الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بيان أن وجوب التوبة على الفور .

أما وجوبها على الفور فلا يستراب فيه ; إذ معرفة كون المعاصي مهلكات من نفس الإيمان وهو واجب على الفور المتقصي عن وجوبه هو الذي عرفه معرفة زجره ذلك عن الفعل المكروه فإن هذه المعرفة ليست من علوم المكاشفات التي لا تتعلق بعمل ، بل هي من علوم المعاملة ، وكل علم يراد ليكون باعثا على عمل فلا يقع التقصي عن عهدته ما لم يصر باعثا عليه ، فالعلم بضرر الذنوب إنما أريد ليكون باعثا لتركها ، فمن لم يتركها فهو فاقد لهذا الجزء من الإيمان ، وهو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم : « لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن » وما أراد به نفي الإيمان الذي يرجع إلى علوم المكاشفة ; كالعلم بالله ، ووحدانيته ، وصفاته ، وكتبه ، ورسله ; فإن ذلك لا ينفيه الزنا والمعاصي وإنما أراد به نفي الإيمان لكون الزنا مبعدا عن الله تعالى موجبا ، للمقت كما إذا قال الطبيب هذا سم فلا تتناوله ، فإذا تناوله يقال : تناول وهو غير مؤمن ، لا بمعنى أنه غير مؤمن بوجود الطبيب وكونه طبيبا وغير مصدق به ، بل المراد أنه غير مصدق بقوله : إنه سم مهلك ; فإن العالم بالسم لا يتناوله أصلا .

التالي السابق


(فصل)

ولما ثبت وجوب أصل التوبة بالدلائل المتقدمة شرع المصنف في بيان أهل وجوبها على الفور، أو على التراخي فقال:

(بيان وجوب التوبة على الفور)

لا على التراخي، ولنقدم قبل الشروع في المقصود أن التوبة يتقدمها واجبان: أحدهما: معرفة الذنب المرجوع عنه أنه ذنب; إذ كثير من العلماء فضلا عن الجهال يقعون فيما لا يحل لهم، وهم يحسبون أنهم على شيء; لأنه لم يتبين من العلم معرفة ما يحبه مما يكرهه، وهذا من قسم الإيمان لله .

الواجب الثاني: أن العبد لا يستبد بالتوبة بنفسه; لأن الله هو خالقها في نفس العبد، وميسر أسبابها، قال الله تعالى: ثم تاب عليهم ليتوبوا وهذا من قسم الإيمان بالله تعالى; لتعلقه بالقدرة، فإذا عرفت ذلك فلنعد إلى شرح كلام المصنف; قال: (أما وجوبها على الفور) ، وحاصل ما سيذكره في السياق الآتي هو أن المعاصي للإيمان كالمأكولات المضرة بالأبدان، فمن تناول سما بغير علم وأدركه الأسف على بدنه، أترى يخرجه من بدنه بالقيء وغيره على الفور تلافيا لبدنه، أو يتراخى في ذلك، فإذا كان خوفه على بدنه يوجب إخراج ما فيه من المهلك، فالرجوع على الفور من سمائم الذنوب المفوتة لسعادة الأبد أولى، وقد ذكر المصنف ذلك تفصيلا فقال: أما وجوبها على الفور (فلا يستراب فيه; إذ معرفة كون المعاصي) سمائم (مهلكات من نفس الإيمان) لله، (وهو واجب على الفور والمقتضى) هكذا بالقاف والضاد في نسخ الكتاب، وفي بعضها بالفاء والصاد المهملة أي: المتخلص (عن وجوبه هو الذي عرفه معرفة زجره ذلك عن الفعل المكروه) أي: مما يكرهه الله تعالى; (فإن هذه المعرفة ليست من علوم المكاشفات التي لا تتعلق بعمل، بل هي من علوم المعاملة، وكل علم يراد ليكون باعثا على عمل فلا يقع التفصي) أي: التخلص (عن عهدته ما لم يصر باعثا عليه، فالعلم بضرر الذنوب إنما أريد ليكون باعثا على تركها، فمن لم يتركها فهو فاقد لهذا الجزء من الإيمان، وهو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن") قال العراقي: متفق عليه من حديث أبي هريرة: انتهى. قلت: وتمامه عندهما: "ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن"، وهكذا رواه أيضا أحمد، والنسائي، وابن ماجه. ورواه أيضا عبد الرازق، والطيالسي، وعبد بن حميد، والحكيم، والطبراني، والبيهقي من حديث عبد الله بن أبي أوفى، ورواه الطبراني في الكبير أيضا من حديث عبد الله بن مغفل، وفي الأوسط من حديث علي، وزاد عبد الرزاق، وأحمد ومسلم في رواية: "ولا يغل أحدكم حين يغل وهو مؤمن، فإياكم إياكم". ويروى: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، والتوبة معروضة بعد" هكذا رواه عبد الرزاق، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والحاكم [ ص: 512 ] من حديث أبي هريرة، ورواه عبد بن حميد، وسمويه، والضياء من حديث أبي سعيد، ورواه الحكيم من حديث عائشة، ويروى: "لا يزني الرجل وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر وهو مؤمن ينزع منه الإيمان، ولا يعود إليه حتى يتوب، فإذا تاب عاد إليه" هكذا رواه أبو نعيم في الحلية من حديث أبي هريرة، ويروى: "لا يزني الزاني حين يزني، وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن" هكذا رواه الطبراني في الأوسط من حديث عائشة، والبزار من حديث أبي سعيد، ويروى: "لا يزني العبد حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يقتل وهو مؤمن" رواه عبد الرزاق، وأحمد، والبخاري، والنسائي، من حديث ابن عباس، ويروى: "لا يزني الرجل وهو مؤمن، ولا يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف وهو مؤمن، فإذا تاب تاب الله عز وجل عليه" رواه البزار، والطبراني، والخطيب من طريق عكرمة عن ابن عباس، وأبي هريرة، وابن عمر، ويروى: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن يخرج منه الإيمان فإذا تاب رجع إليه" رواه الطبراني في الأوسط من حديث أبي سعيد: (وما أراد به نفي الإيمان الذي يرجع إلى علوم المكاشفة; كالعلم بالله، ووحدانيته، وصفاته، وكتبه، ورسله; فإن ذلك لا ينافيه الزنا والمعاصي) المذكورة في الأخبار السابقة، (وإنما أراد به نفي الإيمان لكون الزنا مبعدا عن الله عز وجل، وموجبا للمقت) والغضب، (كما إذ قال الطبيب) للعليل: (هذا) المأكول (سم) مهلك، (فلا تتناوله، فإذا تناوله يقال: تناول وهو غير مؤمن، لا بمعنى أنه غير مؤمن بوجود الطبيب وكونه طبيبا وغير مصدق به، بل المراد به أنه غير مصدق بقوله: إنه سم مهلك; فإن العالم بالسم لا يتناوله أصلا، فالعاصي بالضرورة ناقص الإيمان، وليس الإيمان بابا واحدا، بل هو نيف وسبعون بابا، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) روى الترمذي، وقال: حسن صحيح من حديث أبي هريرة بلفظ: "الإيمان بضع وسبعون بابا، فأدناه إماطة الأذى عن الطريق، وأرفعه قول: لا إله إلا الله، وفي لفظ له: أربعة وستون بابا"، وعند ابن حبان بلفظ: "الإيمان سبعون، أو اثنان وسبعون بابا، أرفعه لا إله إلا الله، وأدناه إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان"، وفي رواية: "الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان" هكذا رواه أحمد، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان من حديث أبي هريرة، والطبراني في الأوسط من حديث أبي سعيد، (ومثال ذلك قول القائل: ليس الإنسان موجودا واحدا، بل هو نيف وسبعون موجودا أعلاها القلب والروح، وأدناها إماطة الأذى) أي: إزالة ما يؤدي (عن البشرة) محركة، وهو ظاهر الجسد (بأن يكون مقصوص الشارب مقلوم الأظفار نقي البشرة عن الخبث) الظاهر، (حتى يتميز) بذلك (عن البهائم المرسلة) في الرعي (المتلوثة بأرواثها المستكرهة الصورة بطول مخالبها وأظلافها) ، وحوافرها، (وهذا مثال مطابق) لما نحن فيه، (فالإيمان كالإنسان وفقد شهادة التوحيد) منه (يوجب البطلان بالكلية، كفقد الروح) من البدن، (والذي ليس له إلا شهادة التوحيد والرسالة هو كإنسان مقطوع الأطراف مفقوء العينين) أي: منخوسهما، (فاقد لجميع أعضائه الظاهرة والباطنة، لا أصل الروح) فهو ناقص، (وكما أن من هذا حاله قريب من أن يموت فتزايله) أي: تفارقه (الروح الضعيفة المنفردة التي تخلف عنها الأعضاء التي تمدها وتقويها فكذلك من ليس له إلا أصل الإيمان، وهو مقصر في الأعمال) غير ملتفت إليها، (قريب من أن تنقطع شجرة إيمانه إذا صدمتها) أي: عارضتها (الرياح العاصفة) القوية الشديدة (المحركة للإيمان [ ص: 513 ] في مقدمة قدوم ملك الموت ووروده، فكل إيمان لم يثبت في النفس أصله، ولم تنتشر في الأعمال فروعه، ولم) يكن (يثبت على عواصف الأهوال عند ظهور ناصية ملك الموت، وخيف عليه سوء الخاتمة إلا ما) ثبت في أرض النفس، و (سقي بماء الطاعات على توالي الأيام والساعات حتى ثبت ورسخ) ، فهو الذي لا يخشى عليه من عواصف الأهوال .

(وقول العاصي للطائع: إني مؤمن كما أنك مؤمن كقول شجرة القرع) ، وهي أضعف الأشجار (لشجرة الصنوبر) وهي أقواها ومنابتها الجبال الشاهقة (إني شجرة مثلك، وأنت شجرة) أي: شملنا هذا الاسم جميعا، وقد ثبت تسمية القرع شجرة بنص القرآن: وأنبتنا عليه شجرة من يقطين قال: المفسرون هو القرع، (وما أحسن جواب شجرة الصنوبر) لها (إذ قالت: ستعرفين اغترارك بشمول الاسم إذا عصفت رياح الخريف) الزعازع، (فعند ذلك تنقطع أصولك، وتتناثر أوراقك، وينكشف غرورك بالمشاركة في اسم الشجرة مع الغفلة عن أسباب ثبات الأشجار) ، وقد قيل: في المثل:

(

وسوف ترى إذا انجلى الغبار أفرس تحتك أم حمار )

.

(وهذا أمر يظهر عند الخاتمة، وإنما انقطعت نياط قلوب العارفين) النياط بالكسر العرق الذي معلق به القلب، فعلى هذا فالأولى، وإنما انقطع (خوفا من دواهي الموت ومقدماته الهائلة التي لا يثبت عليها إلا الأقلون) ، فمن ثبته الله على الصراط المستقيم .




الخدمات العلمية