الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بيان القدر الواجب في نفي الحسد عن القلب .

اعلم أن المؤذي ممقوت بالطبع ومن آذاك فلا يمكنك أن لا تبغضه غالبا ، فإذا تيسرت له نعمة فلا يمكنك أن لا تكرهها له حتى يستوي عندك حسن حال عدوك ، وسوء حاله ، بل لا تزال تدرك في النفس بينهما تفرقة ولا يزال الشيطان ينازعك إلى الحسد له ولكن إن قوي ذلك فيك حتى بعثك على إظهار الحسد بقول أو فعل بحيث يعرف ذلك من ظاهرك بأفعالك الاختيارية ، فأنت حسود عاص بحسدك ، وإن كففت ظاهرك بالكلية ، إلا أنك بباطنك تحب زوال النعمة وليس في نفسك كراهة لهذه الحالة ; فأنت أيضا حسود عاص لأن ، الحسد صفة القلب لا صفة الفعل ، قال الله تعالى : ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ، وقال عز وجل ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء ، وقال إن تمسسكم حسنة تسؤهم أما الفعل فهو غيبة ، وكذب ، وهو عمل صادر عن الحسد ، وليس هو عين الحسد ، بل محل الحسد القلب دون الجوارح نعم ، هذا الحسد ليس مظلمة يجب الاستحلال منها بل هو معصية بينك وبين الله تعالى ، وإنما يجب الاستحلال من الأسباب الظاهرة على الجوارح فأما إذا كففت ظاهرك ، وألزمت مع ذلك قلبك كراهة ما يترشح منه بالطبع من حب زوال النعمة حتى كأنك تمقت نفسك على ما في طبعها ، فتكون تلك الكراهة من جهة العقل في مقابلة الميل من جهة الطبع ، فقد أديت الواجب عليك ولا يدخل تحت اختيارك في أغلب الأحوال أكثر من هذا ، فأما تغيير الطبع ليستوي عنده المؤذي والمحسن ، ويكون فرحه أو غمه بما تيسر لهما من نعمة ، أو تنصب عليهما من بلية سواء ، فهذا مما لا يطاوع الطبع عليه ما دام ملتفتا إلى حظوظ الدنيا إلا أن يصير مستغرقا بحب الله تعالى مثل السكران الواله ، فقد ينتهي أمره إلى أن لا يلتفت قلبه إلى تفاصيل أحوال العباد ، بل ينظر إلى الكل بعين واحدة ، وهي عين الرحمة ، ويرى الكل عباد الله ، وأفعالهم أفعالا لله ، ويراهم مسخرين وذلك إن كان فهو كالبرق الخاطف لا يدوم ثم يرجع القلب بعد ذلك إلى طبعه ويعود العدو إلى منازعته أعني الشيطان فإنه ينازع بالوسوسة فمهما قابل ذلك بكراهته ، وألزم قلبه هذه الحالة ، فقد أدى ما كلفه وقد ذهب ذاهبون إلى أنه لا يأثم إذا لم يظهر الحسد على جوارحه لما روي عن الحسن أنه سئل عن الحسد ، فقال : غمه ، فإنه لا يضرك ما لم تبده وروي عنه موقوفا ومرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ثلاثة لا يخلو منهن المؤمن ، وله منهن مخرج ، فمخرجه من الحسد أن لا يبغي والأولى أن يحمل هذا على ما ذكرناه من أن يكون فيه كراهة من جهة الدين ، والعقل في مقابلة ، حب الطبع لزوال نعمة العدو ، وتلك الكراهة تمنعه من البغي والإيذاء ، فإن جميع ما ورد من الأخبار في ذم الحسد يدل ظاهره على أن كل حاسد آثم .

التالي السابق


(بيان القدر الواجب في نفي الحسد عن القلب)

(اعلم) هداك الله تعالى (أن المؤذي ممقوت بالطبع) ، أي: يبغضه الناس طبعا (ومن آذاك) بوجه من الوجوه في نفسك أو من عليه حياطتك (فلا يمكنك أن لا تبغضه غالبا، فإذا تيسرت له نعمة) من الله تعالى (فلا يمكنك أن لا تبغضه غالبا، فإذا تيسرت له نعمة) من الله تعالى (فلا يمكنك أن لا تكرهها له حتى يستوي عندك حسن حال عدوك، وسوء حاله، بل لا تزال تدرك في النفس بينهما تفرقة) ، وتمييزا (ولا يزال الشيطان ينازعك إلى الحسد له) ، ويسول لك في تحسينه (ولكن إن قوي ذلك فيك حتى بعثك) ، أي: حملك (على إظهار الحسد بقول أو فعل بحيث يعرف ذلك من ظاهرك بأفعالك الاختيارية، فأنت) حينئذ (حسود عاص بحسدك، وإن كففت ظاهرك) من القول والفعل (بالكلية، إلا أنك بباطنك تحب زوال النعمة) عن المحسود (وليس في نفسك كراهة لهذه الحالة; فأنت أيضا) في [ ص: 76 ] هذه الحالة (حسود عاص، فإن الحسد صفة القلب لا صفة الفعل، قال تعالى: ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ، وقال) تعالى: ( ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء ، وقال) تعالى: ( إن تمسسكم حسنة تسؤهم ) الآية، فهذه الآيات دالة على أن الحسد من صفات القلب (أما الفعل فهو غيبة، وكذب، وهو عمل صادر عن الحسد، وليس هو عين الحسد، بل محل الحسد القلب دون الجوارح) ، فالقلب مستقره، والجوارح مظاهر آثاره .

(نعم، هذا الحسد ليس مظلمة يجب الاستحلال منها) كما قلنا في الغيبة (بل هي معصية بينك وبين الله تعالى، وإنما يجب الاستحلال من الأسباب الظاهرة على الجوارح) كالغيبة، والنميمة، والشتم، ونحوها (فأما إذا كففت ظاهرك، وألزمت مع ذلك قلبك كراهة ما يترشح منه بالطبع من حب زوال النعمة حتى كأنك مقت نفسك على ما في طبعها، فتكون تلك الكراهة من جهة العقل في مقابلة الميل من جهة الطبع، فقد أديت الواجب عليك) ، وأتيت بالميسور منه، (ولا يدخل تحت اختيارك في أغلب الأحوال أكثر من هذا، فأما تغيير الطبع ليستوي عنده المؤذي والمحسن، ويكون فرحه أو غمه مما تيسر لهما من نعمة، أو ينصب عليهما من بلية سواء، فهذا مما لا يطاوع الطبع عليه ما دام ملتفتا إلى حظوظ الدنيا) ، ومختلطا بدواعيها (إلا أن يكون مستغرقا بحب الله تعالى) مستهترا بذكره (مثل السكران الواله، فقد ينتهي أمره إلى أن لا يلتفت قلبه إلى تفاصيل أحوال العباد، بل ينظر إلى الكل بعين واحدة، وهي عين الرحمة، ويرى الكل عبادا لله، وأفعالهم أفعالا لله، ويراهم مسخرين) ، ولا يتم ذلك إلا بعد الترقي من حضيض المجاز إلى ارتفاع الحقيقة، واستكمال المعراج، فيرى ما ذكر بالمشاهدة العيانية، وتنتفي عنه الكثرة بالكلية، ويستغرق بالفردانية المحصنة، فلا يبقى فيه متسع لغير الله تعالى .

ثم في نظره إلى الكل بعين الرحمة تفصيل، فإن كان ممن يصرف الغافلين إلى الله تعالى بطريق اللطف، وينظر إلى العصاة لا بعين الازدراء، فهو في تجلي اسمه الرحمن، وإن كان ممن لا يدع فاقة لمحتاج إلا سدها بقدر طاقته، أو شاركه في الحزن بسبب حاجته، فهو في تجلي اسمه الرحيم (وذلك إن كان) ، أي: وجد (فهو كالبرق الخاطف لا يدوم) مع العارف، ولا يستمر، بل تارة وتارة، (ويرجع القلب بعد ذلك إلى طبعه) الذي جبل عليه، (ويعود العدو إلى منازعته - أعني الشيطان - فإنه ينازع بالوسوسة) ، ويسول له ما يوافق هوى النفس، (فمهما قابل ذلك بكراهته، وألزم قلبه هذه الحالة، فقد أدى ما كلفه) ، فإن هذا القدر هو الذي يدخل تحت الاختيار، (وقد ذهب ذاهبون إلى أنه لا يأثم إذا لم يظهر الحسد عن جوارحه كما روي عن الحسن) البصري - رحمه الله تعالى - (أنه سئل عن الحسد، فقال: غمه، فإنه لا يضرك ما لم تبده) تقدم قريبا بلفظ: سأل رجل الحسن: هل يحسد المؤمن؟ قال: ما أنساه بني يعقوب! نعم، ولكن غمه في صدرك، وأنه لا يضرك ما لم تعد به يدا، أو لسانا (وروي عنه موقوفا) عليه (ومرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ثلاث لا يخلو منهن مؤمن، وله منهن مخرج، فمخرجه من الحسد أن لا يبغي) أما الموقوف، وهو مرسل الحسن فروى ابن أبي الدنيا في ذم الحسد، ورستة في كتاب الإيمان له بلفظ: ثلاث لم تسلم منها هذه الأمة: الحسد، والظن، والطيرة، ألا أنبئكم بالمخرج منها؟ إذا ظننت فلا تحقق، وإذا حسدت فلا تبغ، وإذا تطيرت فامض، وأما المرفوع بلفظ: ثلاث لازمات لأمتي: سوء الظن، والحسد، والطيرة، فإذا ظننت فلا تحقق، وإذا حسدت فاستغفر الله، وإذا تطيرت فامض.

هكذا رواه أبو الشيخ في كتاب التوبيخ، والطبراني في الكبير من حديث حارثة بن النعمان.

وقد تقدم ذكر كل من اللفظين قريبا (والأولى أن يحمل هذا [ ص: 77 ] على ما ذكرناه من أن يكون فيه كراهة من جهة الدين، والعقل، ومقابلة حب الطمع) ، وميله (لزوال نعمة العدو، وتلك الكراهة تمنعه من البغي) عليه (ومن الإيذاء له، فإن جميع ما ورد من الأخبار في ذم الحسد) مما تقدم ذكر بعضها (يدل ظاهره على أن كل حاسد آثم) على الإطلاق .




الخدمات العلمية