الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومراتب ذلك تنحصر ، وهي تنقسم إلى ما يعلم أنها داخلة تحت ذكر الكبائر المذكورة في القرآن ، وإلى ما يعلم أنه لا يدخل ، وإلى ما يشك فيه ، وطلب دفع الشك في القسم المتوسط طمع في غير مطمع . المرتبة الثانية النفوس إذ ببقائها وحفظها تدوم الحياة ، وتحصل المعرفة بالله فقتل النفس لا محالة من الكبائر وإن كان دون الكفر ; لأن ذلك يصدم عين المقصود ، وهذا يصدم وسيلة المقصود إذ حياة الدنيا لا تراد إلا للآخرة والتوصل إليها بمعرفة الله تعالى ، ويتلو هذه الكبيرة قطع الأطراف وكل ما يفضي إلى الهلاك حتى الضرب وبعضها أكبر من بعض ويقع في هذه الرتبة تحريم الزنا واللواط لأنه لو اجتمع الناس على الاكتفاء بالذكور في قضاء الشهوات انقطع النسل ودفع الموجود قريب من قطع الوجود وأما الزنا فإنه لا يفوت أصل الوجود ، ولكن يشوش الأنساب ويبطل التوارث والتناصر وجملة من الأمور التي لا ينتظم العيش إلا بها ، بل كيف يتم النظام مع إباحة الزنا ، ولا ينتظم أمور البهائم ما لم يتميز الفحل منها بإناث يختص بها عن سائر الفحول ولذلك ، لا يتصور أن يكون الزنا مباحا في أصل شرع قصد به الإصلاح ، وينبغي أن يكون الزنا في الرتبة دون القتل ; لأنه ليس يفوت دوام الوجود ، ولا يمنع أصله ولكنه يفوت تمييز الأنساب ، ويحرك من الأسباب ما يكاد يفضي إلى التقاتل وينبغي أن يكون أشد من اللواط ; لأن الشهوة داعية إليه من الجانبين فيكثر وقوعه ، ويعظم أثر الضرر بكثرته المرتبة الثالثة : الأموال فإنها معايش الخلق فلا يجوز تسلط الناس على تناولها كيف شاءوا حتى بالاستيلاء والسرقة وغيرهما ، بل ينبغي أن تحفظ لتبقى ببقائها النفوس ، إلا أن الأموال إذا أخذت أمكن استردادها وإن أكلت أمكن تغريمها فليس يعظم الأمر فيها نعم ، إذا جرى تناولها بطريق يعسر التدارك له فينبغي أن يكون ذلك من الكبائر . وذلك بأربع طرق : أحدها الخفية : وهي السرقة فإنه إذا لم يطلع عليه غالبا كيف يتدارك الثاني : أكل مال اليتيم ، وهذا أيضا من الخفية ، وأعني به في حق الولي والقيم فإنه مؤتمن فيه ، وليس له خصم سوى اليتيم ، وهو صغير لا يعرفه ، فتعظيم الأمر فيه واجب ، بخلاف الغصب فإنه ظاهر يعرف ، وبخلاف الخيانة في الوديعة ; فإن المودع خصم فيه ينتصف لنفسه . الثالث : تفويتها بشهادة الزور الرابع : أخذ الوديعة وغيرها باليمين الغموس فإن هذه طريق لا يمكن فيها التدارك ، ولا يجوز أن تختلف الشرائع في تحريمها أصلا ، وبعضها أشد من بعض ، وكلها دون الرتبة الثانية المتعلقة بالنفوس وهذه الأربعة جديرة بأن تكون مرادة بالكبائر ، وإن لم يوجب الشرع الحد في بعضها ، ولكن أكثر الوعيد عليها وعظم في مصالح الدنيا تأثيرها ، وأما أكل الربا فليس فيه إلا أكل مال الغير بالتراضي مع الإخلال بشرط وضعه الشرع ولا يبعد أن تختلف الشرائع في مثله ، وإذا لم يجعل الغضب الذي هو أكل مال الغير بغير رضاه وبغير رضا الشرع من الكبائر ، فأكل الربا أكل ، برضا المالك ، ولكن دون رضا الشرع ، وإن عظم الشرع الزنا بالزجر عنه فقد عظم أيضا الظلم بالغصب وغيره ، وعظم الخيانة والمصير إلى أن أكل دانق بالخيانة أو الغصب من الكبائر فيه نظر ، وذلك واقع في مظنة الشك .

، وأكثر ميل الظن إلى أنه غير داخل تحت الكبائر ، بل ينبغي أن تختص الكبيرة بما لا يجوز اختلاف الشرع فيه ليكون ضروريا في الدين فيبقى مما ذكره أبو طالب المكي القذف ، والشرب ، والسحر ، والفرار من الزحف وعقوق ، الوالدين ; أما الشرب لما يزيل العقل فهو جدير بأن يكون من الكبائر ، وقد دل عليه تشديدات الشرع وطريق النظر أيضا ; لأن العقل محفوظ كما أن النفس محفوظة بل لا خير في النفس دون العقل ، فإزالة العقل من الكبائر ، ولكن هذا لا يجري في قطرة من الخمر ، فلا شك في أنه لو شرب ماء فيه قطرة من الخمر لم يكن ذلك كبيرة ، وإنما هو شرب ماء نجس ، والقطرة وحدها في محل الشك ، وإيجاب الشرع الحد به يدل على تعظيم أمره ، فيعد ذلك من الكبائر بالشرع ، وليس في قوة البشرية الوقوف على جميع أسرار الشرع ، فإن ثبت إجماع في أنه كبيرة وجب الاتباع ولا ، فللتوقف فيه مجال .

التالي السابق


(ومراتب ذلك لا تحصى، وهي تنقسم إلى ما يعلم أنها داخلة تحت ذكر الكبائر المذكورة في القرآن، وإلى ما يعلم أنه لا يدخل، وإلى ما يشك فيه، وطلب رفع الشك في القسم المتوسط طمع في غير مطمع .

المرتبة الثانية النفوس إذا ببقائها وحفظها تدوم الحياة، وتحصل المعرفة بالله) تعالى (فقتل النفس لا محالة من الكبائر) كما ورد التصريح بذلك في الآية والأخبار المتقدمة، (وإن كان دون الكفر; لأن ذلك) أي: الكفر (يصدم عين المقصود، وهذا) أي: القتل (يصدم وسيلة المقصود إذ حياة الدنيا لا تراد إلا للآخرة والتوصل بها إلى معرفة الله تعالى، ويتلو هذه الكبيرة قطع الأطراف) كاليدين، والرجلين، والأنف، والأذن، واللسان، (وكل ما يفضي إلى الهلاك) ولو بعد مدة، (حتى الضرب) المثخن (وبعضها أكبر من بعض) ; فإن في كل ذلك صدما لوسائل المقصود، (ويقع في هذه الرتبة تحريم الزنا واللواط) في الأدبار; (لأنه لو اجتمع الناس على الاكتفاء بالذكور في قضاء الشهوات انقطع النسل) أي: الذرية، (ورفع الوجود قريب من قطع الوجود) هذا في اللواط، (وأما الزنا فإنه لا يفوت أصل الوجود، ولكن يشوش الأنساب) ، ويخلطها، (ويبطل التوارث) المشروع، (والتناصر) أي: التعاون في الأمور المهمة، (وجملة من الأمور التي لا ينتظم العيش إلا بها، بل كيف يتم النظام مع إباحة الزنا، ولا تنتظم أمور البهائم ما لم يتميز الفحل منها بإناث يختص) هو (بها عن سائر الفحول، وكذلك لا يتصور أن يكون الزنا مباحا في شرع قصد به الإصلاح، وينبغي أن يكون الزنا في الرتبة دون القتل; لأنه ليس يفوت دوام الوجود، ولا يمنع أصله ولكنه يفوت تمييز الأنساب، ويحرك من الأسباب ما يكاد يفضي إلى التقاتل) والتهالك، (وينبغي أن يكون أشد من اللواط; لأن الشهوة داعية إليه من الجانبين) الذكر والأنثى بحكم الفطرة، (فيكثر وقوعه، ويعظم أثر الضرر بكثرته) بخلاف اللواط .

(المرتبة الثانية: الأموال فإنها معايش الخلق) يتعاملون بها (فلا يجوز تسلط الناس على تناولها كيف شاءوا بالاستيلاء) والقهر والغلبة (والسرقة وغيرهما، بل ينبغي أن تحفظ لتبقى ببقائها النفوس، إلا أن الأموال إذا أخذت أمكن استردادها) لأربابها، (وإن أكلت أمكن تغريمها فليس يعظم الأمر فيها) لإمكان التدارك في الحالين (نعم، إذا جرى تناولها بطريق يعسر التدارك فيه فينبغي أن يكون ذلك من الكبائر.

وذلك بأربع طرق: أحدها: أخذها خفية وهي السرقة) ، وهي أخذ ما ليس له أخذه في خفاء; (فإنه إذا لم يطلع عليه غالبا كيف يتدارك) ، وفي معناها الاختلاس والاستلال .

(الثاني: أكل مال اليتيم، وهذا أيضا من الخفية، وأعني به في حق الولي) على ماله، (والقيم) عليه من جهة الشرع (فإنه مؤتمن فيه، وليس له خصم سوى اليتيم، وهو صغير لا يعرفه، فتعظيم [ ص: 541 ] الأمر فيه واجب، بخلاف الغصب فإنه ظاهر يعرف، وبخلاف الخيانة في الوديعة; فإن المودع خصم فيه ينتصف لنفسه .

الثالث: تفويتها) أي: الأموال (بشهادة الزور) أي: الكذب بأن يشهد بما لا يتحققه، قال العز بن عبد السلام: وعدها كبيرة ظاهر إن وقع في مال خطير، فإن وقع في قليل كزبيبة أو تمرة فمشكل كما سيأتي الكلام عليه قريبا .

(الرابع: أخذ الوديعة وغيرها باليمين الغموس) ، وقد تقدم معناها; (فإن هذه طريق لا يمكن فيها التدارك، ولا يجوز أن تختلف الشرائع في تحريمها أصلا، وبعضها أشد من بعض، وكلها دون الرتبة الثانية المتعلقة بالنفوس) قال العز بن عبد السلام في قواعده: وإن كان الشاهد بها كاذبا أثم ثلاثة آثام إثم المعصية، وإثم إعانة الظالم، وإثم خذلان المظلوم، وإن كان صادقا أثم إثم المعصية لا غير لتسببه إلى براء ذمة الظالم، وإيصال المظلوم إلى حقه. (وهذه الأربعة جديرة لأن تكون مرادة بالكبائر، وإن لم يوجب الشرع الحد في بعضها، ولكن أكثر الوعيد عليها) بالنار والويل وبالعذاب الأليم، (وعظم في مصالح الدنيا تأثيرها، وأما أكل الربا فليس فيه إلا أكل مال الغير بالتراضي) من الجانبين (مع الإخلال بشرط وضعه الشرع) ، ورتبه، (ولا يبعد أن تختلف الشرائع في مثله، وإذا لم يجعل الغصب الذي هو أكل مال الغير بغير رضاه وبغير رضا الشرع من الكبائر، فأكل الربا أولى أن لا يكون من الكبائر، فأكل الربا أكل برضا المالك، ولكن دون رضا الشرع، وإن عظم الشرع الربا بالزجر عنه) والوعيد عليه (فقد عظم أيضا الظلم بالغصب وغيره، وعظم الخيانة) وهي التفريط في الأمانة. (والمصير إلى أن أكل دانق بالخيانة أو الغصب من الكبائر فيه نظر، وذلك واقع في مظنة الثلث، وأكثر ميل الظن إلى أنه غير داخل تحت الكبائر، بل ينبغي أن تختص الكبيرة بما لا يجوز اختلاف الشرائع فيه ليكون ضروريا في الدين) اعلم أنه ذكر ابن عبد السلام في القواعد أن أخذ الأموال وتفويتها على أربابها بشهادة الزور كبيرة إن كان في مال خطير وإلا فمشكل، فيجوز أن يجعل من الكبائر فطاما عن المفاسد كما جعل شرب قطرة من الخمر من الكبائر، وإن لم تتحقق المفسدة، ويجوز أن يضبط ذلك المال بنصاب السرقة، قال: وكذلك القول في أكل مال اليتيم قال في الخادم: ويشهد للثاني ما نقل عن أبي سعيد الهروي اشتراطه في كون الغصب كبيرة أن يكون المغصوب ربع دينار، لكن ذكر ابن عبد السلام نفسه أنه حكى الإجماع على أن غصب الحبة وسرقتها كبيرة، وهذا يؤيد أنه لا فرق في كون شهادة الزور كبيرة بين قليل المال وكثيره فطما عن المفسدة (فيبقى مما ذكره) الإمام (أبو طالب المكي) في القوت (القذف، والشرب، والسحر، والفرار من الزحف، وعقوق الوالدين; أما الشرب لما يزيل العقل فهو جدير بأن يكون من الكبائر، وقد دل عليه تشديدات الشرع) ; فمن ذلك ما رواه الشيخان، والنسائي من حديث أبي هريرة: "ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن" وقد تقدم، وروى الترمذي: "إذا فعلت أمتي ثنتي عشرة خصلة فقد حل بهم البلاء" فذكرها، وفيه: "وشربت الخمور" وتقدم، وروى الحاكم وصححه: "اجتنبوا الخمر فإنها مفتاح كل شر"، وفي جامع رزين: "الخمر جماع الإثم"، وعند ابن ماجه من حديث أبي الدرداء: "ولا شرب الخمر; فإنها مفتاح كل شر"، وروى الطبراني من حديث ابن عباس قال: لما حرمت الخمر قالوا: حرمت الخمر، وجعلت عدلا للشرك. وعند أحمد من حديث قيس بن سعد: "من شرب الخمر خرج نور الإيمان من قلبه"، وعند البزار: "سقاه الله من حميم جهنم" إلى غير ذلك من الأخبار الواردة فيه، (و) دل عليه (طريق النظر أيضا; لأن العقل محفوظ كما أن النفس محفوظة) ، فكما يجب حفظ النفس يجب حفظ العقل، (بل لا خير في النفس دون العقل، فإزالة العقل) بالمسكرات (من الكبائر، ولكن هذا لا يجري في قطرة من الخمر، فلا شك في أنه لو شرب ماء فيه قطرة من الخمر لم يكن ذلك كبيرة، وإنما هو شرب ماء نجس، والقطرة [ ص: 542 ] وحدها في محل الشك، وإيجاب الشرع الحد به يدل على تعظيم أمره، فيعد ذلك من الكبائر بالشرع، وليس في القوة البشرية الوقوف على جميع أسرار الشرع، فإن ثبت إجماع في أنه كبيرة وجب الاتباع، وإلا فللتوقف فيه مجال) قال ابن حجر في الزواجر: أما شرب الخمر ولو قطرة منها فكبيرة إجماعا، ويلحق بذلك شرب المسكر من غيرها، وفي الماء من غير المسكر خلاف، والأصح إلحاقه إن كان شافعيا وأما ما اقتضاه كلام الروياني من أن شرب غير الخمر إنما يكون كبيرة إذا سكر منه فمردود بأن القدر الذي لا يسكر داخل تحت الخمر على المشهور عند الشافعية من ثبوت اللغة قياسا، وفيه الحد عندهم أيضا أي: والحد من العلامات القطعية الدالة على كون الشيء المحدود عليه كبيرة فسكوت الرافعي على كلام الروياني ضعيف، وكذلك قول الحليمي: لو خلط خمرا بمثلها من الماء فذهبت شدتها وشربها فصغيرة اهـ.، وقد قال الأذراعي عقبه: وفيه نظر، ولا يسمح الأصحاب بذلك فيما أراه، وقد قالوا: إن شرب القطرة منها كبيرة، ومعلوم أنها لا تؤثر اهـ.، وهو ظاهر، وهذا في حق من يعتقد التحريم، أما من يعتقد الحل فقال الشافعي: أحده وأقبل شهادته، أي: لأنه لم يأت كبيرة في عقيدته على أن ما نقله الرافعي عن الروياني ذكر مثله القاضي أبو سعيد الهروي وحكى الخلاف ولم يرجح منه شيئا فقال في تعداد الكبائر: وشرب الخمر، والمسكر من غيره، وفي اليسير منه خلاف إذا كان شافعيا اهـ.، والأرجح ما ذكر أنه كبيرة أيضا، وأما قول الحليمي: شرب الخمر كبيرة فإن استكثر منه حتى سكر أو جاهر به ففاحشة فإن مزج خمرا بمثلها من الماء فذهبت شدتها وضررها فذلك من الصغائر فمرود أيضا; فإن الأصحاب لا يسمعون فيما قاله في مزج الخمر بمثلها، بل الصواب كما قاله الجلال البلقيني: الجزم بخلاف ما قاله، وإن ذلك كبيرة لا محالة، ومر أن العز بن عبد السلام اختار ضبط الكبيرة بما يشعر بتهاون مرتكبها بدينه إشعار أصغر الكبائر المنصوص عليها، وقرر ذلك إلى أن قال: فعلى هذا إن كانت مفسدته كمفسدة ما قرت به وعيد، أو لعن، أو حد، أو كان أكثر مفسدة منه فهو كبيرة اهـ.، وذيل عليه ابن دقيق العيد أنه لا بد أن توجد المفسدة مجردة عما يعتريها من أمر آخر فإنه قد يقع الغلط في ذلك، قال: ألا ترى أن السابق إلى الذهن في مفسدة الخمر السكر وتشويش العقل فإن أخذنا بمجرده لزم أن لا يكون شرب القطرة الواحدة كبيرة; لخلوها عن المفسدة المذكورة، لكنها كبيرة لمفسدة أخرى، وهو التجرؤ على شرب الكثير الموقع في المفسدة، فهذا الاقتران بصيرة كبيرة، والله أعلم .




الخدمات العلمية