الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فهذا مثال أهل الدنيا في اشتغالهم بحظوظهم العاجلة ، ونسيانهم موردهم ، ومصدرهم ، وغفلتهم عن عاقبة أمورهم ، وما أقبح من يزعم أنه بصير عاقل أن تغره أحجار الأرض ، وهي الذهب والفضة وهشيم النبت ، وهي زينة الدنيا وشيء من ذلك لا يصحبه عند الموت ، بل يصير كلا ووبالا عليه ، وهو في الحال شاغل له بالحزن والخوف عليه ، وهذه حال الخلق كلهم إلا من عصمه الله عز وجل .

مثال آخر لاغترار الخلق بالدنيا ، وضعف إيمانهم قال الحسن رحمه الله بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : إنما مثلي ومثلكم ، ومثل الدنيا كمثل قوم سلكوا مفازة غبراء حتى إذا لم يدروا ما سلكوا منها أكثر ، أو ما بقي أنفدوا الزاد وخسروا الظهر وبقوا بين ظهراني المفازة ولا زاد ولا حمولة فأيقنوا بالهلكة فبينما هم كذلك إذ خرج عليهم رجل في حلة تقطر رأسه فقالوا : هذا قريب عهد بريف وما جاءكم هذا إلا من قريب ، فلما انتهى إليهم ، قال : يا هؤلاء : فقالوا يا هذا فقال علام أنتم فقالوا : على ما ترى فقال : أرأيتم إن هديتكم إلى ماء رواء ورياض خضر ، ما تعملون ? قالوا : لا نعصيك شيئا ، قال : عهودكم ومواثيقكم بالله ، فأعطوه عهودهم ، ومواثيقهم بالله لا يعصونه شيئا قال : فأوردهم ماء رواء ، ورياضا خضرا فمكث فيهم ما شاء الله ثم قال : يا هؤلاء قالوا : يا هذا قال : الرحيل قالوا : إلى أين ، قال : إلى ماء ليس كمائكم وإلى رياض ، ليست كرياضكم فقال أكثرهم : والله ما وجدنا هذا حتى ظننا أنا لن نجده ، وما نصنع بعيش خير من هذا : وقالت طائفة وهم أقلهم : ألم تعطوا هذا الرجل عهودكم ، ومواثيقكم بالله أن لا تعصوه شيئا ، وقد صدقكم في أول حديثه ? فوالله ليصدقنكم في آخره ، فراح فيمن اتبعه وتخلف بقيتهم فبدرهم ، عدو فأصبحوا بين أسير وقتيل .

التالي السابق


(فهذا مثال أصناف أهل الدنيا في اشتغالهم بحظوظهم العاجلة، ونسيانهم موردهم، ومصدرهم، وغفلتهم عن عاقبة أمرهم، وما أقبح من يزعم) في نفسه (أنه بصير عاقل أن تغره أحجار الأرض، وهي الذهب والفضة) ، فإنهما ينبتان في المعادن كما تنبت بقية الأحجار، ولولا تسني الحاجات بهما لكانا هما والأحجار سواء في القدر (وهشيم النبت، وهي زينة الدنيا) ، وزخرفها (وشيء من ذلك لا يصحبه عند الموت، بل يصير كلا) ، أي: ثقلا (ووبالا عليه، وهو في الحال شاغل له بالحزن والخوف عليه، وهذه حال الخلق كلهم إلا من عصمه الله تعالى) فرأس المعاصي كلها حب الدينار والدرهم، فمن أسقط حبهما، فقد استراح باله، والله الموفق .

(مثال آخر لاغترار الخلق بالدنيا، وضعف إيمانهم) بقول الله تعالى في تحذيره إياهم غوائل الدنيا، ودواهيها. (قال الحسن) البصري - رحمه الله تعالى -: (بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: إنما مثلي ومثلكم، ومثل الدنيا كمثل قوم سلكوا مفازة غبراء) ، أي: لا نبات بها، ولا ماء (حتى إذا لم يدروا ما سلكوا منها أكثر، أو ما بقي) منها (أنفدوا الزاد) ، أي: فني زادهم (وحسروا الظهر) ، أي: أعروه، وهو كناية عن هلاك ما يركبونه (وبقوا بين ظهراني المفازة لا زاد) لهم (ولا حمولة) تبلغهم، وفي لفظ: فحسر ظهرهم، ونفد زادهم، وسقطوا بين ظهراني المفازة (فأيقنوا بالهلكة) محركة، أي: الهلاك (فبينما هم كذلك إذ خرج عليهم رجل في حلة يقطر [ ص: 115 ] رأسه) ، أي: مدهنا رأسه غير أشعث (فقالوا: هذا قريب) ، وفي لفظ الحديث (عهد بريف) ، أي: خصب (وما جاءكم هذا إلا من قريب، فلما انتهى إليهم، قال: يا هؤلاء) القوم (قالوا: يا هذا الرجل، قال: على ما أنتم) ، أي: على أي حال أنتم (فقالوا: على ما ترى) من الضنك والشدة; حسر ظهرنا، ونفد زادنا، وسقطنا بين يدي ظهراني المفازة لا ندري ما قطعنا منها أكثر أم ما بقي منها. (قال: أرأيتم إن هديتكم إلى ماء رواء) ككتاب، أي: ما يرويكم، وتصدون عنه على الري (ورياض خضر، ما تعملون ؟ قالوا: لا نعصيك شيئا، قال: عهودكم ومواثيقكم بالله، فأعطوه عهودهم، ومواثيقهم بالله) أنهم (لا يعصونه شيئا) ، وفي لفظ: قال: ما تجعلون لي إن أردتكم ماء رواء، ورياضا خضرا؟ قالوا: نجعل لك حكمك، قال: تجعلون لي عهودكم، ومواثيقكم ألا تعصوني، فجعلوا له عهودهم، ومواثيقهم أن لا يعصوه (قال: فمال بهم، فأوردهم ماء رواء، ورياضا خضرا) كما وعدهم (فمكث فيهم ما شاء الله) أن يمكث (ثم قال: يا هؤلاء) القوم (قالوا: يا هذا) الرجل (قال: الرحيل) ، أي: ارتحلوا (قالوا: إلى أين، قال: إلى ماء ليس كمائكم، ورياض ليست كرياضكم) ، بل هي أجل وأفخر، وفي لفظ: ثم قال: هلموا إلى رياض أعشب من رياضكم، وماء أروى من مائكم (فقال أكثرهم: والله ما وجدنا هذا حتى ظننا أنا لن نجده، وما نصنع بعيش خير من هذا) ، فلم يرتحلوا (قال: وقالت طائفة وهم أقلهم: ألم تعطوا هذا الرجل عهودكم، ومواثيقكم بالله أن لا تعصوه شيئا، وقد صدقكم في أول حديثه؟ فوالله ليصدقنكم في آخره، فراح فيمن اتبعه) ، أي: ارتحلوا معه حيث أشار، وفي لفظ: فراح وراحوا معه، فأوردهم ماء رواء، ورياضا خضرا (وتخلف بقيتهم، فنزل بهم عدو) ، فأغار عليهم (فأصبحوا بين أسير وقتيل) .

قال العراقي: رواه ابن أبي الدنيا هكذا بطوله، ولأحمد، والطبراني، والبزار من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه فيما يرى النائم ملكان... الحديث، فقال ، أي: أحد الملكين: إن مثل هذا ومثل أمته مثل قوم سفر انتهوا إلى مفازة، فذكر نحوه، وأخصر منه، وإسناده حسن. انتهى .

قلت: وبخط الحافظ ابن حجر: إسناده صحيح، واللفظ الذي ساقه المصنف، وهو سياق حديث الحسن عند ابن أبي الدنيا، وقد روى نحوه ابن عساكر، عن ابن المبارك، قال: بلغنا عن الحسن، قال ابن عساكر: وهذا مرسل، وفيه انقطاع بين ابن المبارك، والحسن.




الخدمات العلمية