الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقال أبو سليمان إن الله عز وجل اطلع على قلوب الآدميين فلم يجد قلبا أشد تواضعا من قلب موسى عليه السلام فخصه من بينهم بالكلام .

وقال يونس بن عبيد وقد انصرف من عرفات : لم أشك في الرحمة لولا أني كنت معهم ؛ إني أخشى أنهم حرموا بسببي .

ويقال : أرفع ما يكون المؤمن عند الله أوضع ما يكون عند نفسه ، وأوضع ما يكون عند الله أرفع ما يكون عند نفسه.

وقال زياد النمري الزاهد بغير تواضع كالشجرة التي لا تثمر .

وقال مالك بن دينار لو أن مناديا ينادي بباب المسجد : ليخرج شركم رحلا ، والله ما كان أحد يسبقني إلى الباب إلا رجلا بفضل قوة أو سعى قال فلما بلغ ابن المبارك قوله قال : بهذا صار مالك مالكا .

وقال الفضيل من أحب الرياسة لم يفلح أبدا .

وقال موسى بن القاسم كانت عندنا زلزلة وريح حمراء ، فذهبت إلى محمد بن مقاتل فقلت : يا أبا عبد الله أنت إمامنا فادع الله عز وجل لنا فبكى ، ثم قال : ليتني لم أكن سبب هلاككم ، قال فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم ، فقال : إن الله عز وجل رفع عنكم بدعاء محمد بن مقاتل .

وجاء رجل إلى الشبلي رحمه الله فقال له : ما أنت ? وكان هذا دأبه وعادته فقال : أنا النقطة التي تحت الباء فقال له الشبلي : أباد الله شاهدك أو تجعل لنفسك موضعا .

وقال الشبلي في بعض كلامه ذلي عطل ذل اليهود .

ويقال : من يرى لنفسه قيمة فليس له من التواضع نصيب .

وعن أبي الفتح بن شخرف قال : رأيت علي بن أبي طالب رضي الله عنه في المنام ، فقلت له : يا أبا الحسن ، عظني ، فقال لي : ما أحسن التواضع بالأغنياء في مجالس الفقراء ؛ رغبة منهم في ثواب الله ! وأحسن من : تيه الفقراء على الأغنياء ثقة منهم بالله عز وجل وقال أبو سليمان لا يتواضع العبد حتى يعرف نفسه .

وقال أبو يزيد ما دام العبد يظن أن في الخلق من هو شر منه فهو متكبر فقيل له فمتى : يكون متواضعا قال : إذا لم ير لنفسه مقاما ولا حالا وتواضع كل إنسان على قدر معرفته بربه عز وجل ومعرفته بنفسه .

وقال أبو سليمان: لو اجتمع الخلق على أن يضعوني كاتضاعي عند نفسي ما قدروا عليه .

وقال عروة بن الورد : التواضع أحد مصايد الشرف وكل نعمة محسود عليها صاحبها إلا التواضع .

وقال يحيى بن خالد البرمكي الشريف إذا تنسك تواضع والسفيه إذا تنسك تعاظم .

وقال يحيى بن معاذ التكبر على ذي التكبر عليك بماله تواضع ويقال : التواضع في الخلق كلهم حسن ، وفي الأغنياء أحسن والتكبر ، في الخلق كلهم قبيح ، وفي الفقراء أقبح ويقال : لا عز إلا لمن تذلل لله عز وجل ولا رفعة إلا لمن تواضع لله عز وجل ولا أمن إلا لمن خاف الله عز وجل ولا ربح إلا لمن ابتاع نفسه من الله عز وجل .

وقال أبو علي الجوزجاني النفس معجونة بالكبر والحرص والحسد فمن أراد الله تعالى هلاكه منع منه التواضع والنصيحة والقناعة وإذا أراد الله تعالى به خيرا لطف به في ذلك ، فإذا هاجت في نفسه نار الكبر أدركها التواضع من نصرة الله تعالى وإذا هاجت نار الحسد في نفسه أدركتها النصيحة مع توفيق الله عز وجل ، وإذا هاجت في نفسه نار الحرص أدركتها القناعة مع عون الله عز وجل .

وعن الجنيد رحمه الله أنه كان يقول يوم الجمعة في مجلسه : لولا أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : يكون في آخر الزمان زعيم القوم أرذلهم .

ما تكلمت عليكم وقال الجنيد أيضا التواضع عند أهل التوحيد تكبر ولعل مراده أن التواضع يثبت نفسه ، ثم يضعها ، والموحد لا يثبت نفسه ولا يراها شيئا حتى يضعها أو يرفعها .

وعن عمرو بن شيبة قال : كنت بمكة بين الصفا والمروة ، فرأيت رجلا راكبا بغلة ، وبين يديه غلمان ، وإذا هم يعنفون الناس ، قال : ثم عدت بعد حين ، فدخلت بغداد ، فكنت على الجسر فإذا أنا برجل حاف حاسر طويل الشعر قال فجعلت أنظر إليه وأتأمله فقال لي ما لك : تنظر إلي ? فقلت له : شبهتك برجل رأيته بمكة ، ووصفت له الصفة ، فقال له : أنا ذلك الرجل ، فقلت : ما فعل الله بك ? فقال : إني ترفعت في موضع يتواضع فيه الناس فوضعني الله حيث يترفع الناس .

وقال المغيرة كنا نهاب إبراهيم النخعي هيبة الأمير وكان يقول : إن زمانا صرت فيه فقيه الكوفة لزمان سوء .

وكان عطاء السلمي إذا سمع صوت الرعد قام وقعد وأخذه بطنه كأنه امرأة ماخض وقال : هذا من أجلي يصيبكم ، لو مات عطاء لاستراح الناس .

وكان بشر الحافي يقول سلموا على أبناء الدنيا بترك السلام عليهم .

ودعا رجل لعبد الله بن المبارك فقال : أعطاك الله ما ترجوه ، فقال إن الرجاء يكون بعد المعرفة ، فأين المعرفة ؟ وتفاخرت قريش عند سلمان الفارسي رضي الله عنه يوما فقال سلمان لكنني خلقت من نطفة قذرة ، ثم أعود جيفة منتنة ، ثم آتي الميزان فإن ثقل فأنا كريم ، وإن خف فأنا لئيم وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : وجدنا الكرم في التقوى ، والغنى في اليقين ، والشرف في التواضع نسأل الله الكريم حسن التوفيق .

التالي السابق


(وقال أبو سليمان) الداراني -رحمه الله تعالى-: (إن الله -عز وجل- اطلع إلى قلوب الآدميين) أي: نظر إليها (فلم يجد قلبا أشد تواضعا من قلب موسى -عليه السلام- فخصه منهم بالكلام) فما ميزه تعالى على أمته وخصه بكلامه إلا لما خص به من كمال تواضعه .

رواه القشيري، عن وهب بن منبه، بلفظ: "وقال وهب: مكتوب في بعض ما أنزل الله من الكتب: إني أخرجت الذر من صلب آدم فلم أجد قلبا أشد تواضعا من قلب موسى؛ فلذلك اصطفيته وكلمته" .

(وقال يونس بن عبيد) البصري -رحمه الله تعالى- (وقد انصرف) راجعا (من عرفات: لم أشك في الرحمة) أي: في أن الله تعالى رحمهم وغفر ذنوبهم (لولا أني كنت معهم؛ إني لأخشى أنهم حرموا بسببي) أي: بسبب ذنوبي، وهذا من مقام الخائفين .

وروى أبو نعيم في الحلية، والقشيري في الرسالة، من طريق شعيب بن حرب قال: "بينا أنا في الطواف إذ لكزني إنسان بمرفقه، فالتفت فإذا هو الفضيل، فقال: يا أبا صالح إن كنت تظن أنه شهد الموسم من هو شر مني ومنك فبئس ما ظننت .

(ويقال: أرفع ما يكون المؤمن عند الله أوضع ما يكون عند نفسه، وأوضع ما يكون عند الله أرفع ما يكون عند نفسه) وهو مصداق الخبر المتقدم: "إذا تواضع العبد رفعه الله، وإذا تكبر وضعه".

(وقال زياد) بن عبد الله (النميري) البصري، روى له الترمذي: (الزاهد بغير تواضع كالشجرة التي لا تثمر) أي: فكما أنه لا ينتفع بها إذا كانت غير مثمرة فكذلك الزاهد لا ينتفع به إذا لم يكن متواضعا .

(وقال مالك بن دينار) البصري -رحمه الله تعالى-: (لو أن مناديا ينادي بباب المسجد: ليخرج شركم رجلا، والله ما كان يسبقني أحد إلى الباب إلا رجل بفضل قوة أو سعي) قال الراوي: (فلما بلغ ابن المبارك قوله قال: بهذا صار مالك مالكا) أي: بهذه المعرفة الدالة على احتقار نفسه وتواضعه نال علو المقام عند الله تعالى .

(وقال الفضيل) بن عياض -رحمه الله تعالى-: ( من أحب الرياسة لم يفلح أبدا ) أي: في طريق القوم؛ فإن حب الرياسة ينبئ عن تكبر النفس المجانب للتواضع، وهذا القول أخرجه أبو نعيم في الحلية .

(وقال موسى بن القاسم) الثعلبي الكوفي: (كانت عندنا زلزلة وريح حمراء، فذهبت إلى محمد بن مقاتل) الهلالي الكوفي (فقلت: يا أبا عبد الله أنت إمامنا فادع الله -عز وجل- لنا) يرفع عنا هذه الزلزلة والريح (فبكى، ثم قال: ليتني لم أكن سبب هلاككم، قال) [ ص: 357 ] موسى (فرأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في النوم، فقال: إن الله دفع) وفي نسخة: رفع (عنكم بدعاء محمد بن مقاتل.

وجاء رجل إلى) أبي بكر (الشبلي) رحمه الله تعالى (فقال له: ما أنت؟ وكان هذا دأبه) وفي نسخة: شأنه (وعادته) أي: في سؤاله بهذا، أي: بما أنت الذي يعم العقلاء وغيرهم، أي: ما حالك؟ وفي بعض نسخ الرسالة: ما أنت؟ (فقال: أنا النقطة التي تحت الباء) أي: باء البسملة، فكما أنها دليل على معرفتها وتمييزها عن غيرها كذلك أنا، وهو يشير إلى مقام الواحدية، وأنها مقام التمييز من الأحدية، ولولا النقطة لما تميزت الباء من الألف (فقال له الشبلي: أباد الله شاهدك) أي: أهلكه (أوتجعل لنفسك موضعا) وفي نسخة: مكانا؟!

ولفظ القشيري في الرسالة: وجاء إلى الشبلي رجل فقال له الشبلي: ما أنت؟ فقال: يا سيدي النقطة التي تحت الباء، فقال: أنت شاهدي ما لم تجعل لنفسك مقاما .

وقال شارحها: أنت شاهدي، أي حاضري، يعني حالك مستقيم، ما لم تجعل لنفسك مقاما .

ودخول هذا في التواضع من حيث إن المسؤول جعل نفسه كالنقطة التي تحت الباء دون التي فوق الحروف، ونزل نفسه ولم ير لها قدرا. اهـ .

وهذا إذا تأملت وجدت كلام من لم يدق في مصطلحات القوم؛ فإن قوله: يعني: حالك مستقيم، يخالف جواب الشبلي؛ فإنه ينكر عليه، فكيف يصف حاله بالاستقامة، على أن سياق المصنف أقعد في فهم المراد؛ فإن المسؤول لما أثبت لنفسه شاهدا ودليلا رد عليه الشبلي، ونبهه أن هذا يخالف التواضع عند أهل الحق؛ فإنهم لا يثبتون لأنفسهم وجودا ولا شاهدا؛ ولذلك قال: أوتجعل لنفسك موضعا أو مكانا؟! وسياق الرسالة فيه غموض ودقة، يحتاج إلى تأويل .

ويروى أن أمير المؤمنين عليا -كرم الله وجهه- سئل يوما: من أنت؟ فقال: أنا النقطة التي تحت الباء، وهذا له وجه؛ لجلالة قدره، وعلو مقامه، لا يتوهم فيه أنه أثبت لنفسه شاهدا، وليس لغيره ولو بلغ الدرجة العليا أن يقلده في مقاله، ولعل هذا سبب إنكار الشبلي عليه؛ إذ لكل ميدان رجال. والحاصل أن هذا القول مباين لمقام التواضع، فتأمل ذلك .

(وقال الشبلي) رحمه الله تعالى في بعض كلامه: (ذلي) في نفسي بمعرفتي بقدرها، وبقلة ما يحصل لي من الخير منها، وبعجزها عن قيامها بما عليها لربها، وبسرعة نقضها لعهدها (عطل ذل اليهود) المذكور في قوله تعالى: ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا فهم أذل الخلق. والمعنى: ذلي في نفسي أعظم من ذل اليهود في أنفسهم؛ لأن ذلهم قهري، وذلي عن علم بما عليه نفسي من النقص، وهذا لا يلزمه جحده لفضل ربه عليه؛ لأن ما ذكر من الذل بالنظر بنفسه، وما هو عليه من الفضل جار عليه من ربه، فهو ذليل عزيز، وهذا القول نقله القشيري قي الرسالة .

(ويقال: من رأى لنفسه قيمة) يفضل بها غيره ليتكبر عليه (فليس له من) وفي نسخة: في (التواضع نصيب) وهذا القول نقله القشيري في الرسالة، عن الفضيل بن عياض.

وفي كلام أبي سليمان الداراني: "من رأى لنفسه قيمة لم يرزق حلاوة العبادة والخدمة" .

(وعن أبي الفتح ابن شخرف) رحمه الله تعالى، تقدم ذكره في كتاب العلم (قال: رأيت علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- في المنام، فقلت له: يا أبا الحسن، عظني، فقال: ما أحسن التواضع بالأغنياء في مجالس الفقراء؛ رغبة منهم في ثواب الله تعالى! وأحسن من ذلك: تيه الفقراء على الأغنياء ثقة منهم بالله تعالى) وهذا من كلام علي مشهور، ذكره صاحب نهج البلاغة دون ذكر الرؤيا .

(وقال أبو سليمان) الداراني -رحمه الله تعالى-: (لا يتواضع العبد) أي: لا يتحقق بهذا المقام (حتى يعرف نفسه) أي: يعرف ما فيها من العيوب والنقص، فإذا عرفها بما فيها تواضع لله حق التواضع .

(وقال أبو يزيد) طيفور بن عيسى البسطامي -قدس سره-: (ما دام العبد يظن أن في الخلق من هو شر منه فهو متكبر) أي: لكونه رأى لنفسه قدرا (فقيل: متى يكون متواضعا) كاملا؟ (قال: إذا لم ير لنفسه مقاما ولا حالا) يفضل بهما غيره .

أورده القشيري في الرسالة، بلفظ: "وقيل لأبي يزيد: متى يكون الرجل متواضعا؟ فقال: إذا لم ير لنفسه مقاما ولا حالا، ولا يرى في الخلق من هو شر منه" انتهى .

وقد اختلفت إشارات الشيوخ في الفرق بين الحال والمقام، والضابط الفارق بينهما أن الحال سمي حالا لتحوله، والمقام مقاما لثبوته واستقراره، وقد يكون الشيء بعينه حالا ثم يصير مقاما. وقال بعضهم: المقامات مكاسب والأحوال مواهب .

وقال [ ص: 358 ] بعضهم: الأحوال مواجيد والمقامات طرق المواجيد .

وقال بعضهم: الأحوال مواريث الأعمال .

وقيل: الحال ما من الله، والمقام ما من العبد .

وقال أطال الكلام فيه صاحب العوارف في آخر كتابه، فراجعه .

(وتواضع كل إنسان على قدر معرفته بربه -عز وجل- ومعرفته بنفسه) فكل من قويت معرفته بنفسه قويت معرفته بربه، وبه يكمل له مقام التواضع .

(وقال عروة بن الورد: التواضع أحد مصائد الشرف) أي: أحد الآلات التي يصطاد بها الشرف (وكل نعمة محسود عليها صاحبها إلا التواضع) إذ الحسد لا يكون إلا على النعم المعروفة للحاسد، والتواضع أكثر الناس لا يعدونه نعمة بل مذمة وقلة همة .

ولفظ الرسالة: وقيل: التواضع نعمة لا يحسد عليها، والكبر محنة، والعز في التواضع، فمن طلبه في الكبر لم يجده .

(وقال يحيى بن خالد) بن برمك (البرمكي) نسبة إلى جده: (الشريف) أي: الرفيع القدر والمقام (إذا تنسك) أي: تعبد (تواضع) فإن تنسكه يجره إليه (والسفيه إذا تنسك تعاظم) على إخوانه، وتكبر عليهم، ولم يزده تنسكه إلا سفها .

(وقال يحيى بن معاذ) الرازي -رحمه الله-: (التكبر على ذي التكبر عليك بماله) أي: إعراضك عنه (تواضع) لأنك صغرت بما صغره الله؛ حيث لم تلتفت إلى تكبر المتكبرين، نقله القشيري في الرسالة، بلفظ: "على من تكبر عليك" .

ويروى نحوه لابن المبارك قال: "التكبر على الأغنياء والتواضع للفقراء من التواضع" .

(ويقال: التواضع في الخلق كلهم حسن، وفي الأغنياء أحسن، والكبر في الخلق كلهم قبيح، وفي الفقراء أقبح) وذلك لوجود أسباب التكبر في الأغنياء من المال والجاه وغيرهما، وفقدها في الفقراء، فكان تواضع الأغنياء أحسن من تواضع الفقراء، وتكبر الفقراء أقبح من تكبر الأغنياء، وهذا القول نقله القشيري في الرسالة، وعزاه إلى يحيى بن معاذ، بلفظ: "التواضع حسن في كل أحد، لكنه في الأغنياء أحسن، والتكبر سمج في كل أحد لكنه في الفقراء أسمج" .

(ويقال: لا عز إلا لمن تذلل لله -عز وجل- ولا رفعة إلا لمن تواضع لله -عز وجل- ولا أمن إلا لمن خاف الله -عز وجل- ولا ربح إلا لمن ابتاع نفسه من الله عز وجل .

وقال أبو علي الجوزجاني) بفتح وسكون الواو والزاي نسبة إلى كورة من خراسان من كور بلخ: (النفس معجونة بالكبر والحرص والحسد) أي: محمولة على هذه الأوصاف الثلاثة من أصل خلقتها (فمن أراد الله تعالى هلاكه منع من التواضع والنصيحة والقناعة) فإذا ترك التواضع ولم يقبل النصح ولم يقنع بما في يده كان إلى الهلاك أقرب (وإذا أراد الله به خيرا لطف به في ذلك، فإذا هاجت في نفسه نار الكبر أدركها التواضع مع نصر الله تعالى) فأطفأها (وإذا هاجت في نفسه نار الحسد أدركتها النصيحة مع توفيق الله عز وجل) لقبولها (فأطفأتها، وإذا هاجت في نفسه نار الحرص أدركتها القناعة مع عون الله) فأطفأتها .

(وعن) أبي القاسم (الجنيد) قدس سره (أنه كان يقول يوم الجمعة في مجلسه: لولا أنه روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: يكون في آخر الزمان زعيم القوم) أي: رئيسهم (أرذلهم ما تكلمت عليكم) قال العراقي: رواه الترمذي من حديث أبي هريرة: "إذا اتخذ الفيء دولا" الحديث "وكان زعيم القوم أرذلهم" الحديث، وقال: غريب .

وله من حديث علي بن أبي طالب: "إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء" فذكر منها: "وكان زعيم القوم أرذلهم".

ولأبي نعيم في الحلية من حديث حذيفة "من اقتراب الساعة اثنتان وسبعون خصلة" فذكر منها، وفيه فرج بن فضالة، ضعيف. اهـ .

قلت: لفظ حديث علي: "إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء: إذا كان المغنم دولا، والأمانة مغنما، والزكاة مغرما، وأطاع الرجل زوجته، وعق أمه، وبر صديقه، وجفا أباه، وارتفعت الأصوات في المساجد، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأكرم الرجل مخافة شره، وشربت الخمور، ولبس الحرير، واتخذت القيان والمعازف، ولعن آخر هذه الأمة أولها، فليرقبوا عند ذلك ريحا حمراء وخسفا أو مسخا" هكذا رواه الترمذي والبيهقي في البعث، وضعفاه .

ولفظ حديث أبي هريرة: "إذا اتخذ الفيء دولا، والأمانة مغنما، والزكاة مغرما، وتعلم لغير الدين، وأطاع الرجل امرأته، وعق أمه، وأدنى صديقه، وأقصى أباه، وظهرت الأصوات في المساجد، وساد القبيلة فاسقهم، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأكرم الرجل مخافة شره، وظهرت [ ص: 359 ] القينات والمعازف، وشربت الخمور، ولعن آخر هذه الأمة أولها، فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء وزلزلة وخسفا ومسخا وقذقا وآيات تتابع كنظام اللآلئ قطع سلكه فتتابع".

(وقال) أبو القاسم (الجنيد) قدس سره: (التواضع عند أهل التوحيد تكبر) وروي عنه أيضا أنه قال: "التواضع خفض الجناح، ولين الجانب" رواه إبراهيم بن فاتك، وقوله الأول يخالف الثاني في الظاهر؛ فإن التواضع في الحقيقة هو ضد التكبر، فكيف يكون الشيء عين نقيضه، وقد وجهه المصنف بقوله: (ولعل مراده أن المتواضع يثبت نفسه أولا فيجعلها شاهدا، ثم يصفها، والموحد لا يثبت نفسه) أصلا (ولا يراها شيئا حتى يضعها أو يرفعها) وهذا هو عين مراد الشبلي في جوابه لمن قال له: أنا النقطة التي تحت الباء، حين قال له: أباد الله شاهدك، أوتضع لنفسك موضعا؟! وكلاهما من واد واحد، هذا يفسر ذلك، فتأمل .

(وعن) أبي يزيد (عمر بن شبة) بفتح المعجمة وتشديد الموحدة ابن عبيدة بن زيد النميري، بالتصغير، البصري، نزيل بغداد، صدوق، له تصانيف، مات سنة اثنين وستين، وقد جاوز التسعين، روى له ابن ماجه (قال: كنت بمكة بين الصفا والمروة، فرأيت رجلا) من عمال الخليفة (راكبا بغلة، وبين يديه غلمان، وإذا هم يعنفون الناس ويطردونهم من بين يديه؛ لأجله، قال: ثم عدت بعد حين، فدخلت بغداد، فكنت على الجسر) الذي على نهر دجلة، الفارق بين الشرقية والغربية، وإليه الإشارة بقول الشاعر:


عيون المها بين الرصافة والجسر سلبن النهى من حيث تدري ولا ندري

(فإذا أنا برجل حاف) الرجل (حاسر) الرأس (طويل الشعر) أشعث، يسأل الناس (فجعلت أنظر إليه) متعجبا من حاله (فقال لي: ما لك تنظر إلي؟ فقلت له: شبهتك برجل رأيته بمكة، ووصفت له الصفة، فقال: أنا ذلك الرجل، فقلت: ما فعل الله بك؟ فقال: إني ترفعت) أي: تكبرت (في موضع تتواضع فيه الناس فوضعني الله حيث يرفع الناس) يعني في بغداد، حيث نقم عليه الخليفة لما وصل إليه، وسلبه جميع ما هو فيه، وصار فقيرا يسأل الناس .

أورده القشيري في الرسالة مختصرا بلفظ: "وقال بعضهم: رأيت في الطواف إنسانا بين يديه شاكرية يمنعون الناس لأجله عند الطواف، ثم رأيته بعد ذلك بمدة على جسر بغداد يسأل الناس شيئا، فعجبت منه، فقال: أنا تكبرت في موضع تتواضع فيه الناس هناك، فابتلاني الله سبحانه وتعالى بالتذلل في موضع يترفع فيه الناس. اهـ .

ويحكى أن الملك الأشرف قايتباي سنة حجه دخل باب السلام راكبا على هيئة، والأمراء بين يديه، ولم يتجاسر أحد أن يقول له: انزل عن الفرس؛ مهابة له، فبينما هو كذلك إذ زلقت رجل الفرس فوقع السلطان على الأرض، وسقطت عمامته، فلم يتناول العمامة، ولم يضعها على رأسه، ودخل الحرم وهو مكشوف الرأس، متذللا متواضعا؛ لأنه تنبه على إساءة أدبه في دخوله راكبا، فتواضع، وطاف هكذا، حاسر الرأس، وعد ذلك في مناقبه رحمه الله تعالى .

(وقال المغيرة) بن مسلم الضبي، مولاهم أبو هاشم الكوفي، ثقة، متقن، مات سنة ست وثلاثين، روى له الجماعة: (كنا نهاب إبراهيم) بن يزيد (النخعي هيبة الأمير) لجلالة قدره (وكان إبراهيم) مع ذلك (يقول: إن زمانا صرت فيه فقيه الكوفة لزمان سوء) وهذا من باب التواضع، وهضم النفس .

قال العجلي: كان النخعي رجلا صالحا فقيها متوقيا، قليل التكلف، وكان مفتي أهل الكوفة هو والشعبي في زمانهما .

(وكان عطاء السليمي) بفتح السين وكسر اللام، ويقال له أيضا: العبدي، وهو من رجال الحلية رحمه الله تعالى (إذا سمع صوت الرعد قام وقعد وأخذ بطنه كأنه امرأة ماخض) أي: التي أخذها طلق الولادة (وقال: هذا من أجلي يصيبكم، لو مات عطاء لاستراح الناس) .

قال أبو نعيم في الحلية: حدثنا أحمد بن جعفر، حدثنا عبد الله بن أحمد، حدثني أحمد بن إبراهيم، حدثنا إبراهيم بن عبد الرحمن، عن سيار، قال: سمعت جعفرا يقول: "هاجت ريح بالبصرة وظلمة، قال: فتشاغل الناس إلى المساجد، فأتيت عطاء، فإذا هو قائم في الحجرة، ويده على رأسه، وهو يقول: إلهي، لم أكن أرى أن تبقيني حتى تريني أعلام القيامة" قال: فما زال قائما حتى أصبح .

حدثنا أبو بكر بن مالك، حدثنا عبد الله بن أحمد، حدثني أحمد بن إبراهيم، حدثنا ابن عبيدة، حدثنا يحيى بن راشد، حدثنا مرجى بن وداع الراسبي قال: "كان عطاء إذا هبت ريح وبرق ورعد قال: هذا من أجلي يصيبكم، لو مات عطاء لاستراح الناس" .

قال: [ ص: 360 ] "وكنا ندخل على عطاء فإذا قلنا له: زاد الطعام، قال: هذا من أجلي يصيبكم غلاء الطعام، لو مت لاستراح الناس" .

وساق المصنف هذا القول هنا بناء على أن هذا من باب التواضع، وفيه نظر؛ فإن عطاء كان ممن غلب عليه الخوف، فما قاله ليس من باب التواضع إنما هو من باب الخوف الغالب على القلب، يمكن أن يقال: إن التواضع هنا هو ثمرة الخوف .

(وكان بشر) بن الحارث (الحافي) رحمه الله تعالى (يقول) لبعض أصحابه تأديبا لهم لما رآهم يسلمون على أبناء الدنيا لدنياهم، ويعتلون بأنهم إنما يقصدون الزيارة: (سلموا على أبناء الدنيا بترك السلام) يعني: ترككم السلام عليهم أسلم لكم من السلام عليهم على الوجه المذكور؛ لأنه حينئذ ليس بطاعة بل فيه خطر. أورده القشيري في الرسالة .

(ودعا رجل لعبد الله بن المبارك) رحمه الله تعالى (فقال: أعطاك الله ما ترجوه، فقال) ابن المبارك: (إن الرجاء يكون بعد المعرفة، فأين المعرفة؟) وهذا من باب التواضع، والرجاء والخوف لا يكملان إلا بعد المعرفة، فمن لم يعرف الله لم يرجه ولم يخفه .

(وتفاخرت قريش) أي: جماعة منهم (عند سلمان) الفارسي رضي الله عنه (يوما) من الأيام أي: بأحسابهم وأنسابهم (فقال سلمان) رضي الله عنه (لكن خلقت من نطفة قذرة، ثم أعود جيفة منتنة، ثم) أبعث (وآتي الميزان) حيث توزن الأعمال (فإن ثقل بالأعمال الصالحة فأنا كريم، وإن خف فأنا لئيم) فأرشدهم سلمان إلى أن الكرم هو التقوى، كما قال تعالى: إن أكرمكم عند الله أتقاكم وليس الكرم بالأنساب والأحساب .

(وقال أبو بكر -رضي الله عنه-: وجدنا الكرم في التقوى، والغنى في اليقين، والشرف في التواضع) وقد رواه ابن أبي الدنيا في كتاب اليقين، من حديث يحيى بن أبي بشر مرسلا، بلفظ: "الكرم التقوى، والشرف التواضع، واليقين الغنى" وقد تقدم قريبا .

وقال القشيري في الرسالة: سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعنا إبراهيم بن شيبان يقول: "الشرف في التواضع، والعز في التقوى، والحرية في القناعة" .




الخدمات العلمية