الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بيان أن التوبة إذا استجمعت شرائطها فهي مقبولة لا محالة .

اعلم أنك إذا فهمت معنى القبول لم تشك في أن كل توبة صحيحة فهي مقبولة ، فالناظرون بنور البصائر المستمدون من أنوار القرآن علموا أن كل قلب سليم مقبول عند الله ، ومتنعم في الآخرة في جوار الله تعالى ، ومستعد ; لأن ينظر بعينه الباقية إلى وجه الله تعالى ، وعلموا أن القلب خلق سليما في الأصل « وكل مولود يولد على الفطرة » وإنما تفوته السلامة بكدورة ترهق وجهه من غبرة الذنوب وظلمتها وعلموا أن نار الندم تحرق تلك الغبرة ، وأن نور الحسنة يمحو عن وجه القلب ظلمة السيئة ، وأنه لا طاقة لظلام المعاصي مع نور الحسنات ، كما لا طاقة لظلام الليل مع نور النهار بل كما لا طاقة لكدورة الوسخ مع بياض الصابون وكما أن الثوب الوسخ لا يقبله الملك لأن يكون لباسه ، فالقلب المظلم لا يقبله الله تعالى لأن يكون في جواره وكما أن استعمال الثوب في الأعمال الخسيسة يوسخ الثوب وغسله بالصابون والماء الحار ينظفه لا محالة فاستعمال القلب في الشهوات يوسخ القلب ، وغسله بماء الدموع وحرقة الندم ينظفه ، ويطهره ، ويزكيه ، وكل قلب زكي طاهر فهو مقبول كما أن كل ثوب نظيف فهو مقبول ، فإنما عليك التزكية والتطهير وأما القبول فمبذول قد سبق به القضاء الأزلي الذي لا مرد له ، وهو المسمى فلاحا في قوله : قد أفلح من زكاها ومن لم يعرف على سبيل التحقيق معرفة أقوى وأجلى من المشاهدة بالبصر أن القلب يتأثر بالمعاصي والطاعات تأثرا متضادا يستعار لأحدهما لفظ الظلمة كما يستعار للجهل ويستعار للآخر لفظ النور كما يستعار للعلم وأن ، بين النور والظلمة تضادا ضروريا ، لا يتصور الجمع بينهما ، فكأنه لم يتلق من الدين إلا قشوره ، ولم يعلق به إلا أسماؤه وقلبه في غطاء كثيف عن حقيقة الدين ، بل عن حقيقة نفسه وصفات نفسه ، ومن جهل نفسه فهو بغيره أجهل ، وأعني به قلبه ; إذ بقلبه يعرف غير قلبه ، فكيف يعرف غيره وهو لا يعرف قلبه ? فمن يتوهم أن التوبة تصح ولا تقبل ، كمن يتوهم أن الشمس تطلع والظلام لا يزول والثوب يغسل بالصابون ، والوسخ لا يزول إلا أن يغوص الوسخ لطول تراكمه في تجاويف الثوب وخلله فلا يقوى الصابون على قلعه فمثال ، ذلك أن تتراكم الذنوب حتى تصير طبعا ورينا على القلب ، فمثل هذا القلب لا يرجع ولا يتوب نعم ، قد يقول باللسان تبت فيكون ذلك كقول القصار بلسانه : قد غسلت الثوب ، وذلك لا ينظف الثوب أصلا ما لم يغير صفة الثوب باستعمال ما يضاد الوصف المتمكن به فهذا حال امتناع أصل التوبة ، وهو غير بعيد ، بل هو الغالب على كافة الخلق المقبلين على الدنيا المعرضين عن الله بالكلية فهذا البيان كاف عند ذوي البصائر في قبول التوبة ولكنا نعضد جناحه بنقل الآيات والأخبار والآثار فكل استبصار لا يشهد له الكتاب والسنة لا يوثق به ، وقد قال : تعالى وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ، وقال تعالى : غافر الذنب وقابل التوب إلى غير ذلك من الآيات وقال صلى الله عليه وسلم لله أفرح بتوبة أحدكم الحديث والفرح وراء القبول فهو دليل على القبول وزيادة وقال صلى الله عليه وسلم : إن الله عز وجل يبسط يده بالتوبة لمسيء الليل إلى النهار ، ولمسيء النهار إلى الليل حتى تطلع الشمس من مغربها وبسط اليد كناية عن طلب التوبة والطالب وراء القابل ، فرب قابل ليس بطالب ولا طالب إلا وهو قابل وقال صلى الله عليه وسلم : لو عملتم الخطايا حتى تبلغ السماء ثم ندمتم لتاب الله عليكم .

وقال أيضا : إن العبد ليذنب الذنب فيدخل به الجنة فقيل : كيف ذلك يا رسول الله ? قال : يكون نصب عينه تائبا منه فارا حتى يدخل الجنة وقال صلى الله عليه وسلم : « كفارة الذنب الندامة » وقال صلى الله عليه وسلم : التائب من الذنب كمن لا ذنب له .

ويروى أن حبشيا قال : يا رسول الله ، إني كنت أعمل الفواحش فهل لي من توبة ? قال : نعم فولى ثم رجع فقال : يا رسول الله أكان يراني وأنا أعملها ? قال : نعم ، فصاح الحبشي صيحة خرجت فيها روحه .

ويروى إن الله عز وجل لما لعن إبليس سأله النظرة فأنظره إلى يوم القيامة فقال وعزتك لا خرجت من قلب ابن آدم ما دام فيه الروح فقال الله تعالى وعزتي وجلالي ، لا حجبت عنه التوبة ، ما دام الروح فيه .

وقال صلى الله عليه وسلم : « إن الحسنات يذهبن السيئات كما يذهب الماء الوسخ » والأخبار في هذا لا تحصى .

التالي السابق


(فصل في بيان أن التوبة إذا استجمعت شرائطها)

وأركانها وشهدت العلامات بصحتها (فهي مقبولة لا محالة) بفضل الله تعالى، لا بطريق الوجوب; إذ لا يجب شيء على الخالق; لأنه لا يرجو ثوابا ولا يخاف عقابا; قال الله تعالى: ولا يخاف عقباها هذا حاصل ما ذكره المصنف في هذا الفصل، وقد أخر تلك الشرائط، وكان الأولى تقديمها حتى يكون ما في هذا الفصل كالمتمم له، والإيمان بهذا واجب; لأنه من عقود الإيمان بالله تعالى .

(اعلم) أرشدك الله تعالى (أنك إذا فهمت معنى القبول لم تشك في أن كل توبة صحيحة) ، وهي المستجمعة الشروط والأركان (فهي مقبولة، فالناظرون بنور البصائر) ، وهو المفاض على القلوب (المستمدون من أنوار القرآن علموا أن كل قلب سليم) من المعاصي (مقبول عند الله تعالى، ومتنعم في الآخرة في جوار الله تعالى، ومستعد; لأن ينظر بعينه الباقية إلى وجه الله تعالى، وعلموا) أيضا (أن القلب خلق سليما في الأصل) أي: في الفطرة الأصلية، ("وكل مولود يولد على الفطرة") كما رواه الترمذي من حديث أبي هريرة، وتمامه: "فأبواه يهودانه، وينصرانه، ويشركانه" الحديث، وقال: حسن صحيح، وقد تقدم .

(وإنما تفوته السلامة بكدورة ترهق وجهه) أي: تعلوه (من غبرة الذنوب وظلمتها) ، وروى أحمد من حديث جابر: "كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه، فإذا أعرب عنه لسانه; إما شاكرا، وإما كفورا"، (وعلموا أن نار الندم) المتولدة من التوجع (تحرق تلك الغبرة، وأن نور الحسنة يمحو عن وجه القلب ظلمة السيئة، وأنه لا طاقة لظلام المعاصي مع نور الحسنات، كما لا طاقة لظلام الليل مع نور النهار) ، بل ينسخه ويمحوه، (بل كما لا طاقة لكدورة الوسخ مع بياض الصابون) المتخذ من القلي والجير والزيت، (وكما أن الثوب الوسخ لا يقبله الملك لأن يكون لباسه، فالقلب) المظلم لا يقبله الله تعالى، و (لا) يليق (أن يكون في جواره) وحظيرته، (وكما أن استعمال الثوب في الأعمال الخسيسة يوسخ الثوب) ، ويدنسه، (وغسله بالصابون والماء الحار ينظفه لا محالة) ، ويزيل وسخه، (فاستعمال القلب في الشهوات يوسخ القلب، وغسله بماء الدموع وحرقة الندم ينظفه، ويطهره، ويزكيه، وكل قلب زكي طاهر فهو مقبول كما أن كل ثوب نظيف فهو مقبول، فإنما عليك التزكية والتطهير) من الأدناس والأرجاس، (وأما القبول فمبذول قد سبق به [ ص: 523 ] القضاء الأزلي الذي لا مرد له، وهو المسمى فلاحا في قوله تعالى: قد أفلح من زكاها ) أي: طهرها أي: نفسه من الشهوات الخفية، (ومن لم يعرف على سبيل التحقيق معرفة) هي (أقوى وأجلى من المشاهدة بالبصر أن القلب يتأثر بالمعاصي والطاعات تأثرا متضادا يستعار لأحدهما لفظ الظلمة كما يستعار للجهل) بجامع عدم الاهتداء، (ويستعار للآخر لفظ النور كما يستعار للعلم، وإن بين النور والظلمة تضادا ضروريا، لا يتصور الجمع بينهما، فكأنه لم يعرف من الدين إلا قشوره، ولم يتعلق به إلا أسماؤه) ، يقال: علق إذا لصق، (وقلبه في غطاء كثيف) أي: غليظ (عن) معرفة (حقيقة الدين، بل) هو في غطاء (عن) معرفة (حقيقة نفسه، ومن جهل نفسه فهو بغيره أجهل، وأعني به) أي: بغيره (قلبه; إذ بقلبه يعرف غير قلبه، فكيف يعرف غيره وهو لا يعرف قلبه؟ فمن يتوهم أن التوبة تصح ولا تقبل، كمن يتوهم أن الشمس تطلع والظلام لا يزول) هذا لا يكون، (و) كمن يتوهم أن (الثوب يغسل بالصابون، والوسخ لا يزول) اللهم (إلا أن يغوص الوسخ لطول تراكمه في تجاويف الثوب وخلله) أي: أثنائه، (فلا يقوى الصابون على قلعه، ومثال ذلك أن تتراكم الذنوب حتى يصير طبعا ورينا على القلب، فمثل هذا القلب لا يرجع ولا يتوب) ، ولا ينجع فيه تأثير، ولا يوفق بعده لغيره، وقال مجاهد: القلب مثل الكف المفتوحة، كلما أذنب ذنبا انقبض أصبع حتى تنقبض الأصابع كلها فتشتبك على القلب، فذلك هو القفل، وسيأتي هذا للمصنف قريبا، ويقال: إن لكل ذنب نباتا ينبت في القلب، فإذا كثرت الذنوب تكاثف النبات حول القلب مثل الكم المثمرة، فانضم على القلب فذلك الغلاف، ويقال الكنان واحد الأكنة التي ذكر الله أن القلب لا يسمع معها ولا يفقه، (نعم، قد يقول باللسان) إني (تبت) الآن (فيكون ذلك كقول القصار بلسانه: قد غسلت الثوب، وذلك) أي: مجرد هذا القول (لا ينظف الثوب أصلا ما لم يغير صفة الثوب باستعمال ما يضاد الوصف المتمكن به) الراسخ فيه، (فهذا حال امتناع أصل التوبة، وهو غير بعيد، بل هو الغالب على كافة الخلق المقبلين) بهممهم (على الدنيا المعرضين عن الله بالكلية) ، وحاصل الكلام أن توبة العبد إذا وقعت على الوجه المعتبر شرعا فهي مقبولة، إلا أنها إذا كانت توبة الكافر من كفره فهي مقطوع بقبولها، وإن كانت سواها من أنواع التوبة فهل قبولها مقطوع به أو مظنون؟ فيه خلاف لأهل السنة، واختار إمام الحرمين أنه مظنون، قال النووي: وهو الأصح. قال القشيري في الرسالة: التائب من الذنب على يقين، ومن قبوله التوبة على خطر، فينبغي أن يكون دائم الحذر، (فهذا البيان كاف عند ذوي البصائر) والعقول (في قبول التوبة) ، ولا يفتقر بعده إلى تنبيه، (ولكن نعضد جناحه بنقل الآيات والأخبار والآثار) ليتأيد بها (فكل استبصار لا يشهد له الكتاب والسنة لا يوثق به، وقد قال: تعالى) في كتابه العزيز: ( وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ، وقال تعالى: غافر الذنب وقابل التوب إلى غير ذلك من الآيات) كقوله تعالى: ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ، وكقوله: إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة الآية، وكقوله فيمن رمى بنفسه في وهدة الكفر: لن تقبل توبتهم ، وكقوله: والله يريد أن يتوب عليكم ، وكقوله: إن الله يحب التوابين ، والمحبة وراء القبول، (وقال صلى الله عليه وسلم: "الله أفرح بتوبة أحدكم" الحديث) أي: إلى آخره، وقد تقدم قريبا من رواية مسلم وغيره، (والفرح وراء القبول فهو دليل على القبول وزيادة) ، وقد تقدم أن الفرح: لغة استرواح الصدر بلذة عاجلة، وهي محال في حقه تعالى، وإنما أريد بذلك الرضا والقبول تأكيد للمعنى في ذهن السامع، ومبالغة في تقريره، (وقال صلى الله عليه وسلم: إن الله يبسط يده بالتوبة لمسيء الليل إلى النهار، ولمسيء النهار إلى الليل) ، ولا يزال كذلك [ ص: 524 ] (حتى تطلع الشمس من مغربها) ، فإذا طلعت أغلق باب التوبة، يعني: يقبل التوبة من العباد ليلا ونهارا، قال العراقي: رواه مسلم من حديث أبي موسى بلفظ: "يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار " الحديث، وفي رواية الطبراني "لمسيء الليل أن يتوب بالنهار" الحديث انتهى. قلت: لفظ مسلم: "إن الله عز وجل ليبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها". وهكذا رواه أحمد، وابن أبي شيبة، والنسائي، والدارقطني، والبيهقي في الصفات، وأبو الشيخ في العظمة، وأما لفظ الطبراني الذي أشار إليه العراقي فرواه في الأوسط من حديث ابن جريج، عن عطاء، عن جابر بلفظ: "إن الله يعرض على عبده في كل يوم نصيحة، فإن هو قبلها سعد، وإن تركها شقي، فإن الله باسط يده بالليل لمسيء النهار ليتوب، فإن تاب تاب الله عليه، وباسط يده بالنهار لمسيء الليل، فإن تاب تاب الله عليه". الحديث .

ورواه كذلك ابن عساكر، وابن شاهين، عن ابن جريج عن الزهري مرسلا، (وبسط اليد كناية عن طلب التوبة) وقبولها، وهو في حقه تعالى عبارة عن التوسع في الجود والتنزيه عن المنع عند اقتضاء الحكمة، (والطالب وراء القابل، فرب قابل ليس بطالب) فقبوله وإقباله على قدر حاله، (ولا طالب إلا وهو قابل) ففي الطلب قبول وزيادة عليه، (وقال صلى الله عليه وسلم: لو عملتم الخطايا حتى تبلغ السماء) أي: لكثرتها وتراكم بعضها على بعض، (ثم ندمتم لتاب الله عليكم) . قال العراقي: رواه ابن ماجه من حديث أبي هريرة بلفظ "لو أخطأتم" وقال: ثم تبتم. وإسناده حسن، انتهى .

قلت: لفظ ابن ماجه: لو أخطأتم حتى تبلغ خطاياكم السماء، ثم تبتم لتاب الله عليكم، قال المنذري: إسناده جيد، وأخرج ابن زنجويه في فوائده عن الحسن بلاغا: "لو أخطأ أحدكم حتى تملأ خطيئته ما بين السماء والأرض، ثم تاب لتاب الله عليه"، وروى أحمد وأبو يعلى والضياء من حديث أنس: "والذي نفسي بيده لو أخطأتم حتى تملأ خطاياكم ما بين السماء والأرض، ثم استغفرتم الله لغفر لكم" الحديث، ورجاله ثقات، ورواه ابن زنجويه من حديث أبي هريرة بلفظ: "والذي نفسي بيده لو أنكم تخطئون حتى تبلغ خطاياكم السماء، ثم تتوبون لتاب الله عليكم"، وفي أوله زيادة (وقال) صلى الله عليه وسلم (أيضا: إن العبد) أي: الإنسان (ليذنب) أي: ليوقع ويفعل (الذنب فيدخل به) أي بسببه (الجنة) ; لأن الذنب مستجلب للتوبة والاستغفار الذي هو موقع محبة الله تعالى إن الله يحب التوابين ، ومن أحبه لم يدخله النار، (قيل: كيف ذلك يا رسول الله؟ قال: يكون) ذنبه (نصب عينه) أي: مستحضرا له كأنه يشاهده أبدا (تائبا) إلى الله (منه فارا) منه إليه (حتى يدخل) به (الجنة) ; لأنه كلما ذكره طار عقله حياء من ربه حيث فعله، وهو بمرأى منه ومسمع فيجد في توبته، ويتضرع في إنابته بخاطر منكسر، وقلب حزين، والله تعالى يحب كل قلب حزين، ومن أحبه أدخله جنته ورفع منزلته. قال العراقي: رواه ابن المبارك في الزهد عن المبارك بن فضالة عن الحسن مرسلا، ولأبي نعيم في الحلية من حديث أبي هريرة: "إن العبد ليذنب الذنب، فإذا ذكره أحزنه، فإذا نظر الله إليه أنه أحزنه غفر الله له" الحديث، وفيه صالح المري، وهو رجل صالح، لكنه مضعف في الحديث، ولابن أبي الدنيا في التوبة من حديث ابن عمر "إن الله ينفع العبد بالذنب يذنبه"، والحديث غير محظوظ قاله العقيلي، انتهى .

قلت: لفظ أبي نعيم: "غفر له ما صنع"، وتمامه قبل أن تأخذ في كفارته بلا صلاة، ولا صيام، وقد رواه أبو نعيم في تاريخ أصبهان، وابن عساكر كلاهما من طريق عيسى بن خالد، عن صالح المري، عن هشام، عن محمد، عن أبي هريرة. قال أبو نعيم: غريب من حديث هشام، وصالح لم يكتبه إلا من حديث عيسى، (وقال صلى الله عليه وسلم: "كفارة الذنب الندامة") أي: ندامته تغطي ذنبه، والكفارة عبارة عن الفعلة والخصلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة، وهي فعالة للمبالغة كقرابة ومثالة، وهي من الصفات الغالبة في الاسمية، قاله الطيبي، وقال رزين: وكون الندامة تكفر الذنب خصيصة لهذه الأمة، وكانت بنو إسرائيل إذا أخطأ أحدهم حرم عليه كل طيب من الطعام، وتصبح خطيئته مكتوبة على باب داره. والحديث قال العراقي: رواه أحمد، والطبراني، والبيهقي في الشعب، من حديث ابن عباس، وفيه يحيى بن عمر بن مالك البكري ضعيف. انتهى .

قلت: ولكن للحديث [ ص: 525 ] بقية، وهي لو لم تذنبوا لأتى الله بقوم يذنبون فيغفر لهم، ويحيى بن عمر بن مالك من رجال الترمذي، قال: الذهبي كان حماد بن زيد يرميه بالكذب، وأبوه عمرو بن مالك كان يسرق الحديث، وقد رواه القضاعي أيضا في مسند الشهاب، وكلهم من هذا الطريق، عن ابن الجوزي، عن ابن عباس.

(وقال صلى الله عليه وسلم: التائب من الذنب كمن لا ذنب له) رواه ابن ماجه من حديث ابن مسعود، وقد تقدم الكلام عليه قريبا .

(ويروى أن حبشيا قال: يا رسول الله، إني كنت أعمل الفواحش فهل لي من توبة؟ قال: نعم فولى) منصرفا (ثم رجع) على يديه (فقال: يا رسول الله أكان يراني وأنا أعملها؟ قال: نعم، فصاح الحبشي صيحة خرجت فيها روحه) حياء من الله تعالى وحشمة منه طار به عقله، ثم تبعه روحه، قال العراقي: لم أجد له أصلا، (ويروى) في بعض الأخبار (أن الله لما لعن إبليس سأله النظرة) بكسر الظاء، أي الإمهال، وذلك في قوله تعالى: فأنظرني إلى يوم يبعثون (فأنظره إلى يوم القيامة) ، وذلك قوله تعالى: فإنك من المنظرين ، (فقال) إبليس: (وعزتك لا خرجت من قلب ابن آدم ما دامت فيه الروح) أي: أصحبه إلى آخر أنفاسه وأغويه، (فقال الله تعالى: وعزتي وجلالي، لا حجبت عنه التوبة، ما دامت فيه الروح) قال العراقي: رواه أحمد، وأبو يعلى، والحاكم، وصححه من حديث أبي سعيد: "إن الشيطان قال: وعزتك يا رب، لا أزال أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني" أورده المصنف بصيغة، ويروى كذا، ولم يعزه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرته احتياطا انتهى .

قلت: ورواه كذلك ابن زنجويه، وعبد بن حميد، والضياء، (وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الحسنات يذهبن السيئات كما يذهب الماء الوسخ") . قال العراقي: لم أجده بهذا اللفظ، وهو صحيح المعنى، وهو بمعنى: أتبع السيئة الحسنة تمحها، رواه الترمذي، وتقدم قريبا، قلت: بل روى أبو نعيم في الحلية من حديث شداد بن أوس: "إن التوبة تغسل الحوبة، وإن الحسنات يذهبن السيئات" الحديث، فلعل المصنف أشار إلى هذا، (والأخبار في هذا) الباب يعني قبول التوبة (لا تحصى) لكثرتها، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل يغفر لعبده ما لم يقع الحجاب، قيل: وما وقوع الحجاب؟ قال: تخرج النفس وهي مشركة" رواه أحمد، والبخاري في التاريخ، وأبو يعلى، وابن حبان، والبغوي في الجعديات، والحاكم، والضياء من حديث أبي ذر، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل يفتح أبواب سماء الدنيا، ثم يبسط يده: ألا عبد يسألني فأعطيه، فلا يزال كذلك حتى يسطع الفجر" رواه ابن عساكر من حديث ابن مسعود، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر" رواه ابن زنجويه، والحاكم، والبيهقي من حديث ابن عمر. ورواه ابن جرير من حديث عبادة، ومن حديث أبي أيوب بشير بن كعب. ورواه ابن زنجويه، وابن جرير، عن الحسن بلاغا. ورواه أحمد عن رجل من الصحابة بلفظ: "ما لم يغرغر بنفسه"، وفي رواية له: "قبل أن يموت بضحوة"، وفي أخرى له: "قبل أن يموت بنصف يوم"، وفي أخرى له "قبل أن يموت بيوم" رواه من حديث أبي ذر بلفظ: "إن الله يقول يا عبدي ما عبدتني ورجوتني فإني غافر لك على ما كان فيك، ويا عبدي إن لقيتني بقراب الأرض خطيئة ما لم تشرك بي لقيتك بقرابها مغفرة"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده ما من أحد يتوب قبل موته بيوم إلا قبل الله توبته" رواه البغوي عن رجل من الصحابة .

وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد يتوب إلى الله عز وجل قبل الموت بشهر إلا قبل الله منه وأدنى من ذلك وقبل موته بيوم أو ساعة، يعلم الله منه التوبة والإخلاص إلا قبل الله منه" رواه الطبراني من حديث ابن عمر.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "من تاب قبل موته بعام يتب عليه حتى قال: بشهر، حتى قال: بجمعة، حتى قال: بيوم، حتى قال: بساعة، حتى قال: بفواق" رواه الحاكم، والبيهقي، والخطيب في المتفق والمفترق، من حديث أبي عمرو.




الخدمات العلمية