الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما المكدي ، فإنه إذا طلب ما سعى فيه غيره وقيل له : اتعب ، واعمل كما عمل غيرك فما لك والبطالة ، فلا يعطى شيئا فافتقروا ، إلى حيلة في استخراج الأموال ، وتمهيد العذر لأنفسهم في البطالة فاحتالوا للتعلل بالعجز ; إما بالحقيقة ، كجماعة يعمون أولادهم وأنفسهم بالحيلة ليعذروا بالعمى فيعطون وإما بالتعامي ، والتفالج ، والتجانن ، والتمارض وإظهار ذلك بأنواع من الحيل مع بيان أن تلك محنة أصابت من غير استحقاق ليكون ذلك سبب الرحمة وجماعة يلتمسون أقوالا وأفعالا ، يتعجب الناس منها حتى تنبسط قلوبهم عند مشاهدتها فيسخوا برفع اليد عن قليل من المال في حال التعجب ، ثم قد يندم بعد زوال التعجب ، ولا ينفع الندم ، وذلك قد يكون بالتمسخر والمحاكاة والشعبذة ، والأفعال المضحكة وقد يكون بالأشعار الغريبة والكلام ، المنثور المسجع ، مع حسن الصوت والشعر الموزون أشد تأثيرا في النفس ، لا سيما إذا كان فيه تعصب يتعلق بالمذاهب كأشعار مناقب الصحابة ، وفضائل أهل البيت أو الذي يحرك داعية العشق من أهل المجانة كصنعة الطبالين في الأسواق وصنعة ما يشبه العوض ، وليس بعوض ، كبيع التعويذات والحشيش الذي يخيل بائعه أنها أدوية فيخدع بذلك الصبيان ، والجهال وكأصحاب القرعة ، والفأل من المنجمين ويدخل في هذا الجنس الوعاظ والمكدون على رءوس المنابر إذا لم يكن وراءهم طائل علمي وكان غرضهم استمالة قلوب العوام وأخذ أموالهم بأنواع ، الكدية وأنواعها تزيد على ألف نوع وألفين وكل ذلك استنبط بدقيق الفكرة لأجل المعيشة ، فهذه هي أشغال الخلق وأعمالهم التي أكبوا عليها وجرهم إلى ذلك كله الحاجة إلى القوت ، والكسوة ولكنهم ، نسوا في أثناء ذلك أنفسهم ، ومقصودهم ومنقلبهم ، ومآبهم فتاهوا وضلوا وسبق إلى عقولهم الضعيفة بعد أن كدرتها زحمة الاشتغالات بالدنيا خيالات فاسدة فانقسمت مذاهبهم واختلفت آراؤهم على عدة أوجه .

فطائفة غلبهم الجهل ، والغفلة ، فلم تنفتح أعينهم للنظر إلى عاقبة أمورهم ، فقالوا : المقصود أن نعيش أياما في الدنيا ، فنجتهد حتى نكسب القوت ثم نأكل حتى نقوى على الكسب ، ثم نكسب حتى نأكل ، فيأكلون ليكسبوا ثم يكسبون ، ليأكلوا ، وهذا مذهب الفلاحين والمحترفين ، ومن ليس له تنعم في الدنيا ، ولا قدم في الدين فإنه يتعب نهارا ليأكل ليلا ، ويأكل ليلا ليتعب نهارا ، وذلك كسير السواني فهو سفر لا ينقطع إلا بالموت .

التالي السابق


(وأما المكدي، فإنه إذا طلب ما سعى فيه غيره وقيل له: اتعب، واعمل فيه كما عمل غيرك، فما لك وللبطالة، فلا يعطى شيئا، فافتقر إلى حيلة في استخراج الأموال، وتمهيد العذر لأنفسهم في البطالة فاحتالوا للتعلل بالعجز; إما بالحقيقة، كجماعة يعمون أنفسهم وأولادهم بالحيلة ليعذروا بالعمى فيعطون) ، ولقد حكى لي من أثق به أنه رأى مكديا في بلاد الروم مقطوعا يديه، وهو قاعد على رأس السكة، وهو يقول: أشتهي الرمان، وقد فرش منديلا بين يديه، والناس يرمون له من الدراهم، فخالج في نفسه أن يطلع على كنه حقيقته، فانتظر يوما من الأيام عند غروب الشمس، وقد حاز ما في المنديل، وقام، فتبعه من بعد حتى إذا جاء في زقاق ضيق، ونظر عن يمينه وشماله، ولم ير أحدا فدق الباب، وفتح له فدخل، فاستعجل من وراءه فدق الباب، واستأذن الدخول، وقال: غريب يريد الإيواء، ففتح له الباب، فإذا في البيت جوار قد تلقينه، وقال لهن: أكرمن هذا الضيف، فإذا بيت وسيع، وفراش فاخرة، فأتوا بالطست والإبريق، وغسلن الغبار عن وجهه، وغيرن عليه الثياب الفاخرة غير ثياب الكدية، وأتي بالطعام، وأكل معه، ثم استجر الحديث بأن قال له: ما بالك تفعل كذا، وأنت بهذه الحالة، فقال: يا فلان، إني قد قطعت يدي اختيارا للكدية، وما جمعت هذا الذي ترى إلا من الكدية، وأحضر ولدا له صغيرا، وقد قطع يديه كذلك ليعلمه الكدية، وبات عنده تلك الليلة، وأخذ جلية خبره، فلما أصبح نزع تلك الثياب الفاخرة، ولبس الكدية، وخرج من منزله إلى ما كان عليه، وهذا أغرب ما سمعت .

(وإما بالتعامي، والتفالج، والتجانن، والتمارض) ، أي: ادعاء كل من ذلك، وليس على الحقيقة (وإظهار ذلك بنوع من الحيل) بأن يربط على عينيه خرقة فيظهر أنه أعمى، أو يظهر أنه لا يقدر على حركة يده فيربطها بالخرق، أو أن به فالجا، أو يظهر الخرق فيتكلم بكلام غير منتظم، أو يدعي أمراضا كالبواسير، والنواصير، أو غير ذلك، وقد يربط بساقيه خرقا مدهونة بالزيت والقطران يدعي بذلك أن به جراحات، ولله در أبي زيد السروجي حيث اعتذر عن التعارج، فقال:


تعارجت لا رغبة في العرج ولكن لأقرع باب الفرج

(مع بيان أن تلك محنة أصابت من غير استحقاق ليكون ذلك سبب الرحمة) لحالهم، والشفقة عليهم فيعطون .

وجماعة يدعون أنهم كانوا أهل صناعات نظرية، فانقطعوا عنها بالعمى (وجماعة يلتمسون أفعالا، وأقوالا [ ص: 136 ] يتعجب الناس منها حتى تنبسط قلوبهم عند مشاهدتها) ، وسماعها (حتى يسخو برفع اليدين عن قليل من المال في حال التعجب، ثم قد يندم بعد زوال التعجب، ولا ينفع الندم; لأن الدرهم إذا خرج من الكيس لا يعود إليه، وذلك قد يكون بالتمسخر) ، والاستهزاء بالناس (والمحاكاة) ، والتقليد (والشعبذة، والأفعال المضحكة) ، والحركات المستغربة من عين وحاجب، وتحريك أعضاء، وتعويج فم، وغير ذلك (وقد يكون بالأشعار الغريبة، أو الكلام المنثور، والمسجع مع حسن الصوت) ، ولطف الإيقاع (والشعر الموزون أشد تأثيرا في النفس، لا سيما إذا كان فيه تعصب يتعلق بالمذهب كأشعار مناقب الصحابة، وفضائل أهل البيت) ، ووقائعهم، ومقاتلهم، وما جرى لهم مع إخوانهم، (والذي يحرك داعية العشق من أهل المجانة كصنعة الطبالين في الأسواق) فيوردون من المواليا والدوبيت ما في معانيه تهييج على العشق، وترويج لوصال المحبوب، وما أشبه ذلك (وتسليم ما يشبه العوض، وليس بعوض، كبيع التعويذات) ، والتمائم المزخرفة بألوان المداد (والحشيش الذي يجعل بائعه أنه أدوية فيخدع بذلك الصيبان، والجهال) فيأخذون منهم الدراهم في مقابلته (وكأصحاب القرعة، والفأل من المنجمين) فيكتبون ذلك في رقاع، ويخبرون عما سيقع وسيكون من خير وشر بحكم النجم الطالع، وبحكم الفأل والقرعة (ويدخل في هذا الجنس الوعاظ المكدون على رؤوس المنابر) ، والكراسي (إذا لم يكن وراءهم طائل علمي وكان غرضهم استمالة قلوب العوام) ، وجلبها (وأخذ أموالهم، وأنواع الكدية تزيد على ألف نوع وألفين) .

فإذا نظرنا إلى الفروع التي أحدثها المتأخرون من المكدين، فقد تزيد على ألفين، وهي صناعة مستقلة، ولها شيوخ معروفون، وتراتيب وآداب، وكلها مبناها الحيل والخداع في أخذ أموال الناس بالباطل .

ويدخل في هذا الجنس من يتوسع في تناول عمل غيره في مأكله، وملبسه، ومسكنه، وغير ذلك، ثم لا يعمل عملا بقدر ما يتناوله منهم، فإنه ظالم لهم قصدوا إفادته، أو لم يقصدوا، وكذلك من يدعي التصوف فيتعطل عن المكاسب، ولا يكون له علم يؤخذ عنه، ولا عمل صالح في الدين يقتدى به، بل يجعل همه على غارب بطنه وفرجه، فإنه يأخذ منافعهم، ويضيق عليهم معاشهم، ولا يرد إليهم نفعا، ولا طائل في مثلهم إلا بأن يكدروا الماء ويغلوا الأسعار; ولهذا كان عمر - رضي الله عنه - إذا نظر إلى ذي سيما سأل: أله حرفة؟ فإذا قيل: لا، سقط من عينه.

ومن الدلالة مع قبح من هذا فعله أن الله تعالى ذم من يأكل مال نفسه إسرافا وبدارا، فما حال من أكل مال غيره على ذلك، ولا ينيلهم عوضا، ولا يرد عليهم بدلا .

(وكل ذلك استنبط بدقيق الفكر لأجل المعيشة، فهذه هي أشغال الخلق وأعمالهم التي أكبوا عليها) ، ولازموها (وجرهم إلى ذلك كله الحاجة إلى القوت، والكسوة، ولكن نسوا في أثناء ذلك أنفسهم، ومقصودهم) الذي خلقوا لأجله (ومنقلبهم، ومآبهم فضلوا وتاهوا) في أودية الحيرة (وسبق إلى عقولهم الضعيفة بعد أن كدرتها زحمة أشغال الدنيا خيالات فاسدة فانقسمت مذاهبهم) ، وتنوعت مشاربهم (واختلفت آراؤهم على عدة أوجه؛ فطائفة) منهم (غلبهم الجهل، والغفلة، فلم تنفتح أعينهم للنظر إلى عاقبة أمرهم، فقالوا: المقصود أن نعيش أياما في الدنيا، فنجتهد حتى نكتسب القوت) من حيث اتفق (ثم نأكل حتى نقوى على الكسب، ثم نكتسب حتى نأكل، فيأكلون ليكتسبوا، ويكتسبون ليأكلوا، وهذا مذهب الفلاحين) ، وغالب أهل القرى (والمحترفين، ومن ليس له تنعم في الدنيا، ولا قدم في الدين فإنه يتعب بها نهارا ليأكل ليلا، ويأكل ليلا ليتعب نهارا، وذلك كسير السواني) التي تدور على المياه (فهو سفر لا ينقطع إلا بالموت) ، ولا ينجع في هؤلاء الوعظ والتنبيه لتراكم [ ص: 137 ] الغفلة، وهم كالبهائم يأكلون، ويتعبون، ويأكلون .

(وطائفة أخرى زعموا أنهم تفطنوا الأمر، وهو أنه ليس المقصود أن يشقى الإنسان بالعمل، ولا يتنعم في الدنيا، بل السعادة في أن يقضي وطره من شهوة الدنيا، وهي شهوة البطن، والفرج) ، وهم غالب أهل هذا العصر، قد قصر نظرهم على ذلك (فهؤلاء نسوا أنفسهم، وصرفوا هممهم إلى اتباع النسوان) بقصد نكاح، وملك يمين (وجمع لذائذ الأطعمة) ، والأشربة فيرفقون فيها، ويبالغون في استحسانها (يأكلون كما تأكل الأنعام، ويظنون أنهم إذا أدركوا ذلك، فقد أدركوا غاية السعادات فشغلهم ذلك عن الله، واليوم الآخر) ، وتاهوا عن المقصود .




الخدمات العلمية