الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وأما المتقي فجهده في زيادة الدرجات فإن حبط تطوعه بقي من حسناته ما يترجح على السيئات فيدخل الجنة .

فإذن : ينبغي أن يلزم قلبه خوف اطلاع غير الله عليه ؛ لتصح نوافله ، ثم يلزم قلبه ذلك بعد الفراغ ؛ حتى لا ، يظهره ولا يتحدث به وإذا ، فعل جميع ذلك فينبغي أن يكون وجلا من عمله ، خائفا أنه ربما داخله من الرياء الخفي ما لم يقف عليه ، فيكون شاكا في قبوله ورده ، مجوزا أن يكون الله قد أحصى عليه من نيته الخفية ما مقته بها ورد عمله بسببها ، ويكون هذا الشك والخوف في دام عمله ، وبعده إلا ، في ابتداء العقل ، بل ينبغي أن يكون متيقنا في الابتداء أنه مخلص ، ما يريد بعمله إلا الله ؛ حتى يصح عمله ، فإذا شرع ومضت لحظة يمكن فيها الغفلة والنسيان كان الخوف من الغفلة عن شائبة خفية أحبطت عمله من رياء أو عجب أولى به ولكن يكون رجاؤه أغلب من خوفه ؛ لأنه استيقن أنه دخل بالإخلاص وشك في أنه هل أفسده برياء ، فيكون رجاء القبول أغلب ، وبذلك تعظم لذته في المناجاة والطاعات .

فالإخلاص يقين والرياء شك .

وخوفه لذلك الشك جدير بأن يكفر خاطر الرياء إن كان قد سبق وهو غافل عنه .

والذي . يتقرب إلى الله بالسعي في حوائج الناس وإفادة العلم ينبغي أن يلزم نفسه رجاء الثواب على دخول السرور على قلب من قضى حاجته فقط ، ورجاء الثواب على عمل المتعلم بعلمه فقط ، دون شكر ومكافأة وحمد وثناء من المتعلم والمنعم عليه ؛ فإن ذلك يحبط الأجر .

فمهما توقع من المتعلم مساعدة في شغل ، وخدمة ، أو مرافقة في المشي في الطريق ليستكثر باستتباعه أو ترددا منه في حاجة فقد أخذ أجره بلا ، ثواب له غيره .

نعم ، إن لم يتوقع هو ولم يقصد إلا الثواب على عمله بعلمه ؛ ليكون له مثل أجره ، ولكن خدمه التلميذ بنفسه فقبل خدمته فنرجو أن لا يحبط ذلك أجره إذا كان لا ينتظره ولا يريده منه ولا يستبعده منه لو قطعه .

ومع هذا فقد كان العلماء يحذرون هذا ، حتى إن بعضهم وقع في بئر فجاء قوم فأدلوا حبلا ليرفعوه فحلف عليهم أن لا يقف معهم من قرأ عليه آية من القرآن ، أو سمع منه حديثا ؛ خيفة أن يحبط أجره .

وقال شقيق البلخي أهديت لسفيان الثوري ثوبا فرده علي فقلت له : يا أبا عبد الله لست أنا ممن يسمع الحديث حتى ترده علي قال علمت ذاك ، ولكن أخوك يسمع مني الحديث ، فأخاف أن يلين قلبي لأخيك أكثر مما يلين لغيره .

وجاء رجل إلى سفيان ببدرة أو بدرتين ، وكان أبوه صديقا لسفيان ، وكان سفيان يأتيه كثيرا فقال له : يا أبا عبد الله ، في نفسك من أبي شيء ? فقال : يرحم الله أباك كان وكان وأثنى ، عليه فقال : يا أبا عبد الله ، قد عرفت كيف صار هذا المال إلي فأحب أن تأخذ هذه تستعين بها على عيالك ، قال : فقبل سفيان ذلك قال ، فلما خرج قال لولده يا مبارك الحقه فرده علي فرجع فقال أحب أن تأخذ مالك فلم يزل به حتى رده عليه .

وكأنه كانت أخوته مع أبيه في الله تعالى فكره أن يأخذ ذلك .

قال ولده : فلما خرج لم أملك نفسي أن جئت إليه ، فقلت : ويلك ! أي شيء قلبك هذا ؟! حجارة ! عد أنه ليس لك عيال ، أما ترحمني ؟! أما ترحم إخوتك ؟! أما ترحم عيالنا ؟! فأكثرت عليه ، فقال لي : يا مبارك ! تأكلها أنت هنيئا مريئا وأسأل عنها أنا .

فإذن : يجب على العالم أن يلزم قلبه طلب الثواب من الله في اهتداء الناس به فقط ويجب على المتعلم أن يلزم قلبه حمد الله ، وطلب ثوابه ، ونيل المنزلة عنده لا عند المعلم وعند الخلق .

وربما يظن أن له أن يرائي بطاعته لينال عند المعلم رتبته ، فيتعلم منه ، وهو خطأ ؛ لأن إرادته بطاعته غير الله خسران في الحال ، والعلم ربما يفيد وربما لا يفيد فيكف ، يخسر في الحال عملا نقدا على توهم علم وذلك غير جائز بل ينبغي ، أن يتعلم لله ، ويعبد الله ، ويخدم المعلم لله ، لا ليكون له في قلبه منزلة إن كان يريد أن يكون تعلمه طاعة ؛ فإن العباد أمروا أن لا يعبدوا إلا الله ، ولا يريدوا بطاعتهم غيره .

وكذلك من يخدم أبويه لا ينبغي أن يخدمهما لطلب المنزلة عندهما ، إلا من حيث إن رضا الله عنه في رضا الوالدين ولا يجوز له أن يرائي بطاعته لينال بها منزلة عند الوالدين ؛ فإن ذلك معصية في الحال ، وسيكشف الله عن ريائه ، وتسقط منزلته من قلوب الوالدين أيضا .

التالي السابق


(أما المتقي فجهده في زيادة الدرجات) ورفعها (وإن حبط تطوعه بقي من حسناته ما يترجح به على السيئات فيدخل الجنة) بفضل الله ورحمته .

(فإذا: ينبغي أن يلزم قلبه خوف اطلاع غير الله عليه؛ لتصح نوافله، ثم يلزم قلبه ذلك بعد الفراغ؛ حتى لا يتحدث به، ولا يظهره للناس، فإذا فعل جميع ذلك فينبغي أن يكون وجلا من عمله، خائفا أنه ربما داخله من الرياء الخفي ما لا يقف عليه، فيكون شاكا في قبوله ورده، مجوزا أن يكون الله قد أحصى عليه من نيته الخفية ما مقته بها) أي: أبغضه (ورد عمله بسببها، ويكون هذا الشك والخوف في دوام عمله، وبعده، لا في ابتداء العقد، بل ينبغي أن يكون متيقنا في الابتداء أنه مخلص، ما يريد بعمله إلا الله؛ حتى يصح عمله، فإذا شرع فيه ومضت لحظة تمكن فيها الغفلة والنسيان كان الخوف من الغفلة عن شائبة خفية أحبطت عمله من رياء أو عجب أولى به) وبه يكون تمام عمله بالإخلاص، فيعطى لآخره حكم أوله .

(ولكن يكون رجاؤه أغلب من خوفه؛ لأنه استيقن أنه دخل بإخلاص) في ابتداء العقد (وشك أنه هل أفسده برياء، فيكون رجاء القبول أغلب، وبذلك تعظم لذته في المناجاة والطاعات، فالإخلاص يقين والرياء شك) واليقين لا يزال بالشك (وخوفه لأجل الشك جدير بأن يكفر خاطر الرياء إن كان قد سبق وهو غافل عنه .

و) أما (الذي يتقرب إلى الله بالسعي في حوائج الناس) التي يضطرون إليها (و) في (إفادة العلم) فإنه (ينبغي أن يلزم نفسه رجاء الثواب على دخول السرور على قلب من قضى حاجته فقط، ورجاء الثواب على عمل المتعلم بعلمه فقط، دون شكر ومكافأة وحمد وثناء من المتعلم والمنعم عليه؛ فإن ذلك يحبط الأجر، فمهما توقع) أي: ترجى (من المتعلم مساعدة في شغل، وخدمة، أو مرافقة إلى المشي في الطريق يستكثر باتساعه) له، أو مشيه خلفه راكبا أو ماشيا (أو ترددا منه في حاجة) من حاجاته المتعلقة به (فقد أخذ أجره، ولا ثواب له غيره .

نعم، إن لم يتوقع هو) ذلك (ولم يقصد إلا الثواب على عمله بعمله؛ ليكون له مثل أجره، ولكن) لو (خدمه التلميذ بنفسه) من غير طلب منه (فقبل خدمته فيرجو أن لا يحبط لذلك أجره) إذ كان لا ينتظره (ولا يريده منه) ولا يطلبه (ولا يستعيده منه لو قطعه، ومع هذا فقد كان العلماء يحذرون هذا، حتى إن بعضهم وقع في بئر) فاستغاث (فجاء قوم فأدلوا) له (حبلا ليرقوه) وفي نسخة: ليرفعوه (فحلف عليهم أن لا يقف معهم من قرأ عليه آية من القرآن، أو سمع منه حديثا؛ خيفة من أن يحبط أجره .

وقال شقيق البلخي) رحمه الله تعالى: (أهديت لسفيان) بن سعيد (الثوري) رحمه الله تعالى (ثوبا فرده علي) ولم يقبله (فقلت: يا أبا عبد الله لست أنا ممن أسمع الحديث حتى ترده علي) فتخاف أني أهديته لك لأجل ذلك (قال) الثوري: قد (علمت ذلك، ولكن أخوك يسمع مني الحديث، فأخاف أن يلين قلبي لأخيك أكثر مما يلين لغيره) .

[ ص: 330 ] أخرجه أبو نعيم في الحلية، عن عبد المنعم بن عمر، حدثنا أحمد بن محمد بن زياد، حدثنا أبو داود، حدثنا إسحاق بن الجراح الأزدي، حدثنا عبد الرحمن بن محمد قال: حدثني شقيق البلخي قال: "أهديت لسفيان" فذكره .

وقال أبو نعيم أيضا: حدثنا عبد المنعم بن عمير، حدثنا أحمد بن محمد بن زياد، حدثنا محمد بن إسماعيل الصائغ، حدثنا الحلواني، حدثنا يحيى بن أيوب، حدثنا مبارك بن سعيد قال: (جاء رجل إلى سفيان ببدرة أو ببدرتين، وكان أبوه صديقا لسفيان، وكان سفيان يأتيه كثيرا) قال (فقال له: يا أبا عبد الله، في نفسك من أبي شيء؟ فقال: يرحم الله أباك كان وكان، فأثنى عليه) قال: (فقال: يا أبا عبد الله، قد عرفت كيف صار إلي هذا المال فأحب أن تأخذ هذه) البدرة من المال (تستعين بها على عيالك، قال: فقبل سفيان ذلك، فلما خرج قال لولده) ولفظ الحلية بعد قوله ذلك: "وقام الرجل، فلما كاد أن يخرج قال: (يا مبارك الحقه فرده علي) وهذا السياق هو الصواب؛ فإن مباركا أخاه لا ولده، وهو مبارك بن سعيد بن مسروق الثوري الأعمى، أبو عبد الرحمن الكوفي، نزيل بغداد، صدوق، مات سنة ثمانين، روى له أبو داود والترمذي والنسائي في عمل اليوم والليلة .

(فرجع) الرجل (فقال) له سفيان: يا ابن أخي (أحب أن تأخذ مالك) قال له: يا أبا عبد الله في نفسك منه شيء؟ قال: لا، ولكن أحب أن تأخذه (فلم يزل به حتى رده عليه) وذهب به، و (كأنه كانت أخوته مع أبيه في الله فكره أن يأخذ ذلك) ومن قوله: "وكأنه" إلى هنا من زيادة المصنف، ليست في سياق الحلية، وقد ساقها للاعتذار عن سفيان، وهو حسن .

(قال ولده: فلما خرج) الرجل بماله (لم أملك نفسي أن جئت إليه، فقلت: ويلك!) وليس في الحلية "ولده" وإنما هو: "قال: فلما خرج لم أملك نفسي أن جئت إليه، فقلت: ويحك!" (أي شيء قلبك هذا؟! حجارة! عد أنه ليس لك عيال، أما ترحمني؟! أما ترحم إخوتك؟! أما ترحم عيالك؟!) وفي الحلية: "عيالنا وعيالك" .

قال: (فأكثرت عليه، فقال: الله يا مبارك! تأكلها أنت هنيئا مريئا وأسأل عنها أنا) ولفظ الحلية: "أنا عنها" .

(فإذا: يجب على العالم أن يلزم قلبه طلب الثواب من الله في اهتداء الناس به فقط) ولا يخطر به شيء سواه (ويجب على المتعلم أن يلزم قلبه حمد الله تعالى، وطلب ثوابه، ونيل المنزلة عنده لا عند المعلم وعند الخلق، وربما يظن أن له أن يرائي بطاعته لينال عند المعلم رتبة، فيتعلم منه، وهو خطأ؛ لأن إرادة غير الله بطاعته خسران في الحال، والعلم ربما يفيد وربما لا يفيد، وكيف يخسر في الحال عملا نقدا) حاضرا (على توهم علم) سيستفيده مع التردد في كونه مفيدا أو غير مفيد؟!

(وذلك غير جائز، وينبغي أن يتعلم لله، ويعبد لله، ويخدم المعلم لله، لا ليكون له في قلبه منزلة إن كان يريد أن يكون تعلمه طاعة؛ فإن العباد أمروا أن لا يعبدوا إلا الله، ولا يريدوا بطاعتهم غيره) كما قال تعالى: وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة .

(وكذلك من يخدم أبويه لا ينبغي أن يخدمهما لطلب المنزلة عندهما، إلا من حيث إن رضا الله في رضا الوالدين) وقد روى الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو: "رضا الرب من رضا الوالد، وسخط الرب من سخط الوالد" (ولا يجوز له أن يرائي بطاعته لينال بها منزلة عند الوالدين؛ فإن ذلك معصية في الحال، وسيكشف الله عن ريائه، وتسقط منزلته من قلب الوالدين أيضا) فإن من طلب رضا الناس بسخط الله أسخطهم، كما ورد ذلك في الخبر وتقدم .




الخدمات العلمية