقل) صلى الله عليه وسلم: (إني لا أغضب) ، أي: لم ينف عنه الغضب، (ولكن قال: إن الغضب لا يخرجني من الحق، أي: لا أعمل بموجب الغضب) ، ومقتضاه، (وغضبت عائشة) - رضي الله عنها - (مرة، فقال) لها (صلى الله عليه وسلم: ما لك؟ جاء شيطانك، فقالت، وما لك شيطان؟ فقال: بلى، ولكن دعوت الله، فأعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير) .

رواه مسلم في أواخر كتابه قبل باب صفة الجنة، عن هارون بن سعيد الأيلي، عن ابن وهب، عن أبي صخر، عن ابن نشيط، حدثه أن عروة حدثه، أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حدثته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من عندها ليلا، قالت: فغرت عليه، فجاء فرأى ما منع، فقال: ما لك يا عائشة، أغرت؟ فقلت: وما لي لا يغار مثلي على مثلك، فقال صلى الله عليه وسلم: لقد جاء شيطانك .

قلت: يا رسول الله، أو معي شيطان؟ قال: نعم .

قلت: ومع كل إنسان؟ قال: نعم .

قلت: ومعك يا رسول الله؟ قال: نعم، ولكن ربي أعانني عليه، فأسلم
(فلم يقل) صلى الله عليه وسلم: (لا شيطان لي، وأراد شيطان الغضب، لكن، قال: لا يحملني على الشر) ، وقد ذكر هذا الحديث، وتقدم الكلام عليه (وقال علي - كرم الله وجهه -: كان صلى الله عليه وسلم لا يغضب للدنيا، فإذا أغضبه الحق لم يعرفه أحد، ولم يقم لغضبه لشيء حتى ينتصر له) .

رواه الترمذي في الشمائل، وقد تقدم في أخلاق النبوة (فكان يغضب على الحق، وإن كان غضبه لله، فهو التفات إلى الوسائط على الجملة، بل كل من يغضب على من يأخذ ضرورة قوته، وحاجته التي لا بد له في دينه منها، فإنما غضب لله; لأنه) داخل في انتهاك حرمة الله، (فلا يمكن الانفكاك عنه، نعم، قد يفقد أصل الغيظ فيما هو ضروري إذا كان القلب مشغولا بضروري أهم منه، فلا يكون للقلب متسع للغضب لاشتغاله بغيره، فإن استغراق القلب ببعض المهمات يمنع الإحساس بما عداه) ، أي: فلا يحس به، ولا يشعر لغلبة الاستغراق، وذلك إذا أخذ بمجامع قلبه، وأحاط به إحاطة القشر باللب، وقد يتصور مع [ ص: 18 ] بعض الاستغراق الإحساس بغير ما هو فيه، ولكن لا يؤثر عنده (وهذا كما أن سلمان) الفارسي - رضي الله عنه - (لما شتم، قال: إن خفت موازيني) ، أي: موازين حسناته (فأنا شر مما تقول، وإن ثقلت لم يضرني ما تقول، فقد كان) - رضي الله عنه - (همه مصروفا إلى الآخرة، فلم يتأثر قلبه بالشتم) ، ولم يبال به، (وكذلك شتم الربيع بن خيثم) الثوري الكوفي، (فقال) له: (يا هذا، قد سمع الله كلامك، وإن دون الجنة عقبة) كؤودا (إن قطعتها لم يضر بي ما تقول، وإن لم أقطعها، فأنا شر مما تقول) .

أخرجه أبو نعيم في الحلية، (وسب رجل أبا بكر - رضي الله عنه -، فقال) له: (ما ستر الله عنك أكثر، فكأنه) - رضي الله عنه - (كان مشغولا بالنظر في تقصير نفسه عن أن يتقي الله حق تقاته، ويعرفه حق معرفته، فلم تغضبه نسبة غيره إياه إلى نقصان; إذ كان ينظر إلى نفسه بعين النقصان، وذلك لجلالة قدره) ، وعظيم منزلته في المعرفة، (وقالت امرأة لمالك بن دينار) البصري: (يا مرائي، فقال: ما عرفني غيرك) .

أخرجه أبو نعيم في الحلية، (فكأنه كان مشغولا بأن ينفي عن نفسه آفة الرياء، ومنكرا على نفسه ما يلقي الشيطان إليه، فلم يغضب لما نسب إليه) لذلك، (وسب رجل) عامر بن شراحيل (الشعبي، فقال: إن كنت صادقا فغفر الله لي، وإن كنت كاذبا فغفر الله لك) .

أخرجه أبو نعيم في الحلية، وقيل لأبي يزيد البسطامي: لحيتك أفضل أم ذنب الكلب، فقال: إن مت مؤمنا فلحيتي، وإلا فذنب الكلب، فكان همه مشغولا بحسن الخاتمة .




الخدمات العلمية