الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومنها السرور بالصغيرة والفرح والتبجح بها واعتداد التمكن من ذلك نعمة ، والغفلة عن كونه سبب الشقاوة فكلما غلبت حلاوة الصغيرة عند العبد كبرت الصغيرة ، وعظم أثرها في تسويد قلبه حتى إن من المذنبين من يتمدح بذنبه ويتبجح ، به لشدة فرحه بمقارفته إياه .

كما يقول : أما رأيتني كيف مزقت عرضه ? ويقول المناظر في مناظرته : أما رأيتني كيف فضحته وكيف ذكرت مساويه حتى أخجلته وكيف استخففت به ، وكيف لبست عليه ويقول المعامل في التجارة : أما رأيت كيف روجت عليه الزائف وكيف خدعته ، وكيف غبنته في ماله ، وكيف استحمقته ، فهذا وأمثاله تكبر به الصغائر فإن الذنوب مهلكات وإذا دفع العبد إليها ، وظفر الشيطان به في الحمل عليها ، فينبغي أن يكون في مصيبة وتأسف بسبب غلبة العدو عليه وبسبب بعده من الله تعالى ، فالمريض الذي يفرح بأن ينكسر إناؤه الذي فيه دواؤه حتى يتخلص من ألم شربه لا يرجى شفاؤه ومنها أن يتهاون بستر الله عليه وحلمه ، عنه ، وإمهاله إياه ، ولا يدري أنه إنما يمهل مقتا ليزداد بالإمهال إثما ، فيظن أن تمكنه من المعاصي عناية من الله تعالى به ، فيكون ذلك لأمنه من مكر الله ، وجهله بمكامن الغرور بالله كما قال تعالى : ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير ومنها أن يأتي الذنب ويظهره بأن يذكره بعد إتيانه أو يأتيه في مشهد غيره فإن ذلك جناية منه على ستر الله الذي سدله عليه ، وتحريك لرغبة الشر فيمن أسمعه ذنبه أو أشهده فعله فهما جنايتان انضمتا إلى جنايته فغلظت به فإن انضاف إلى ذلك الترغيب للغير فيه والحمل عليه ، وتهيئة الأسباب له صارت جناية رابعة ، وتفاحش الأمر ، وفي الخبر : « كل الناس معافى إلا المجاهرين » يبيت أحدهم على ذنب قد ستره الله عليه ، فيصبح فيكشف ستر الله ، ويتحدث بذنبه وهذا ; لأن من صفات الله ونعمه أنه يظهر الجميل ، ويستر القبيح ، ولا يهتك الستر فالإظهار كفران لهذه النعمة وقال بعضهم : لا تذنب فإن كان ولا بد ، فلا ترغب غيرك فيه ، فتذنب ذنبين ولذلك قال تعالى : المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف وقال بعض السلف : ما انتهك المرء من أخيه حرمة أعظم من أن يساعده على معصية ، ثم يهونها عليه ومنها أن يكون المذنب عالما يقتدى به ، فإذا فعله بحيث يرى ذلك منه كبر ذنبه كلبس العالم الإبريسم وركوبه مراكب الذهب وأخذه مال الشبهة من أموال السلاطين ودخوله على السلاطين ، وتردده عليهم ومساعدته إياهم بترك الإنكار عليهم وإطلاق اللسان في الأعراض ، وتعديه باللسان في المناظرة ، وقصده الاستخفاف واشتغاله من العلوم بما لا يقصد منه إلا الجاه ، كعلم الجدل والمناظرة ، فهذه ذنوب يتبع العالم عليها ، فيموت العالم ويبقى شره مستطيرا في العالم آمادا متطاولة فطوبى لمن إذا مات ماتت ذنوبه معه وفي الخبر : من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها ، لا ينقص من أوزارهم شيئا قال تعالى : ونكتب ما قدموا وآثارهم والآثار ما يلحق من الأعمال بعد انقضاء العمل والعامل ، وقال ابن عباس ويل للعالم من الاتباع ، يزل زلة فيرجع عنها ، ويحملها الناس فيذهبون بها في الآفاق وقال بعضهم : مثل زلة العالم مثل انكسار السفينة تغرق ، ويغرق أهلها وفي الإسرائيليات أن : عالما كان يضل الناس بالبدعة ، ثم أدركته توبة فعمل في الإصلاح دهرا فأوحى الله تعالى إلى نبيهم قل له : إن ذنبك لو كان فيما بيني وبينك لغفرته لك ولكن كيف بمن أضللت من عبادي فأدخلتهم النار فبهذا يتضح أن أمر العلماء مخطر فعليهم وظيفتان : إحداهما ترك الذنب والأخرى إخفاؤه وكما تتضاعف أوزارهم على الذنوب فكذلك يتضاعف ثوابهم على الحسنات إذا اتبعوا فإذا ترك التجمل والميل إلى الدنيا وقنع منها باليسير ومن الطعام بالقوت ومن الكسوة بالخلق فيتبع عليه ، ويقتدي به العلماء والعوام فيكون له مثل ثوابهم وإن مال إلى التجمل مالت طباع من دونه إلى التشبه به ولا يقدرون على التجمل إلا بخدمة السلاطين .

وجمع الحطام من الحرام ويكون هو السبب في جميع ذلك فحركات العلماء في طوري الزيادة والنقصان تتضاعف آثارها إما بالربح وإما بالخسران وهذا ، القدر كاف في تفاصيل الذنوب التي التوبة توبة عنها .

التالي السابق


(ومنها السرور بالصغيرة والفرح والتحجج بها) أي: الافتخار، (واعتداد التمكن من ذلك نعمة، والغفلة عن كونه [ ص: 572 ] سبب الشقاوة) ; لأنه يدل على عدم التفكر في ثواب الله وعقابه، (فكلما غلبت حلاوة الصغيرة عند العبد كبرت الصغيرة، وعظم أثرها في تسويد قلبه) ، وإظلامه (حتى أن من المذنبين من يتمدح بذنوبه، ويتحجج به لشدة فرحه بمقارفته إياه) وملابسته له (كما يقول: أما رأيتني كيف مزقت عرضه؟) ، وذلك عند المخاصمة، (ويقول المناظر في مناظرته: أما رأيتني كيف فضحته) في المجلس؟ (وكيف ذكرت مساويه وجهله حتى أخجلته) وسجلت عليه، (وكيف استخففت به، وكيف لبست عليه) في الكلام، (ويقول المعامل في تجارته: أما رأيتني كيف روجت عليه الزائف) أي: الرديء المبرح، (وكيف خدعته، وكيف غبنته في ماله، وكيف استحمقته، فهذا تكبر به الصغائر) وتعظم; (فإن الذنوب مهلكات) للعبد، (وإذا دفع العبد إليها، وظفر الشيطان به في الحمل عليها، فينبغي أن يكون في مصيبة وغم وتأسف بسبب غلبة العدو عليه) فيما وقع فيه، (وبسبب بعده عن الله تعالى، فالمريض الذي يفرح بأن ينكسر إناؤه الذي فيه دواؤه حتى يتخلص من آلام شربه لا يرجى شفاؤه) ، بل لا يزال مقيما على مرضه، (ومنها أن يتهاون بستر الله عليه، وحمله عنه، وإمهاله إياه، ولا يدري أنه إنما يمهل مقتا ليزداد بالإمهال إثما، فيظن أن تمكنه من المعاصي عناية من الله تعالى به، فيكون ذلك لأمنه من مكر الله، وجهله بمكامن الغرور بالله) فالاغترار بستر الله والاستخفاف بحمله وإن كان صغيرة، لكنه يكبر; لأنه يتسبب منه الأمن من مكر الله، وهو كبيرة، (كما قال تعالى: ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها ) أي: يدخلونها، ( فبئس المصير ) مصيرهم، (ومنها أن يأتي الذنب فيظهره بأن) يتحدث به و (يذكره بعد إتيانه أو يأتيه في مشهد غيره) أي: حيث يشهده ويراه; (فإن ذلك جناية منه على الله الذي أسدله عليه، وتحريك لرغبة الشر فيمن أسمعه ذنبه) إذ تحدث به، (وأشهده فعله فهما جنايتان انضمتا إلى جناية فتغلظت به) أي: بهذا الانضمام; (فإن انضاف إلى ذلك الترغيب للغير فيه والحمل عليه، وتهيئة الأسباب له صارت جناية رابعة، وتفاحش الأمر، وفي الخبر: "كل الناس معافى إلا المجاهرين") الذين يجاهرون بالذنب والصول به والتظاهر، وهذا من الطغيان، (يبيت أحدهم على ذنب قد ستره الله عليه، فيصبح فيكشف ستر الله، ويتحدث بذنبه) هكذا هو في القوت، وقال العراقي: متفق عليه من حديث أبي هريرة بلفظ: كل أمتي، وقد تقدم ا هـ .

قلت: لفظ المتفق عليه: "كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من الجناية أن يعمل الرجل بالليل عملا، ثم يصبح وقد ستره الله، فيقول: عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عز وجل عنه"، وفي رواية: "وإن من الجهار"، وبخط الحافظ: الإجهار، وروى الطبراني في الأوسط من حديث أبي قتادة: "كل أمتي معافى إلا المجاهرين الذي يعمل العمل بالليل فيستره ربه، ثم يصبح فيقول: يا فلان، إني فعلت البارحة كذا وكذا، فيكشف ستر الله عز وجل"، (وهذا; لأن من صفات الله ونعمه أن يظهر الجميل، ويستر القبيح، ولا يهتك الستر) ، وقد ورد ذلك في دعاء مأثور: "يا من أظهر الجميل وستر القبيح، يا من لم يهتك الستر" (فالإظهار كفران لهذه النعمة) ، وجهل بها، وإيثار لضدها، ويقال: كل عاص تحت كنف الرحمن، فإذا رفع عنه يده انهتك ستره، (وقال بعضهم: لا تذنب فإن كان ولا بد، فلا ترغب غيرك فيه، فتذنب ذنبين) ، ولفظ القوت: فلا تحمل غيرك على الذنب فتكسب ذنبين، وقد جعل الله ذلك وصفا من أوصاف المنافقين; (ولذلك قال تعالى: المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ) الآية، فمن حمل أخاه على ذنب معه، فقد أمر بالمنكر ونهى عن المعروف [ ص: 573 ] (وقال بعض السلف: ما انتهك المرء من أخيه حرمة أعظم من أن يساعده على معصية، ثم يهونها عليه) ، نقله صاحب القوت، (ومنها أن يكون المذنب عالما يقتدى به، فإذا فعله بحيث يرى ذلك منه كبر ذنبه) ، وهذا (كلبس العالم الإبريسم) ، وهو الحرير الخام، (وركوبه مراكب الذهب) والفضة، (وأخذه مال الشبهة من أموال السلاطين) ومن في معناهم، (ودخوله على السلاطين، وتردده عليهم) في قضاء حوائجه، أو حوائج غيره، (ومساعدته إياهم بترك الإنكار عليهم) فيما يظهر من المنكرات الشرعية، (وإطلاق اللسان في الأعراض، وتعديه باللسان في) أثناء (المناظرة، وقصده الاستخفاف) بحقوق أخيه المسلم، (واشتغاله من العلوم بما لا يقصد منه إلا الجاه، كعلم الجدل والمناظرة، فهذه ذنوب يتبع العالم عليها، فيموت العالم ويبقى شره مستطيرا) شائعا (في العالم آمادا) أي: أزمانا (متطاولة) ، وتبقى سيئات ذنوبه عليه ما دام يعمل به فيكون وزره عليه، حتى ينقرض من عامليه، (فطوبى لمن إذا مات ماتت ذنوبه معه) ، ولم يؤاخذ بها بعده، وطوبى لمن لم يعد ذنبه غيره، وقد يعيش العبد أربعين سنة، ثم يموت فتبقى ذنوبه بعده مائة سنة يعاقب عليها في قبره، إذا كان قد اتبع عليها إلى أن تندرس، أو يموت كل من عمل بها، ثم يسقط عنه فيستريح منها، ويقال: أعظم الذنوب من ظلم من لم يعرفه، ولم يره من المتقدمين مثل أن يتكلم فيمن سلف من أهل الدين وأئمة المتقين، وهذه المعاني كلها تدخل في الذنب الواحد، وهي أعظم منه، (وفي الخبر: من سن سنة سيئة) فعمل بها بعده (فعليه وزرها ووزر من عمل بها، لا ينقص من أوزارهم شيئا) ، وهو قطعة من حديث رواه مسلم من حديث جرير بن عبد الله، وقد تقدم في آداب الكسب والمعاش، وفي ذلك (قال) الله (تعالى: ونكتب ما قدموا) من الأعمال، (وآثارهم) أي: سنتهم التي عمل بها بعدهم، وإليه أشار بقوله: (والآثار ما يلحق من الأعمال بعد انقضاء العمل والعامل، وقال ابن عباس) رضي الله عنه: (ويل للعالم من الاتباع، يزل زلة فيرجع عنها، ويحملها الناس ويذهبون بها في الآفاق) نقله صاحب القوت، (وقال بعضهم: مثل زلة العالم مثل انكسار السفينة تغرق، ويغرق أهلها) ، ولفظ القوت: ويغرق الخلق معها، (وفي الإسرائيليات: إن عالما) من علمائهم (كان يضل الناس بالبدعة، ثم أدركته توبة) فرجع إلى الله تعالى، (فعمل في الإصلاح دهرا) أي: إصلاح نفسه (فأوحى الله تعالى إلى نبيهم قل له: إن ذنبك لو كان فيما بيني وبينك لغفرته لك) بالغا ما بلغ، (ولكن كيف بمن أضللت من عبادي فأدخلتهم النار) نقله صاحب القوت قال: فأما استحلال المعصية وإحلالها للغير فليس من هذه الأبواب في شيء، إنما ذلك خروج عن الملة وتبديل الشريعة، وهو الكفر بالله عز وجل، ففي الخبر ما آمن بالقرآن من استحل محارمه، (فبهذا يتضح أن أمر العلماء مخطر) جدا بخلاف غيرهم من العوام (فعليهم وظيفتان: إحداهما ترك الذنب) مطلقا، مهما أمكنهم ذلك، (والأخرى أخطاؤه) إن قدر على ذلك، (وكما تتضاعف أوزارهم على الذنوب) إذا ارتكبوها، (فكذلك يتضاعف ثوابهم على الحسنات إذا اتبعوا) وعمل بها بعدهم، (فإذا ترك) العالم (التجمل والميل إلى الدنيا) أي: من التوسع فيها، (وقنع منها باليسير) والبلغة، (و) قنع (من الطعام بالقوت) قدر ما يسد به رمقه، (ومن الكسوة بالخلق) ، ومن المسكن ما يكنه من البرد والحر، (فيتبع عليه، ويقتدي به العلماء) من أمثاله، (والعوام) المشاهدون أحواله، (ويكون له مثل ثوابهم) من غير أن ينقص من ثوابهم شيء، (وإن مال إلى التجمل) والتحفل (مالت طباع من دونه) لا محالة (إلى التشبه به) في أحواله، (ولا يقدرون على التجمل إلا بخدمة السلاطين) ، ومعاشرة أرباب الأموال، (وجمع الحطام من الحرام) من حيث كان، (ويكون هو السبب في جميع ذلك) ، ويكون عليه وزرهم، [ ص: 574 ] (فحركات العلماء في طوري الزيادة والنقصان تتضاعف آثارها إما بالربح وإما بالخسران، فهذا القدر كاف في معرفة تفصيل الذنوب التي التوبة توبة منها) ، والله الموفق بكرمه .




الخدمات العلمية