الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وظنت طائفة أخرى أن القتل لا يخلص بل لا بد أولا من إماتة الصفات البشرية وقطعها عن النفس بالكلية وأن ، السعادة في قطع الشهوة والغضب ، ثم أقبلوا على المجاهدة وشددوا على أنفسهم حتى هلك بعضهم بشدة الرياضة وبعضهم فسد عقله وجن وبعضهم مرض وانسد عليه .الطريق في العبادة وبعضهم عجز عن قمع الصفات بالكلية فظن أن ما كلفه الشرع محال وأن الشرع تلبيس لا أصل له فوقع في الإلحاد وظهر لبعضهم أن هذا التعب كله لله ، وأن الله تعالى مستغن عن عبادة العباد لا ينقصه عصيان عاص ، ولا تزيده عبادة متعبد ، فعادوا إلى الشهوات وسلكوا مسلك الإباحة وطووا بساط الشرع والأحكام وزعموا ، أن ذلك من صفاء توحيدهم حيث اعتقدوا أن الله مستغن عن عبادة العباد .

وظن طائفة أن المقصود من العبادات المجاهدة حتى يصل العبد بها إلى معرفة الله تعالى فإذا حصلت المعرفة فقد وصل ، وبعد الوصول يستغني عن الوسيلة والحيلة فتركوا السعي والعبادة وزعموا أنه ارتفع محلهم في معرفة الله سبحانه عن أن يمتهنوا بالتكاليف وإنما التكليف على عوام الخلق ووراء هذا مذاهب باطلة ، وضلالات هائلة يطول إحصاؤها إلى ما يبلغ نيفا وسبعين فرقة وإنما الناجي منها فرقة واحدة وهي السالكة ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه وهو أن لا يترك الدنيا بالكلية ، ولا يقمع الشهوات بالكلية ، أما الدنيا فيأخذ منها قدر الزاد وأما الشهوات ، فيقمع منها ما يخرج عن طاعة الشرع والعقل ولا ، يتبع كل شهوة ، ولا يترك كل شهوة ، بل يتبع العدل ولا يترك كل شيء من الدنيا ، ولا يطلب كل شيء من الدنيا ، بل يعلم مقصود كل ما خلق من الدنيا ، ويحفظه على حد مقصوده ، فيأخذ من القوت ما يقوي به البدن على العبادة ومن المسكن ما يحفظ عن اللصوص والحر ، والبرد ، ومن الكسوة كذلك حتى إذا فرغ القلب من شغل البدن أقبل على الله تعالى بكنه همته واشتغل بالذكر ، والفكر طول العمر ، وبقي ملازما لسياسة الشهوات ، ومراقبا لها حتى لا يجاوز حدود الورع والتقوى .

التالي السابق


(وظنت طائفة أخرى أن الموت لا يخلص) من محن الدنيا (بل لا بد أولا من أمانة الصفات البشرية) المذمومة (وقطعها عن النفس بالكلية، وإن السعادة في قطع الشهوة والغضب، ثم أقبلوا على المجاهدة) الشديدة (وشددوا على أنفسهم حتى هلك بعضهم بشدة الرياضة) كما فعل ذلك في بعض أولياء العجم (وبعضهم فسد عقله وجن) كما وقع ذلك لبعض أهل عبادات، وكان أبو سليمان الداراني - رحمه الله تعالى - ينكر عليهم ذلك، ويقول: يا أهل عبادات احفظوا عقولكم، ويقول: إن من ترك الرسم فسد دماغه، وقد تقدم ذلك في كتاب رياضة النفس (وبعضهم مرض) ، وفتر عن العمل (وأفسد عليه طريق العبادة) ، وهذا يقع لكثير من المتريضين (وبعضهم عجز عن قمع الصفات بالكلية فظن أن ما كلفه الشرع) من قمعها (محال) ليس من الممكنات (وأن الشرع تلبيس لا أصل له) ، ويحمل ألفاظه على غير معانيه مما تنتجه أفكاره (فوقع في) عدة (الاتحاد) ، وخرج من ربقة الدين (وظهر لبعضهم أن هذا التعب كله لله، وأن الله مستغن عن عبادة العباد لا ينقصه عصيان، ولا يزيده عبادة متعبد) ، وتمكن الشيطان منهم في هذا الفهم السخيف (وقواه فيهم حتى انسلخوا، فعادوا إلى الشهوات) ، واللذات (وسلكوا مسلك الإباحة) في سائر [ ص: 139 ] ما يتناولونه (وطووا بساط الشرع) على غرته (و) أبطلوا مقتضيات (الأحكام، فزعموا أن ذلك من صفاء توحيدهم) ، أي: كلفوه (حيث إنهم اقتنعوا أن الله مستغن عن عبادة العباد) ، وهي دسيسة عظيمة هلك بها طوائف من المتصوفة لعدم إتقانهم في العلم، وإنما معنى غناه - عز وجل - تنزهه عن العلاقة مع الأغيار في الذات والصفات.

(وظن طائفة أخرى أن المقصود من العبادات المجاهدة حتى يصل العبد بها إلى معرفة الله تعالى) يتخلق بأخلاق الله تعالى (فإذا حصلت المعرفة) ، وحصل التخلق (فقد وصل إلى المقصود إليهم، وبعد الوصول) إلى هذا المقام (يستغني عن الوسيلة) ، وأعمال الحيلة، فتركوا السعي، والعبادة، ورفضوها بالكلية (وزعموا أنهم ارتفع محلهم في معرفة الله تعالى من أن يمتهنوا) ، أي: يزلوا (بالتكاليف) الشرعية، فهم خواص الخواص (وإنما التكاليف على عوام الخلق) حتى سلبوا ذلك المقام، وربما تعلقوا بقوله تعالى: واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ، أي: فإذا وصلت إلى مقام اليقين، فقد سقطت عنك العبادة، ومنهم من قال: سلمنا أن المراد باليقين الموت، فنحن قد أمتنا نفوسنا بالكلية، فارتفعت عنا تكاليف العبادة، ومنهم من يعتمد ذلك، فإذا دخل ضال مثله في سلكه، فأمره أن يغسل، ويكفن، ويجهز تجهيز الموتى، ثم يتقدم عليه فيصلي صلاة الجنازة، ثم يقول له: قم، فقد صرت في عداد الموتى، وسقطت عنك التكاليف، وكل ذلك تلبيس، وضلال، وشناعات، وغالب الملاحدة على ذلك، وبعض طوائف من جهلة الصوفية أعاذنا الله من أحوالهم .

(ووراء هذا) الذي أوردناه (مذاهب) أخرى (باطلة، وضلالات هائلة) لا طائل تحتها (يطول إحصاؤها إلى أن تبلغ نيفا وسبعين فرقة) على ما أورده الشهرستاني في الملل والنحل، وصاحب الشجرة، وغيرهما ممن ألف في بيان الفرق الإسلامية، وكلهم في النار .

(وإنما الناجي منها فرقة واحدة) بنص الخبر الآتي (وهي السالكة ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه) الكرام - رضوان الله عليهم - (وهو أن لا يترك الدنيا بالكلية، ولا يقمع الشهوات بالكلية، أما الدنيا فيأخذ منها قدر الزاد) المبلغ له إلى الآخرة، فقد ورد في الخبر: وليكن بلاغ أحدكم من الدنيا كزاد الراكب .

(وأما الشهوات، فيقمع منها ما يخرج عن طاعة الشرع، و) انقياد (العقل، فلا يتبع كل شهوة، ولا يترك كل شهوة، بل يتبع) طريق (العدل) ، والاقتصاد، (ولا يترك كل شيء من الدنيا، ولا يطلب كل شيء من الدنيا ، بل يعلم مقصود كل ما خلق الله من الدنيا، ويحفظه على حد مقصوده، فيأخذ من القوت ما يقوي به البدن على العبادة) ، وإليه الإشارة بقوله: حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه (ومن المسكن) ما لا بد منه، وهو (ما يحفظ عن) تطرق (اللصوص، و) يحميه (عن) نكاية (الحر، والبرد، ومن الكسوة كذلك) ، أي: قدر ما يستر به عورته، ويكون به وقاية الحر، والبرد (حتى إذا فرغ القلب من شغل البدن أقبل على الله بكنه الهمة) ، أي: خالصها (واشتغل بالذكر، والفكر) ، والمراقبة (طول العمر، وبقي ملازما لسياسة الشهوات، ومراقبا لها حتى لا يجاوز حدود الورع والتقوى) ، وإلى هذا الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: ليس خيركم من ترك هذه، وأخذ هذه، بل خيركم من أخذ من هذه لهذه.

يعني الدنيا والآخرة .

وروى الخطيب، والديلمي من حديث أنس: خيركم من لم يترك آخرته بالدنيا، ولا دنياه لآخرته، ولم يكن كلا على الناس.

ورواه ابن عساكر بلفظ: ليس بخيركم من ترك دنياه لآخرته، ولا آخرته لدنياه حتى يصيب منهما جميعا، فإن الدنيا بلاغ إلى الآخرة، ولا تكونوا كلا على الناس.




الخدمات العلمية