الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
السبب السابع : التكبر بالورع والعبادة ، وذلك أيضا فتنة عظيمة على العباد وسبيله أن يلزم قلبه التواضع لسائر العباد ، وهو أن يعلم أن من يتقدم عليه بالعلم لا ينبغي أن يتكبر عليه كيفما كان ؛ لما عرفه من فضيلة العلم ، وقد قال تعالى هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون وقال صلى الله عليه وسلم : فضل العالم على العابد كفضلي على أدنى رجل من أصحابي إلى غير ذلك مما ورد في فضل العلم .

فإن قال العابد : ذلك لعالم عامل بعلمه ، وهذا عالم فاجر ؟ فيقال له : أما عرفت أن الحسنات يذهبن السيئات ، وكما أن العلم يمكن أن يكون حجة على العالم فكذلك يمكن أن يكون وسيلة له ، وكفارة لذنوبه ، وكل واحد منهما ممكن ، وقد وردت الأخبار بما يشهد لذلك وإذا ، كان هذا الأمر غائبا عنه لم يجز له أن يحتقر عالما ، بل يجب عليه التواضع له .

فإن قلت : فإن صح هذا فينبغي أن يكون للعالم أن يرى نفسه فوق العابد ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : « فضل العالم على العابد كفضلي على أدنى رجل من أصحابي » .

فاعلم أن ذلك كان ممكنا لو علم العالم عاقبة أمره ، وخاتمة الأمر مشكوك فيها فيحتمل أن يموت بحيث يكون حاله عند الله أشد من حال الجاهل الفاسق لذنب واحد كان يحسبه هينا وهو عند الله عظيم ، وقد مقته به وإذا كان هذا ممكنا كان على نفسه خائفا . فإذا كان كل واحد من العابد والعالم خائفا على نفسه ، وقد كلف أمر نفسه لا أمر غيره فينبغي أن يكون ، الغالب عليه في حق نفسه الخوف ، وفي حق غيره الرجاء ، وذلك يمنعه من التكبر بكل حال .

فهذا العابد مع العالم . فأما مع غير العالم فهم منقسمون : في حقه إلى مستورين وإلى مكشوفين ، فينبغي أن لا يتكبر على المستور فلعله أقل عنه ذنوبا ، وأكثر منه عبادة ، وأشد منه حبا لله .

وأما المكشوف حاله إن لم يظهر لك من الذنوب إلا ما تزيد عليه ذنوبك في طول عمرك .

فلا ينبغي أن تتكبر عليه ، ولا يمكن أن تقول هو : أكثر مني ذنبا ؛ لأن عدد ذنوبك في طول عمرك وذنوب غيرك في طول العمر لا تقدر على إحصائها ؛ حتى تعلم الكثرة نعم يمكن أن تعلم أن ذنوبه أشد ، كما لو رأيت منه القتل والشرب والرياء ومع ذلك فلا ينبغي أن تتكبر عليه ؛ إذ ذنوب القلوب من الكبر والحسد والرياء والغل واعتقاد الباطل والوسوسة في صفات الله تعالى وتخيل الخطأ في ذلك ، كل ذلك شديد عند الله فربما جرى عليك في باطنك من خفايا الذنوب ما صرت به عند الله ممقوتا وقد جرى للفاسق الظاهر الفسق من طاعات القلوب من حب الله ، وإخلاص ، وخوف ، وتعظيم ما أنت خال عنه ، وقد كفر الله بذلك عنه سيئاته ، فينكشف الغطاء يوم القيامة ، فتراه فوق نفسك بدرجات ، فهذا ممكن ، والإمكان البعيد فيما عليك ينبغي أن يكون قريبا عندك إن كنت مشفقا على نفسك فلا تتفكر ، فيما هو ممكن لغيرك بل فيما هو مخوف في حقك ؛ فإنه لا تزر وازرة وزر أخرى وعذاب غيرك لا يخفف شيئا من عذابك ، فإذا تفكرت في هذا الخطر كان عندك شغل شاغل عن التكبر ، وعن أن ترى نفسك فوق غيرك .

وقد قال وهب بن منبه ما تم عقل عبد حتى يكون فيه عشر خصال ، فعد تسعة حتى بلغ العاشر فقال العاشرة وما العاشرة : بها شاد مجده وبها علا ذكره أن يرى الناس كلهم خيرا منه .

وإنما الناس عنده فرقتان .

فرقة ، هي أفضل منه وأرفع ، وفرقة هي شر منه وأدنى .

فهو يتواضع للفرقتين جميعا بقلبه ، إن رأى من هو خير منه سره ذلك ، وتمنى أن يلحق به ، وإن رأى من هو شر منه قال : لعل هذا ينجو وأهلك أنا ، فلا تراه إلا خائفا من العاقبة ويقول : لعل بر هذا باطن فذلك خير له ، ولا أدري لعل فيه خلقا كريما بينه وبين الله ، فيرحمه الله ، ويتوب عليه ، ويختم له بأحسن الأعمال ويرى ، ظاهر ، فذلك شر لي .

فلا يأمن فيما أظهره من الطاعة أن يكون دخلها الآفات فأحبطتها . ثم قال : فحينئذ كمل عقله ، وساد أهل زمانه فهذا كلامه .

التالي السابق


(السبب السابع: التكبر بالورع والعبادة، وذلك أيضا فتنة عظيمة على العباد) والورعين (وسبيله أن يلزم قلبه التواضع لسائر العباد، وهو أن يعلم أن من تقدم عليه في العلم لا ينبغي أن يتكبر عليه كيفما كان؛ لما عرفه من فضيلة العلم، وقد قال تعالى) في كتابه العزيز: ( هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) تقدم الكلام عليه في أول كتاب العلم .

(وقال صلى الله عليه وسلم: "فضل العالم على العابد كفضلي على أدنى رجل من أصحابي") رواه الترمذي والطبراني من حديث أبي أمامة [ ص: 402 ] بلفظ: "كفضلي على أدناكم" قال الترمذي: حسن صحيح غريب، وقد تقدم في كتاب العلم .

وروى الحارث بن أبي أسامة في مسنده، وابن حبان في الضعفاء، وابن عبد البر في العلم، وابن النجار من حديث أبي سعيد، بلفظ: "كفضلي على أمتي" (إلى غير ذلك مما ورد في العلم) مما تقدم جميعها في كتاب العلم .

(فإن قال العابد: ذلك لعالم عامل بعلمه، وهذا عالم فاجر؟

فيقال له: أما علمت أن الحسنات يذهبن السيئات، وكما أن العلم يمكن أن يكون حجة على العالم فكذلك يمكن أن يكون وسيلة له إلى النجاة، وكفارة لذنوبه، وكل واحد منهما ممكن، وقد وردت الأخبار بما يشهد لذلك، فإذا كان هذا الأمر غائبا عنه لم يجز له أن يحتقر عالما، بل يجب عليه أن يتواضع له) ويراه بعين الكمال .

(فإن قلت: فإن صح هذا فينبغي أن يكون للعالم أن يرى نفسه فوق العابد؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "فضل العالم على العابد كفضلي على أدنى رجل من أصحابي".

فاعلم أن ذلك كان ممكنا لو علم العالم عاقبة أمره، وخاتمة الأمر مشكوك فيها) غير معلومة لأحد (فيحتمل أن يموت بحيث أن يكون حاله عند الله أشد من حال الجاهل الفاسق بذنب واحد كان يحسبه هينا وهو عند الله عظيم، وقد مقته به) وأبغضه بسببه (وإذا كان هذا ممكنا كان على نفسه خائفا .

فإذا: كل واحد من العالم والعابد خائف على نفسه، وقد كلف أمر نفسه لا أمر غيره، فيكون الغالب عليه في حق نفسه الخوف، وفي حق غيره الرجاء، وذلك يمنعه من التكبر بكل حال، فهذا حال العابد مع العالم .

فأما مع غير العالم: فينقسمون في حقه إلى مستورين وإلى مكشوفين، فينبغي أن لا يتكبر على المستور) الذي لم يجاهر بمعصيته (فلعله أقل منه ذنوبا، وأكثر منه عبادة، وأشد منه حبا لله .

وأما المكشوف حاله) عند الناس (إن لم يظهر لك من الذنوب إلا ما تزيد عليه ذنوبك في طول عمرك فلا ينبغي أن تتكبر عليه، ولا يمكن) لك (أن تقول: هذا أكثر مني ذنبا؛ لأن عدد ذنوبك وذنوب غيرك في طول العمر لا تقدر على إحصائها؛ حتى تعلم الكثرة) فيها (نعم يمكن أن يعلم أن ذنوبه أشد، كما لو رأيت منه القتل والشرب والزنا) وغيرها من الكبائر (ومع ذلك فلا ينبغي أن تتكبر عليه؛ إذ ذنوب القلب من التكبر والحسد والرياء والغل واعتقاد الباطل والوسوسة في صفات الله تعالى وتخيل الخطأ في ذلك، كل ذلك شديد عن الله) مؤاخذ به العبد .

(فربما جرى عليك في باطنك من خفايا الذنوب ما صرت به عند الله ممقوتا) وأنت لا تشعر (وقد جرى للفاسق الظاهر الفسق من طاعات القلوب من حب الله، وإخلاص، وخوف، وتعظيم) لأمر الله (ما أنت خال عنه، وقد كفر الله بذلك عنه سيئاته، فينكشف الغطاء يوم القيامة، فتراه فوق نفسك بدرجات، فهذا ممكن، والإمكان البعيد فيما عليك ينبغي أن يكون قريبا عندك إن كنت مشفقا على نفسك، ولا تفكر فيما هو ممكن لغيرك بل فيما هو مخوف في حقك؛ فإنه لا تزر وازرة وزر أخرى) أي: لا تحمل حاملة ذنب نفس أخرى .

(وعذاب غيرك لا يخفف شيئا من عذابك، فإذا تفكرت في هذا الخطر كان عندك شغل شاغل عن التكبر، وعن أن ترى نفسك فوق نفس غيرك .

وقد قال وهب بن منبه) اليماني -رحمه الله تعالى-: (ما تم عقل عبد حتى يكون فيه عشر خصال، فعد تسعا حتى بلغ العاشرة، فقال: العاشرة: [ ص: 403 ] وما العاشرة) .

أخرجه أبو نعيم في الحلية فقال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن مخلد، حدثنا الحارث بن أبي أسامة، حدثنا داود بن المحبر، حدثنا عباد بن كثير، ح وحدثنا أحمد بن السندي، حدثنا الحسن بن علويه القطان، حدثنا إسماعيل بن عيسى، حدثنا إسحاق بن بشير، كلاهما عن إدريس، عن جده وهب بن منبه قال: "ما عبد الله بشيء أفضل من العقل، وما تم عقل امرئ حتى يكون فيه عشر خصال، حتى يكون فيه الكبر مأمونا، والرشد فيه مأمولا، يرضى من الدنيا بالقوت، وما كان من فضل فمبذول، التواضع فيها أحب إليه من الشرف، والذل فيها أحب إليه من العز، لا يسأم من طلب العلم دهره، ولا يتبرم من مطالب الخير، ولا يستكثر قليل المعروف من غيره ويستقل كثير المعروف من نفسه، والعاشرة هي ملاك أمره (بها ساد مجده) ولفظ الحلية: ينال مجده (وبها علا) ولفظ الحلية: يعلو (ذكره) وزاد بعده: وبها علا في الدرجات في الدارين كلاهما .

قيل: وما هي؟ قال: (أن يرى الناس كلهم خيرا منه، وإنما الناس عنده فرقتان، ففرقة هي أفضل منه وأرفع، وفرقة هي شر منه وأدنى، فهو يتواضع للفرقتين جميعا بقلبه، إن رأى من هو خير منه) وأفضل (سره ذلك، وتمنى أن يلحق به، وإن رأى من هو شر منه) وأرذل (قال: لعل هذا ينجو وأهلك أنا، فلا تراه إلا خائفا من العاقبة، ويقول: لعل بر هذا باطن) ولفظ الحلية: لعل لهذا باطنا لم يظهر لي (فذلك خير له، ولا أدري لعل فيه خلقا كريما بينه وبين الله، فيرحمه الله، ويتوب عليه، ويختم له بأحسن الأعمال، وبري ظاهر، فذلك شر لي) ولفظ الحلية: ولعل ذلك شر لي .

(فلا يأمن فيما أظهره من الطاعات أن يكون دخلها الآفات فأحبطتها. ثم قال: فحينئذ كمل عقله، وساد أهل زمانه) ولفظ الحلية: هناك يكمل عقله، ويسود أهل زمانه، وكان من السباق إلى رحمة الله -عز وجل- وجنته إن شاء الله (فهذا كلامه) وفي سياق الحلية اختصار ومخالفة في بعض المواضع .




الخدمات العلمية