الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وعن القضاء الكلي الأزلي العبارة بقوله تعالى : وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر وأما العباد فإنهم مسخرون تحت مجاري القضاء والقدر ، ومن جملة القدر خلق حركة في يد الكاتب بعد خلق صفة مخصوصة في يده تسمى القدرة ، وبعد خلق ميل قوي جازم في نفسه يسمى القصد وبعد علم ، بما إليه ميله يسمى الإدراك والمعرفة ، فإذا ظهرت من باطن الملكوت هذه الأمور الأربعة على جسم عبد مسخر تحت قهر التقدير سبق أهل عالم الملك والشهادة المحجوبون عن عالم الغيب والملكوت ، وقالوا : يا أيها الرجل قد تحركت ، ورميت وكتبت ، ونودي من وراء حجاب الغيب وسرادقات الملكوت : وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وما قتلت إذ قتلت ولكن قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ، وعند هذا تتحير عقول القاعدين في بحبوحة عالم الشهادة فمن قائل : إنه جبر محض ومن قائل : إنه اختراع صرف ومن متوسط مائل إلى أنه كسب ولو فتح لهم أبواب السماء فنظروا إلى عالم الغيب والملكوت ، لظهر لهم أن كل واحد صادق من وجه ، وأن القصور شامل لجميعهم فلم يدرك واحد منهم كنه هذا الأمر ولم يحط علمه بجوانبه وتمام علمه ينال بإشراق النور من كوة نافذة إلى عالم الغيب وأنه تعالى عالم الغيب والشهادة ، لا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول وقد يطلع على الشهادة من لم يدخل في حيز الارتضاء ومن حرك سلسلة الأسباب والمسببات ، وعلم كيفية تسلسلها ووجه ارتباط مناط سلسلتها بمسبب الأسباب انكشف له سر القدر وعلم علما يقينا أن لا خالق إلا الله ، ولا مبدع سواه .

فإن قلت قد : قضيت على كل واحد من القائلين بالجبر والاختراع والكسب أنه صادق من وجه ، وهو مع صدقه قاصر وهذا تناقض فكيف يمكن فهم ذلك ? وهل يمكن إيصال ذلك إلى الإفهام بمثال ؟ فاعلم أن جماعة من العميان قد سمعوا أنه حمل إلى البلدة حيوان عجيب يسمى الفيل ، وما كانوا قط شاهدوا صورته ولا سمعوا اسمه فقالوا : لا بد لنا من مشاهدته ومعرفته باللمس الذي نقدر عليه فطلبوه فلما وصلوا إليه لمسوه فوقع يد بعض العميان على رجليه ووقع ، يد بعضهم على نابه ووقع ، يد بعضهم على أذنه ، فقالوا : قد عرفنا ، انصرفوا سألهم بقية العميان فاختلفت أجوبتهم ، فقال الذي لمس الرجل : إن الفيل ما هو إلا مثل أسطوانة خشنة الظاهر إلا أنه ألين منها ، وقال الذي لمس الناب : ليس كما يقول بل هو صلب لا لين فيه ، وأملس لا خشونة فيه ، وليس في غلظ الأسطوانة أصلا ، بل هو مثل عمود ، وقال الذي لمس الأذن لعمري هو لين ، وفيه خشونة ، فصدق أحدهما فيه ولكن قال : ما هو مثل عمود ولا هو مثل أسطوانة ، وإنما هو مثل جلد عريض غليظ ، فكل واحد من هؤلاء صدق من وجه إذ أخبر كل واحد عما أصابه من معرفة الفيل ، ولم يخرج واحد في خبره عن وصف الفيل ، ولكنهم بجملتهم قصروا عن الإحاطة بكنه صورة الفيل فاستبصر بهذا المثال ، واعتبر به فإنه مثال أكثر ما اختلف الناس فيه وإن كان هذا كلاما يناطح علوم المكاشفة ويحرك أمواجها وليس ذلك من غرضنا فلنرجع إلى ما كنا بصدده ، وهو بيان أن التوبة واجبة بجميع أجزائها الثلاثة : العلم ، والندم ، والترك ، وأن الندم داخل في الوجوب لكونه ، واقعا في جملة أفعال الله المحصورة بين علم العبد وإرادته وقدرته المتخللة بينها ، وما هذا وصفه فاسم الوجوب يشمله .

التالي السابق


(وعن القضاء الكلي الأزلي العبارة بقوله تعالى: وما أمرنا إلا واحدة ) أي: فعلة واحدة، وهو الإيجاد بلا معالجة (كلمح بالبصر) في المسير والسرعة، وقيل: معناه معنى قوله تعالى: وما أمر الساعة إلا كلمح البصر ، (والعباد مسخرون تحت مجاري القضاء والقدر، ومن جملة القدر خلق حركة في يد الكاتب بعد خلق صفة مخصوصة في يده تسمى القدرة، وبعد خلق ميل قوي جازم في نفسه يسمى القصد، ويعد علمه بما إليه ميله يسمى الإدراك [ ص: 510 ] والمعرفة، فإذا ظهرت من باطن الملكوت هذه الأمور الأربعة على جسم عبد مسخر تحت قهر التقدير سبق أهل عالم الملك والشهادة المحجوبون عن) دقائق (عالم الغيب) المختص، (والملكوت، وقالوا: يا أيها الرجل قد تحركت، وكتبت، ورميت، ونودي من وراء حجاب الغيب وسرادقات الملكوت: وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ) كما هو في الكتاب العزيز خطابا لحبيبه صلى الله عليه وسلم، وفي معناه: (وما قتلت إذ قتلت ولكن الله قتل) ، ويؤيده قوله تعالى: ( قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ، وعند هذا تتحير عقول القاعدين في بحبوحة عالم الشهادة) ، والملك (فمن قائل: إنه جبر محض) أي: خالص، وهؤلاء هم الجبرية الخالصة يسندون فعل العبد إلى الله تعالى، ولا يثبتون للعبد كسبا، (ومن قائل: إنه اختراع صرف) من فعل العبد، وهؤلاء هم القدرية (ومن متوسط) بين الجبر المحض والمقيد (ماثل إلى أنه كسب) فيسندون الفعل إلى الله، ويثبتون للعبد كسبا في الفعل، وهؤلاء هم الأشاعرة من أهل السنة والجماعة ومن وافقهم في هذه المسألة من الماتريدية إلا أنهم سموه جزءا اختياريا، وهؤلاء هم المتوسطة، (ولو فتحت لهم أبواب السماء فنظروا إلى عالم الغيب والملكوت، لظهر لهم أن كل واحد صادق) فيما ذهب إليه (من وجه، وأن القصور شامل لجميعهم فلم يدرك واحد منهم كنه هذا الأمر) وحقيقته (ولم يحط علمه بجوانبه) .


وكل يدعي وصلا بليلى وليلى لا تقر لهم بذاك



(وتمام علمه) إنما (ينال بإشراف) النور الأقدس (من كوة نافذة إلى عالم الغيب) فترفع الستور عن بصيرته، (وأنه تعالى عالم الغيب والشهادة، لا يظهر على غيبه أحد إلا من ارتضى من رسول) ، كما أخبر بذلك في كتابه العزيز، (وقد يطلع على الشهادة من لا يدخل في حيز الارتضاء) فعدم الاطلاع مخصوص بعالم الغيب، (ومن حرك مسلسلة الأسباب والمسببات، وعلم كيفية تسلسلها ووجه ارتباط مناط سلسلتها بمسبب الأسباب) أي: موضع تعليقها من ناطه نوطا إذا علقه، (وانكشف له سر القدر) المخفي (علم علما يقينيا أن لا خالق إلا الله، ولا مبدع سواه) ، وقد تقدمت الإشارة إلى شيء من ذلك في كتاب العقائد; (فإن قلت: فقد قضيت لكل واحد من القائلين بالجبر والاختراع والكسب بأنه صادق من وجه، وهو مع صدقه قاصر) عن درجة الكمال، (وهذا تناقض) كيف يكون صادقا وقاصرا؟ (فكيف يمكن فهم ذلك؟ وهل يمكن إيصال ذلك إلى الأفهام بمثال؟

فاعلم أن جماعة من العميان قد سمعوا أنه قد حمل إلى البلدة) التي هم فيها (حيوان عجيب اسمه الفيل، وما كانوا قط شاهدوا صورته) من قبل (ولا سمعوا باسمه فقالوا: لا بد لنا من مشاهدته ومعرفته باللمس الذي نقدر عليه) لفقد حاسة البصر، وتقوم تلك المعرفة مقام المشاهدة (فطالبوه) أي: توجهوا إليه (فلما وصلوا إليه لمسوه) بأيديهم (فوقعت بعض يد العميان على رجله، ووقعت يد بعضهم على نابه، ووقعت يد بعضهم على أذنه، فقالوا: قد عرفناه، فلما انصرفوا) إلى مواضعهم، (سألهم بقية العميان) عن حقيقة الفيل، (فاختلفت أجوبتهم، فقال الذي) قد (لمس الرجل: إن الفيل ما هو إلا هو مثل أسطوانة خشنة الظاهر إلا أنه ألين منها، وقال الذي) كان قد (لمس الناب: ليس الفيل كما يقول) هو، (بل هو صلب لا لين فيه، وأملس لا خشونة فيه، وليس في غلظ الأسطوانة أصلا، بل هو مثل [ ص: 511 ] عمود، وقال الذي) كان قد (لمس الأذن لعمري هو لين، وفيه خشونة، فصدق أحدهما فيه) ، وهو الذي قال: إنه لين، (ولكن) كذب الآخر إذ (قال: ما هو مثل عمود ولا هو مثل أسطوانة، وإنما هو مثل جلد عريض غليظ، فكل واحد من هؤلاء صدق من وجه إذ أخبر كل واحد عما أصابه من معرفة الفيل، ولم يخرج واحد في خبره عن وصف الفيل، ولكنهم بجملتهم قصروا عن الإحاطة بكنه صورة الفيل) ما هي عليها، (فاستبصر بهذا المثال، واعتبر به) ما يرد عليك، (فإنه مثال أكثر ما اختلفت الناس فيه) من المذاهب والمشارب، (وإن كان هذا كلاما يناطح بحار علوم المكاشفة) ويصادمها، (ويحرك أمواجها) ، ويثير عجاجها، (وليس ذلك من غرضنا) الآن في هذا الكتاب، (فلنرجع إلى ما كنا بصدده، وهو بيان أن التوبة واجبة بجميع أجزائها الثلاثة: العلم، والندم، والترك، وأن الندم داخل في الوجوب لكونه، واقعا في جملة أفعال الله تعالى المحصورة بين علم العبد وإرادته وقدرته المتخللة بينهما، وما هذا وصفها فاسم الوجوب يشمله) لا محالة، والله الموفق .




الخدمات العلمية