الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وربما شعر العابد بميل قلبه إلى المادح دون الذام ، والشيطان يحسن له ذلك ، ويقول : الذام قد عصى الله بمذمتك ، والمادح قد أطاع الله بمدحك ، فكيف تسوي بينهما ، وإنما استثقالك للذام من الدين المحض .

وهنا ، محض التلبيس فإن العابد لو تفكر علم أن في الناس من ارتكب كبائر المعاصي أكثر مما ارتكب الذام في مذمته ثم إنه لا يستثقلهم ، ولا ينفر عنهم ، ويعلم أن المادح الذي مدحه لا يخلو عن مذمة غيره .

ولا يجد في نفسه نفرة عنه بمذمة غيره ، كما يجد لمذمة نفسه ، والمذمة من حيث إنها معصية لا تختلف بأن يكون هو المذموم أو غيره .

فإذا : العابد المغرور لنفسه يغضب ولهواه يمتعض ثم إن الشيطان يخيل إليه أنه من الدين ؛ حتى يعتل على الله بهواه ، فيزيده ذلك بعدا من الله ، ومن لم يطلع على مكايد الشيطان ، وآفات النفوس فأكثر عباداته تعب ضائع يفوت عليه الدنيا ويخسره في الآخرة وفيهم قال الله تعالى : قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا .

الحالة الرابعة : وهي الصدق في العبادة ، أن يكره المدح ، ويمقت المادح إذ ؛ يعلم أنه فتنة عليه قاصمة للظهر مضرة له في الدين ، ويحب الذام ؛ إذ يعلم أنه مهد إليه عيبه ، ومرشد له إلى مهمه ، ومهد إليه حسناته فقد ، قال صلى الله عليه وسلم : رأس التواضع أن تكره أن تذكر بالبر والتقوى وقد روي في بعض الأخبار ما هو قاصم لظهور أمثالنا إن صح إذ روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: : ويل للصائم ، وويل للقائم ، وويل لصاحب الصوف ، إلا من، فقيل: يا رسول الله إلا من؟ فقال: إلا من تنزهت نفسه عن الدنيا، وأبغض المدحة، واستحب المذمة وهذا شديد جدا ، وغاية أمثالنا الطمع في الحالة الثانية ، وهو أن يضمر الفرح والكراهة على الذام والمادح ، ولا يظهر ذلك بالقول والعمل فأما ، الحالة الثالثة وهي التسوية بين المادح والذام فلسنا نطمع فيها .

ثم إن طالبنا أنفسنا بعلامة الحالة الثانية فإنها لا تفي بها لأنه لا بد وأن تتسارع ، إلى إكرام المادح ، وقضاء حاجاته وتتثاقل على ، إكرام الذام ، والثناء عليه ، وقضاء حوائجه ، ولا نقدر على أن نسوي بينهما في الفعل الظاهر ، كما لا نقدر عليه في سريرة القلب ، ومن قدر على التسوية بين المادح والذام في ظاهر الفعل فهو جدير بأن يتخذ قدوة في هذا الزمان ، إن وجد فإنه الكبريت الأحمر ، يتحدث الناس به ولا يرى فكيف بما بعده من المرتبتين ، وكل واحدة من هذه الرتب أيضا فيها درجات .

أما الدرجات في المدح فهو أن من الناس من يتمنى المدحة والثناء وانتشار الصيت ، فيتوصل إلى نيل ذلك بكل ما يمكن حتى يرائي بالعبادات ، ولا يبالي بمقارفة المحظورات لاستمالة قلوب الناس واستنطاق ألسنتهم بالمدح وهذا من الهالكين .

ومنهم من يريد ذلك ويطلبه بالمباحات ، ولا يطلبه بالعبادات ، ولا يباشر المحظورات ، وهذا على شفا جرف هار فإن حدود الكلام الذي يستميل به القلوب ، وحدود الأعمال ، لا يمكنه أن يضبطها ، فيوشك أن يقع فيما لا يحل لنيل الحمد ، فهو قريب من الهالكين جدا .

ومنهم من لا يريد المدحة ، ولا يسعى لطلبها ، ولكن إذا مدح سبق السرور إلى قلبه فإذا لم يقابل ذلك بالمجاهدة ولم يتكلف الكراهية ، فهو قريب من أن يستجره فرط السرور إلى الرتبة التي قبلها ، وإن جاهد نفسه في ذلك ، وكلف قلبه الكراهية ، وبغض السرور إليه بالتفكر في آفات المدح ، فهو في خطر المجاهدة ، فتارة تكون اليد له وتارة تكون عليه .

التالي السابق


(وربما يشعر العابد بميل قلبه إلى المادح دون الذام، والشيطان يحسن له ذلك، ويقول له: الذام قد عصى الله بمذمتك، والمادح قد أطاع الله بمدحتك، فكيف تسوي بينهما، وإنما استثقالك الذام من الدين المحض، فهذا) الذي يغره الشيطان (محض التلبيس) منه عليه (فإن العابد لو تفكر علم أن في الناس من ارتكب من كبائر المعاصي أكثر مما ارتكبه الذام في مذمته) له (ثم أنه لا يستثقلهم، ولا ينفر عنهم، ويعلم أن المادح الذي مدحه لا يخلو من مذمة غيره) عند غيره أو عنده (ولا يجد في نفسه نفرة عنه) ولا استنكارا (لمذمة غيره، كما لا يجد لمذمة نفسه، والمذمة من حيث إنها معصية لا تختلف بأن يكون هو المذموم أو غيره، فإذا: العابد المغرور لنفسه يغضب ولهواه يمتعص) ويتوجع .

(ثم إن الشيطان يخيل إليه أنه من الدين؛ حتى يعتل على الله بهواه، فيزيده ذلك بعدا من الله، ومن لم يطلع على مكايد الشيطان، وآفات النفوس فأكثر عباداته تعب ضائع) لا يفيد شيئا (يفوت عليه الدنيا) لتركه إياها (ويخسر في الآخرة) لاغتراره بتلبيس الشيطان (وفيهم قال الله تعالى: قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ) فهؤلاء قد خسرت أعمالهم، وكثر تعبهم، وضل سعيهم، فلم يمتعوا نفوسهم بالدنيا لزهدهم عنها، ولا أخلصوا في أعمالهم؛ ليتمتعوا بها في الآخرة، فهم ممن خسر الدنيا والآخرة معا .

(الحالة الرابعة: وهي الصدق في العبادة، أن يكره المدح، ويمقت المادح؛ إذ يعلم أنه فتنة عليه قاصمة للظهر) داقة للعنق (مضرة له في الدين، ويحب الذام؛ إذ يعلم أنه مهد إليه عيوبه، ومرشد له إلى مهمه، ومهد إليه حسناته، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "رأس التواضع أن يكره أن يذكر بالبر والتقوى") قال العراقي: لم أجد له أصلا .

(وقد روي في بعض الأخبار ما هو قاصم لظهور أمثالنا إن صح) وروده (إذ روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "ويل للصائم، وويل للقائم، وويل لصاحب الصوف، إلا من، فقيل: يا رسول الله إلا من؟ فقال: إلا من تنزهت نفسه عن الدنيا، وأبغض المدحة، واستحب المذمة") قال العراقي: لم أجده هكذا، وذكر صاحب الفردوس من حديث أنس: "ويل لمن لبس الصوف فخالف فعله قوله" ولم يخرجه ولده في مسنده .

(وهذا شديد جدا، وغاية أمثالنا الطمع في الحالة الثانية، وهو أن يضمر الفرح والكراهية على الذام والمادح، ولا يظهر ذلك بالقول والعمل، وأما الحالة الثالثة وهي التسوية بين المادح والذام فلسنا نطمع فيها، ثم إن طالبنا أنفسنا بعلامة الحالة الثانية فما وفت لنا، وإلا ولا بد) وفي [ ص: 260 ] بعض النسخ: فإنا لا نفي بها، فإنا ولا بد (أن نتسارع إلى إكرام المادح، وقضاء حاجاته، ونتثاقل عن إكرام الذام، والثناء عليه، وقضاء حوائجه، ولا نقدر أن نسوي بينهما في الفعل الظاهر، كما لا نقدر عليه في سريرة القلب، ومن قدر على التسوية بين الذام والمادح في ظاهر الفعل فهو جدير بأن يتخذ قدوة) أي: شيخا يقتدى به (في هذا الزمان، إن وجد فإنه) عزيز جدا، مثل (الكبريت الأحمر، يتحدث به ولا يرى) فهو رابع الغول والعنقاء والخل الوفي (فكيف بما بعده من الرتبتين، وكل واحدة من هذه الرتب فيها درجات) متفاوتة .

(أما الدرجات في المدح فهو أن من الناس من يتمنى المدحة والثناء وانتشار الصيت، فيتوصل إلى نيلها بكل ممكن) وفي نسخة: بكل ما أمكن (حتى يرائي بالعبادات، ولا يبالي بمقارفة المحظورات) أي: ارتكابها (لاستمالة قلوب الناس) إليه (واستنطاق ألسنتهم بالمدح) له (وهذا من الهالكين) في هوة الضلال .

(ومنهم من يريد ذلك ويطلبه بالمباحات، ولا يطلبه بالعبادات، ولا يباشر المحظورات، وهذا على شفا) أي: طرف (جرف هار) أي: هائر بمعنى ساقط (فإن حدود الكلام الذي يستميل به القلوب، وحدود الأعمال، لا يمكنه أن يضبطها، فيوشك أن يقع فيما لا يحل لنيل الحمد، فهو قريب من الهالكين جدا) فمن حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه .

(ومنهم من لا يريد المدحة، ولا يسعى لطلبها، ولكن إذا مدح سبق السرور إلى قلبه) من غير علاج منه (فإن لم يقابل ذلك بالمجاهدة) والرياضة (ولم يتكلف الكراهية، فهو قريب من أن يستجره فرط السرور إلى الرتبة التي قبلها، وإن جاهد نفسه في ذلك، وكلف قلبه الكراهة، وبغض السرور إليه بالتفكر في آفات المدح، فهو في خطر المجاهدة، فتارة تكون اليد له) فيغلبه (وتارة تكون عليه) فيغلب عليه .




الخدمات العلمية