الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ومنها ما صورته لله ويمكن أن يجعل لغير الله وهو ، ثلاثة : الفكر والذكر والكف عن الشهوات فإن هذه الثلاثة إذا جرت سرا ولم يكن عليها باعث سوى أمر الله ، واليوم الآخر ، فهي لله وليست من الدنيا ، وإن كان الغرض من الفكر طلب العلم للتشرف به ، وطلب القبول بين الخلق بإظهار المعرفة ، أو كان الغرض من ترك الشهوة حفظ المال أو الحمية لصحة البدن أو الاشتهار ، بالزهد فقد صار هذا من الدنيا بالمعنى ، وإن كان يظن بصورته أنه لله تعالى ومنها ما صورته لحظ النفس ، ويمكن أن يكون معناه لله ; وذلك كالأكل والنكاح ، وكل ما يرتبط به بقاؤه ، وبقاء ولده ، فإن كان القصد حظ النفس ، فهو من الدنيا ، وإن كان القصد الاستعانة به على التقوى ، فهو لله بمعناه ، وإن كانت صورته صورة الدنيا . قال صلى الله عليه وسلم : من طلب الدنيا حلالا مكاثرا مفاخرا لقي الله وهو عليه غضبان ، ومن طلبها استعفافا عن المسألة ، وصيانة لنفسه جاء يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر .

فانظر كيف اختلف ذلك بالقصد ، فإذا الدنيا حظ نفسك العاجل الذي لا حاجة إليه لأمر الآخرة ، ويعبر عنه بالهوى ، وإليه الإشارة بقوله تعالى ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى ومجامع الهوى خمسة أمور ، وهي ما جمعه الله تعالى في قوله : أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد والأعيان التي تحصل منها هذه الخمسة سبعة يجمعها قوله تعالى : زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا فقد عرفت أن كل ما هو لله ، فليس من الدنيا ، وقدر ضرورة القوت ، وما لا بد منه من مسكن ، وملبس هو لله إن قصد به وجه الله ، والاستكثار منه تنعم ، وهو لغير الله ، وبين التنعم والضرورة درجة يعبر عنها بالحاجة ، ولها طرفان وواسطة طرف يقرب من حد الضرورة ، فلا يضر ، فإن الاقتصار على حد الضرورة غير ممكن وطرف يزاحم جانب التنعم ، ويقرب منه ، وينبغي أن يحذر منه ، وبينهما وسائط متشابهة ، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه .

والحزم في الحذر والتقوى والتقرب ، من حد الضرورة ما أمكن ; اقتداء بالأنبياء والأولياء عليهم السلام إذا ؛ كانوا يردون أنفسهم إلى حد الضرورة حتى إن أويسا القرني كان يظن أهله أنه مجنون لشدة تضييقه على نفسه فبنوا له بيتا على باب دارهم ، فكان يأتي عليهم السنة ، والسنتان ، والثلاث لا يرون له وجها ، وكان يخرج أول الأذان ويأتي إلى منزله بعد العشاء الآخرة وكان طعامه أن يلتقط النوى وكلما ، أصاب حشفة خبأها لإفطاره ، وإن لم يصب ما يقوته من الحشف باع النوى ، واشترى بثمنه ما يقوته ، وكان لباسه مما يلتقط من المزابل من قطع الأكسية فيغسلها في الفرات ويلفق بعضها إلى بعض ، ثم يلبسها ، فكان ذلك لباسه ، وكان ربما مر الصبيان فيرمونه ويظنون أنه مجنون ، فيقول لهم : يا إخوتاه إن كنتم ، ولا بد أن ترموني فارموني بأحجار صغار ، فإني أخاف أن تدموا عقبي فيحضر وقت الصلاة ، ولا أصيب الماء فهكذا ، كانت سيرته ولقد ; عظم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره ، فقال : إني لأجد نفس الرحمن من جانب اليمن ، إشارة إليه رحمه الله ولما ولي الخلافة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ، قال : أيها الناس ، من كان منكم من العراق فليقم قالوا : فقاموا ، فقال : اجلسوا إلا من كان من أهل الكوفة فجلسوا ، فقال : اجلسوا ، إلا من كان من مراد فجلسوا فقال اجلسوا إلا من كان من قرن فجلسوا كلهم إلا رجلا واحدا ، فقال له عمر : أقرني أنت ? فقال : نعم ، فقال : أتعرف أويس بن عامر القرني فوصفه ، له فقال : نعم ، وما ذاك تسأل عنه يا أمير المؤمنين ? والله ما فينا أحمق منه ، ولا أجن منه ، ولا أوحش منه ، ولا أدنى منه فبكى عمر رضي الله تعالى عنه ، ثم قال : ما قلت ما قلت إلا لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يدخل في شفاعته مثل ربيعة ومضر .

فقال هرم بن حيان لما سمعت هذا القول من عمر بن الخطاب قدمت الكوفة ، فلم يكن لي هم إلا أن أطلب أويسا القرني ، وأسأل عنه حتى سقطت عليه جالسا على شاطئ الفرات نصف النهار يتوضأ ، ويغسل ثوبه فعرفته بالنعت الذي نعت لي ، فإذا رجل لحيم شديد الأدمة محلوق الرأس ، كث اللحية ، متغير جدا ، كريه الوجه ، متهيب المنظر ، قال : فسلمت عليه ، فرد علي السلام ، ونظر إلي ، فقلت : حياك الله من رجل ، ومددت يدي لأصافحه ، فأبى أن يصافحني ، فقلت : رحمك الله يا أويس ، وغفر لك ; كيف أنت رحمك الله ؟ ثم خنقتني العبرة من حبي إياه ، ورقتي عليه ; إذ رأيت من حاله ما رأيت حتى بكيت ، وبكى ، فقال : وأنت فحياك الله يا هرم بن حيان ، كيف أنت يا أخي ومن ؟ دلك علي ? قال : قلت : الله فقال : لا إله إلا الله ، سبحان الله إن كان وعد ربنا لمفعولا ، قال فعجبت : حين عرفني ، ولا والله ما رأيته قبل ذلك ، ولا رآني ، فقلت : من أين عرفت اسمي ، واسم أبي ، وما رأيتك قبل اليوم قال : نبأني العليم الخبير وعرفت ، روحي روحك حين كلمت نفسي نفسك إن الأرواح لها أنفس كأنفس الأجساد ، وإن المؤمنين ليعرف بعضهم بعضا ، ويتحابون بروح الله ، وإن لم يلتقوا يتعارفون ، ويتكلمون ، وإن نأت بهم الدار ، وتفرقت بهم المنازل .

التالي السابق


(ومنها ما صورته لله) تعالى (ويمكن أن يجعل لغير الله، وهي ثلاثة: الفكر والذكر) بالقلب، واللسان (والكف عن الشهوات) النفسانية (فإن هذه الثلاث إذا جرت سرا) ، ولم يطلع عليها [ ص: 122 ] أحد (ولم يكن عليها باعث سوى أمر الله، واليوم الآخر، فهي لله) تعالى (وليست من الدنيا، وإن كان الغرض من الفكر طلب العلم للتشرف به، وطلب القبول بين الخلق بإظهار المعرفة، أو كان الغرض من ترك الشهوة حفظ المال) ، وجمعه (أو الحمية لصحة البدن، أو لاشتهار) بين الناس (بالزهد) ، والصلاح (فقد صار هذا من الدنيا بالمعنى، وإن كان يظن بصورته أنه لله) تعالى .

(ومنها ما صورته لحظ النفس، ويمكن أن يجعل معناه لله; وذلك كالأكل والنكاح، وكل ما يرتبط به بقاؤه، وبقاء ولده، فإن كان القصد حظ النفس، فهو من الدنيا، وإن كان القصد الاستعانة به على التقوى، فهو لله بمعناه، وإن كانت صورته صورة الدنيا .

قال صلى الله عليه وسلم: من طلب الدنيا حلالا مكاثرا مفاخرا لقي الله وهو عليه غضبان، ومن طلبها استعفافا عن المسألة، وصيانة لنفسه جاء يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر) .

تقدم هذا الحديث في كتاب آداب الكسب، وقد رواه أبو الشيخ في الثواب، وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في الشعب من حديث أبي هريرة بسند ضعيف، ولفظهم: من طلب الدنيا حلالا استعفافا عن المسألة، وسعيا على أهله، وتعطفا على جاره; بعثه الله يوم القيامة ووجهه مثل القمر ليلة البدر، ومن طلبها حلالا مكاثرا بها مفاخرا لقي الله - عز وجل - وهو غضبان عليه.

(فانظر كيف اختلف ذلك بالقصد، فإذا الدنيا حظ نفسك العاجل الذي لا حاجة إليه لأمر الآخرة، ويعبر عنه بالهوى، وإليه الإشارة بقوله تعالى: ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى ) فصارت الدنيا طاعة النفس للهوى، (ومجامع الهوى خمسة أمور، وهي ما جمعه الله تعالى في قوله: اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد والأعيان التي تحصل منها هذه الخمسة سبعة يجمعها قوله تعالى: زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا ) .

وأصل هذا منتزع من سياق صاحب القوت، فإنه لما ذكر اختلاف الصوفية في ماهية الزهد، وتباين أقوالهم بما بين الله تعالى في كتابه المبين الذي جعل فيه الشفاء، والغنى، فهو هدى للمتقين، وقد قال صلى الله عليه وسلم: هو الحبل المتين، والصراط المستقيم، من طلب الهدى في غيره أضله الله.

فقد ذكر - جل اسمه - في كتابه أن الدنيا سبعة أشياء، وهو قوله: زين للناس حب الشهوات إلى قوله: والحرث ، ثم قال: ذلك متاع الحياة الدنيا فوصف حب الشهوات بالتزين، ثم نسق الأوصاف السبعة على الحب لها، ثم أشار بقوله: ذلك ، فذا إشارة إلى الكاف، والكاف كناية عن المذكور المتقدم المنسوق، واللام بين ذا والكاف للتمكين والتوكيد، فحصل من تدبر الخطاب أن هذه السبعة جملة الدنيا، وأن الدنيا هي هذه الأوصاف السبعة، وما تفرع من الشهوات رد إلى أصل من هذه الجمل، فمن أحب جميعها فقد أحب جملة الدنيا نهاية الحب، ومن أحب أصلا منها، أو فرعا من أصل، فقد أحب بعض الدنيا، فعلمنا بنص الكلام أن الشهوة دنيا، وفهمنا من دليله أن الحاجات ليست بدنيا; لأنها تقع ضرورات، فإذا لم تكن الحاجة دنيا; لأنها لا تسمى شهوة، وإن كانت قد تشتهى .

ثم سمعناه قد رد هذه الأوصاف السبعة في مكان آخر إلى خمسة معان، فقال: اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر فهذه الخمسة وصف من أحب تلك السبعة، ثم اختصر الخمسة في معنيين هما جامعات للسبعة، فقال: إنما الحياة الدنيا لعب ولهو ، ثم رد الوصفين إلى وصف واحد عبر عنه بمعنيين، فصارت الدنيا ترجع إلى شيئين جامعين مختصرين; يصلح أن يكون كل واحد منهما هو الدنيا، فالوصف الواحد الذي رد الاثنين إليه اللذين هما اللعب واللهو هو الهوى أندر حب السبعة فيه، فقال تعالى: ونهى النفس عن الهوى فصارت الدنيا طاعة النفس للهوى بدليل قوله تعالى: فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى ، فلما كانت الجنة ضد الجحيم، كان الهوى هو الدنيا; لأن النهي عنه ضد الإيثار له، فمن نهى نفسه عن الهوى، فإنه لم يؤثر الدنيا، وإذا لم يؤثر الدنيا، فهذا هو الزهد كانت له الجنة التي هي ضد الجحيم التي هي لمن [ ص: 123 ] لم ينه نفسه عن الهوى بإيثاره الدنيا، فصارت الدنيا هي طاعة الهوى، وإيثاره في كل شيء، فينبغي أن يكون الزهد مخالفة الهوى من كل شيء. ا ه .

وقال أبو القاسم الراغب في الذريعة: اللذات ثلاثة: لذة عقلية، وهي التي يختص بها الإنسان; كالعلم، والحكمة، ولذة بدنية، وهي التي يشارك فيها جميع الحيوان الإنسان; كلذة المأكل والمشرب والمنكح، ولذة مشتركة بين بعض الحيوان وبين الإنسان; كلذة الرياسة والعلية .

وجميع اللذات تنقسم عشرة أقسام، ومآلها سبعة، وهي التي ذكرها أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - لعمار، وقد تقدم ذكره .

ثم قال: والمراد بالنساء اقتناؤهن، والاستكثار منهن، وبالبنين الذكور من الأولاد والحفدة والخدم، وبالأنعام الأزواج الثمانية، وبالخيل المسومة السائمة منها والمستعدة (فقد عرفت أن كل ما هو لله، فليس من الدنيا، وقدر ضرورة القوت، وما لا بد منه من مسكن، وملبس هو لله إن قصد به وجه الله، والاستكثار منه، وهو لغير الله، وبين التنعم والضرورة درجة يعبر عنها بالحاجة، ولها طرفان وواسطة طرف) منها (يقرب من حد الضرورة، فلا يضر، فإن الاقتصار على حد الضرورة غير ممكن) ، قال صاحب القوت: وروينا في أخبار إبراهيم - عليه السلام - في قصة تطول، قال في آخرها: إن الله - عز وجل - قال له: لو بخليلك أنزلت حاجتك لقضاها - يعني نفسه تعالى -، ولم يعنتك وقد كان احتاج وذهب إلى خليل له يستمنحه شيئا، فتوارى عنه، فرجع إبراهيم منكسرا، فلما قيل له ذلك، قال: إلهي، علمت مقتك للدنيا، فخفت أن أسألك منها فتمقتني، فأوحى الله إليه: أما علمت أن الحاجة في الدنيا ليست من الدنيا؟ قال: وروينا مرة أن القوت ليس هو من الدنيا، وقد جاءنا معناه عن نبينا صلى الله عليه وسلم قال: من نظر إلى زهرة الدنيا أصبح ممقوتا في ملكوت السماء، ومن صبر على القوت نزل من الفردوس حيث أحب، فدل ذلك على أن القوت ليس هو من الدنيا; لأنه استثناه منها، فمدحه على الصبر عليه بعد ذمها، (وطرف) آخر (يزاحم) ، أي: يقابل (جانب التنعم، ويقرب منه، وينبغي أن يحذر منه، وبينهما أوساط متشابهة، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه) كما ورد ذلك في الخبر، وتقدم في كتاب الحلال والحرام (والحزم كل الحزم في الحذر من الشبهات والتقوى، فإنها ملاك الأمور كلها، والتقريب من حد الضرورة ما أمكن; اقتداء بالأنبياء والأولياء - عليهم السلام -؛ إذ كانوا يردون أنفسهم إلى حد الضرورة حتى أن أويسا القرني) - رحمه الله تعالى -، وهو ابن عامر بن جزء بن مالك بن عمرو بن سعد بن عمرو بن عصوان بن قرن بن رومان بن ناجية بن مراد، الراوي، القرني، الزاهد، المشهور، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عن عمر، وعلي، وروى عنه يسير بن عمرو، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من تابعي أهل الكوفة، وقال: كان ثقة، وذكره البخاري، فقال: في إسناده نظر، قال ابن عدي: ليس له رواية، لكن كان مالك ينكر وجوده، إلا أن شهرته، وشهرة أخباره لا تسع أحدا أن يشك فيه، وقال عبد الغني بن سعيد: القرني بفتح القاف والراء هو أويس، أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم قبل وجوده، وشهد صفين مع علي - رضي الله عنه - وكان من خيار المسلمين، وروى ضمرة عن أصبع بن زيد، قال: أسلم أويس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن منعه من القدوم بره، وقد روى له مسلم في آخر صحيحه من كلامه، وقتل بصفين على الصحيح المشهور (كان يظنه أهله أنه مجنون من شدة تضييقه على نفسه) ، أي: في المعيشة (فبنوا له بيتا على باب دارهم، فكان يأتي عليهم السنة، والسنتان، والثلاث لا يرون له وجها، وكان يخرج أول الأذان) ، ويمكث في مسجد الحي (و) لا (يأتي منزله) إلا بعد (العشاء الآخرة) ، فلا يرونه لذلك (وكان طعامه أن يلتقط) ما سقط من (النوى، فكلما أصاب حشفة) محركة التمر الرديء الذي رمي به (خبأها لإفطاره، وإن لم يصب ما يقوته باع النوى، واشترى بثمنه ما يقوته، وكان لباسه ما يلتقط من المزابل من قطع الأكسية) التي يرمونها (فيغسلها في الفرات) ، وهي نهر الكوفة (ويلفق بعضها إلى بعض، ثم يلبسها، فكان ذلك لباسه، وكان ربما مر بالصبيان يرجمونه) بالحجارة (ويظنون أنه مجنون، فيقول لهم: يا إخوتاه إن كنتم ترمونني، ولا بد [ ص: 124 ] فارموني بأحجار صغار، فإني أخاف أن تدموا عقبي فيحضر وقت الصلاة، ولا أصيب الماء، فكذا كانت سيرته; ولهذا عظم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره، فقال: إني لأجد نفس الرحمن من جانب اليمن، إشارة إليه) تقدم في كتاب قواعد العقائد، وروى الطبراني في الكبير من حديث سلمة بن نفيل السكوني: إني أجد نفس الرحمن من ههنا، وأشار إلى اليمن... الحديث، وليس له غيره، وقد أخرج النسائي بقية الحديث، ولم يذكر هذه الجملة، وكذا ابن حبان في الأنواع والتقاسيم .

وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي نضرة، عن أسير بن جابر، عن عمر بن الخطاب، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن خير التابعين رجل يقال له: أويس بن عامر، وفي رواية له: فمن لقيه منكم، فمروه فليستغفر لكم.

من طريق قتادة، عن زرارة، عن أسير بن جابر.

ومنها قول عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يأتي عليك أويس بن عامر مع أبداد أهل اليمن، ثم من مراد، ثم من قرن كان به برص فبرئ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بر، لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل... الحديث .

ورواه كذلك ابن سعد، والعقيلي، وأحمد، والحاكم مختصرا، ورواه البيهقي، وأبو نعيم في الدلائل، وفي الحلية من هذا الوجه مطولا، وهو ما ذكره المصنف بقوله: (ولما ولي عمر - رضي الله عنه - الخلافة، قال: أيها الناس، من منكم من العراق فليقم، قال: فقاموا، فقال: اجلسوا إلا من كان من أهل الكوفة فجلسوا، فقال: اجلسوا، إلا من كان من مراد) ، وهي قبيلة من اليمن (فجلسوا كلهم إلا رجلا واحدا، فقال له: أقرني أنت؟ فقال: نعم، فقال: أتعرف أويس بن عامر القرني، فوصف له) بوصفه الذي أخبره به صلى الله عليه وسلم (فقال: نعم، وما تسأل عن ذلك يا أمير المؤمنين؟ والله ما فينا أحمق منه، ولا أجن منه، ولا أوحش منه، ولا أدنى منه) ، أي: أحقر .

وقد رواه ابن منده من طريق سعد بن الصلت، عن مبارك بن فضالة، عن مروان بن الأصفر، عن صعصعة بن معاوية، قال: كان عمر يسأل وفد أهل الكوفة إذا قدموا عليه: تعرفون أويس بن عامر القرني ؟ فيقولون: لا، فذكر نحوه .

ورواه هدبة بن خالد، عن مبارك، فقال: عن أبي الأصفر بدل مروان بن الأصفر.

أخرجه أبو يعلى.

وروى الروياني في مسنده من طريق بكر بن عبد الله، عن الضحاك، عن أبي هريرة، فذكر حديثا في وصف الأتقياء الأصفياء، قال: قلنا: يا رسول الله، كيف لنا برجل منهم؟ قال: ذلك أويس، وساق الحديث في توصية النبي صلى الله عليه وسلم عليا وعمر إذا لقياه أن يستغفر لهما، وفيه قصة طلب عمر إياه (فبكى عمر، ثم قال: ما قلت ما قلت إلا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يدخل الجنة شفاعة مثل ربيعة ومضر) .

قال العراقي: روينا في جزء بن السماك من حديث أبي أمامة: يدخل الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من ربيعة ومضر.

وإسناده حسن، وليس فيه ذكر لأويس، بل في آخره: فكان المشيخة يرون ذلك الرجل عثمان بن عفان. ا ه .

قلت: ما ذكره المصنف رواه ابن أبي شيبة، والحاكم، والبيهقي، وابن عساكر من حديث الحسن مرسلا: يدخل الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من ربيعة ومضر ، قال الحسن: هو أويس القرني، وروى ابن عساكر من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن جده، عن عمر رفعه: يدخل الجنة بشفاعة رجل من أمتي يقال له: أويس، فئام من الناس، وروى البيهقي في الدلائل من طريق الثقفي، عن خالد بن عبد الله بن شفيق، عن عبد الله بن أبي الجدعاء رفعه، قال: يدخل الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من بني تميم.

قال الثقفي: قال هشام بن حسان: كان الحسن يقول: هو أويس القرني.

وقد رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح غريب، ورواه أيضا الحاكم، وليس لعبد الله بن الجدعاء غير هذا الحديث، ورواه ابن عساكر من حديث ابن عباس، ورواه أبو نعيم في الحلية، وابن عساكر أيضا من حديث واثلة بن الأسقع، وأما حديث أبي أمامة الذي ذكره العراقي فأورده الذهبي في كتاب التبيان في سيرة أمير المؤمنين عثمان، وهو عندي بخطه ما نصه شبابة بن سوار، وغيره: حدثنا حرز بن عثمان، عن عبد الله بن ميسرة، وحبيب بن عبد الله بن ميسرة، وحبيب بن عبد الرحمن، عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يدخل بشفاعة رجل من أمتي الجنة مثل أحد الحيين ربيعة [ ص: 125 ] ومضر ، وكان المشيخة يرون أن ذلك الرجل عثمان - رضي الله عنه.

هذا حديث صالح السند غريب. ا ه .

قلت: رواه الطبراني في الكبير، وفيه زيادة، ولفظه: يدخل الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من عدد مضر، ويرتفع الرجل في أهل بيته، ويشفع على قدر عمله، ورواه أحمد، والطبراني أيضا، والضياء بلفظ: ليدخلن بشفاعة رجل لين تقي مثل الحيين أو مثل أحد الحيين ربيعة ومضر ، إنما أقول ما أقول، ثم قال الذهبي في الكتاب المذكور: ويروى بإسناد لا يصح عن ابن عباس مرفوعا: ليدخلن بشفاعة عثمان الجنة سبعون ألفا.

قلت: رواه ابن عساكر بلفظ: ليدخلن الجنة بشفاعة عثمان سبعون ألفا كلهم استوجبوا النار، الجنة بغير حساب، وروى ابن عساكر أيضا من حديث الحسن مرسلا: ليدخلن بشفاعة رجل من أمتي عدد ربيعة ومضر ، قيل: من هو يا رسول الله؟ قال: عثمان بن عفان.

ثم قال الذهبي في الكتاب المذكور: الثوري، ويزيد بن زريع، عن خالد الحذاء ، عن عبد الله بن شفيق العقيلي، قال: جلست إلى نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم ابن الجدعاء، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ليدخلن الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من بني تميم، قالوا: سواك يا رسول الله؟ قال: سواي.

وزاد يزيد، عن الحذاء في حديثه، قال: أظن الرجل عثمان، ولم يسم يزيد في حديثه ابن أبي الجدعاء، بل قال: رجل. ا ه .

(فقال هرم بن حيان) العبدي، قال ابن عبد البر: هو من صغار الصحابة، وعده ابن أبي حاتم في الزهاد الثمانية من كبار التابعين، وقال ابن سعد: ثقة، له فضل، وكان على عبد القيس في الفتوح، وقال ابن حبان: أدرك عمر، وولي الولايات في خلافته، وفي الزهد لأحمد أنه كان يصحب حممة الدوسي، وحممة مات في خلافة عثمان، وفيه أيضا: حدثنا محمد بن مصعب، سمعت مخلدا - هو ابن الحسين - ذكر عن هشام يعني ابن حسان، عن الحسن أن هرما مات في غزاة له في يوم صائف، فلما فرغ من دفنه جاءت سحابة حتى كانت حيال القبر، فرشت القبر حتى روي لا تجاوز قطرة، ثم عادت عودها على بدئها، وكذا رواه ابنه عبد الرزاق في زوائده من طريق ابن جعفر الطباع، عن مخلد.

وأخرجه بسند أبي داود، عن مخلد به، وفي لفظ أبي نعيم في الحلية: مات هرم في يوم صائف شديد الحر، فلما نفضوا أيديهم من قبره جاءت سحابة تسير حتى قامت على قبره، فلم يكن أطول منه، ولا أقصر منه رشته حتى روته، ثم انصرفت، وفي لفظ آخر: لما مات جاءت سحابة، فظللت سريره، فلما دفن رشت على القبر، فما أصابت حول القبر شيئا، وله أيضا من طريق السدي بن يحيى، عن قتادة، قال: مطر قبر هرم من يومه، وأنبت العشب من يومه (لما سمعت هذا القول من عمر بن الخطاب) - رضي الله عنه - (قدمت من الكوفة، فلم يكن لي هم إلا أن أطلب أويسا القرني، وأسأل عنه حتى سقطت عليه جالسا على شاطئ الفرات نصف النهار يتوضأ، ويغسل ثوبه، قال: فعرفته بالنعت الذي نعت، فإذا رجل لحيم شديد الأدمة محلوق الرأس، كث اللحية، متغير جدا، كريه الوجه، متهيب النظر، قال: فسلمت عليه، فرد السلام، ونظر إلي، فقلت: حياك الله من رجل، ومددت يدي لأصافحه، فأبى أن يصافحني، فقلت: رحمك الله يا أويس، وغفر لك; كيف أنت رحمك الله؟، ثم خنقتني العبرة من حبي إياه، ورقتي عليه; إذ رأيت من حاله ما رأيت حتى بكيت، وبكى، فقال: وأنت فحياك الله يا هرم بن حيان، كيف أنت يا أخي؟ من دلك علي؟ قال: قلت: الله) - عز وجل - (فقال: لا إله إلا الله، سبحان الله إن كان وعد ربنا لمفعولا، قال: فتعجبت حين عرفني، ولا والله ما رأيته قبل ذلك، ولا رآني، فقلت: من أين عرفت اسمي، واسم أبي، وما رأيتك قبل اليوم؟ فقال: نبأني العليم الخبير، وعرف روحي روحك حين كلمت نفسي نفسك أن الأرواح لها أنفس كأنفس الأجساد، وإن المؤمنين ليعرف بعضهم بعضا، ويتحابون بروح الله، وإن لم يلتقوا) بالأبدان (يتعارفون، ويتكلمون، وإن نأت) ، أي: بعدت (بهم الدار، وتفرقت بهم المنازل) ، وقد ورد: الأرواح أجناد مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف .

وورد أيضا: إن الأرواح لتشام كما تشام الخيل .

وكل ذلك تقدم في كتاب آداب الصحبة والأخوة .




الخدمات العلمية