الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
حكايات الأسخياء .

عن محمد بن المنكدر عن أم درة ، وكانت تخدم عائشة رضي الله عنها قالت إن معاوية ، بعث إليها بمال في غرارتين ثمانين ومائة ألف درهم فدعت بطبق فجعلت تقسمه بين الناس فلما أمست قالت : يا جارية هلمي فطوري ، فجاءتها بخبز وزيت ، فقالت لها أم درة : ما استطعت فيما قسمت اليوم أن تشتري لنا بدرهم لحما نفطر عليه فقالت ؟ لو كنت ذكرتيني لفعلت .

وعن أبان بن عثمان قال : أراد رجل أن يضار عبد الله بن عباس فأتى وجوه قريش فقال : يقول لكم عبيد الله : تغدوا عندي اليوم ، فأتوه حتى ملؤوا عليه الدار فقال : ما هذا ? فأخبر الخبر ، فأمر عبيد الله بشراء فاكهة وأمر قوما فطبخوا ، وخبزوا ، وقدمت الفاكهة إليهم ، فلم يفرغوا منها حتى وضعت الموائد ، فأكلوا حتى صدروا فقال عبيد الله لوكلائه أموجود : لنا هذا كل يوم ? قالوا : نعم قال : فليتغد عندنا هؤلاء في كل يوم .

وقال مصعب بن الزبير حج معاوية فلما انصرف مر بالمدينة فقال الحسين بن علي لأخيه الحسن لا تلقه ولا تسلم عليه فلما خرج معاوية قال الحسن إن علينا دينا فلا بد لنا من إتيانه فركب في أثره ولحقه فسلم عليه وأخبره بدينه فمروا عليه ببختي عليه ثمانون ألف دينار وقد أعيا وتخلف عن الإبل وقوم يسوقونه فقال معاوية ما هذا فذكر له فقال اصرفوه بما عليه إلى أبي محمد .

وعن واقد بن محمد الواقدي ، قال حدثني : أبي أنه رفع رقعة إلى المأمون يذكر فيها كثرة الدين وقلة صبره عليه فوقع المأمون على ظهر رقعته إنك رجل اجتمع فيك خصلتان السخاء والحياء ، فأما السخاء ، فهو الذي أطلق .

ما في يديك وأما الحياء ، فهو الذي يمنعك عن تبليغنا ما أنت عليه وقد أمرت لك بمائة ألف درهم فإن كنت قد أصبت فازدد في بسط يدك ، وإن لم أكن قد أصبت فجنايتك على نفسك وأنت حدثتني وكنت ، على قضاء الرشيد عن محمد بن إسحق عن الزهري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للزبير بن العوام يا زبير ، اعلم أن مفاتيح أرزاق العباد بإزاء العرش ، يبعث الله عز وجل إلى كل عبد بقدر نفقته ، فمن كثر كثر له ، ومن قلل قلل له وأنت أعلم .

قال الواقدي فوالله لمذاكرة المأمون إياي بالحديث أحب إلي من الجائزة وهي ، مائة ألف درهم .

وسأل رجل الحسن بن علي رضي الله عنهما حاجة ، فقال له : يا هذا ، حق سؤالك إياي يعظم لدي ، ومعرفتي بما يجب لك تكبر علي ، ويدي تعجز عن نيلك بما أنت أهله ، والكثير في ذات الله تعالى قليل ، وما في ملكي وفاء لشكرك ، فإن قبلت الميسور ، ورفعت عني مؤنة الاحتمال والاهتمام لما أتكلفه من واجب حقك فعلت فقال يا ابن رسول الله ، أقبل وأشكر العطية ، وأعذر على المنع ، فدعا الحسن بوكيله ، وجعل يحاسبه على نفقاته حتى استقصاها فقال : هات الفاضل من الثلثمائة ألف درهم ، فأحضر خمسين ألفا ، قال : فما فعلت بالخمسمائة دينار ? قال : هي عندي ، قال : أحضرها ، فأحضرها فدفع الدنانير والدراهم ، إلى الرجل وقال : هات من يحملها لك ، فأتاه بحمالين فدفع إليه الحسن رداءه لكراء الحمالين ، فقال له مواليه : والله ما عندنا درهم ، فقال : أرجو أن يكون لي عند الله أجر عظيم .

واجتمع قراء البصرة إلى ابن عباس وهو عامل بالبصرة ، فقالوا : لنا جار صوام قوام يتمنى كل واحد منا أن يكون مثله وقد زوج بنته من ابن أخيه وهو فقير ، وليس عنده ما يجهزها به ، فقام عبد الله بن عباس ، فأخذ بأيديهم وأدخلها داره ، وفتح صندوقا ، فأخرج منه ست بدر فقال احملوا : فحملوا ، فقال ابن عباس : ما أنصفناه ، أعطيناه ما يشغله عن قيامه وصيامه ، ارجعوا بنا نكن أعوانه على تجهيزها ، فليس للدنيا من القدر ما يشغل مؤمنا عن عبادة ربه ، وما بنا من الكبر ما لا نخدم أولياء الله تعالى ، ففعل ، وفعلوا .

وحكي أنه لما أجدب الناس بمصر وعبد الحميد بن سعد أميرهم ، فقال : والله لأعلمن الشيطان أني عدوه فعال محاويجهم إلى أن رخصت الأسعار ثم عزل عنهم ، فرحل وللتجار عليه ألف ألف درهم فرهنهم بها حلي نسائه وقيمتها ، خمسمائة ألف ألف ، فلما تعذر عليه ارتجاعها كتب إليهم ببيعها ، ودفع الفاضل منها عن حقوقهم إلى من لم تنله صلاته .

وكان أبو طاهر بن كثير شيعيا ، فقال له رجل : بحق علي بن أبي طالب لما وهبت لي نحلتك بموضع كذا وكذا فقال : قد فعلت ، وحقه لأعطينك ما يليها وكان ذلك أضعاف ما طلب الرجل .

وكان أبو مرثد أحد الكرماء فمدحه بعض الشعراء ، فقال للشاعر : والله ما عندي ما أعطيك ، ولكن قدمني إلى القاضي وادع علي بعشرة آلاف درهم حتى أقر لك بها ، ثم احبسني فإن أهلي ، لا يتركوني محبوسا ، ففعل ذلك ، فلم يمس حتى دفع إليه عشرة آلاف درهم . وأخرج أبو مرثد من الحبس .

وكان معن بن زائدة عاملا على العراقين بالبصرة فحضر بابه شاعر فأقام مدة ، وأراد الدخول على معن ، فلم يتهيأ له ، فقال يوما لبعض خدام معن : إذا دخل الأمير البستان فعرفني ، فلما دخل الأمير البستان أعلمه ، فكتب الشاعر بيتا على خشبة ، وألقاها في الماء الذي يدخل البستان ، وكان معن على رأس الماء ، فلما بصر بالخشبة أخذها ، وقرأها ، فإذا مكتوب عليها .


أيا جود معن ناج معنا بحاجتي فما لي إلى معن سواك شفيع

فقال من صاحب هذه ? فدعي بالرجل ، فقال له : كيف قلت فقاله ؟ فأمر له بعشر بدر فأخذها ووضع ، الأمير الخشبة تحت بساطه ، فلما كان اليوم الثاني أخرجها من تحت البساط وقرأها ، ودعا بالرجل فدفع إليه مائة ألف درهم ، فلما أخذها الرجل تفكر ، وخاف أن يأخذ منه ما أعطاه ، فخرج فلما كان في اليوم الثالث قرأ ما فيها ، ودعا بالرجل فطلب ، فلم يوجد ، فقال معن : حق علي أن أعطيه حتى لا يبقى في بيت مالي ، ولا دينار .

وقال أبو الحسن المدائني خرج الحسن ، والحسين وعبد الله بن جعفر حجاجا ففاتهم أثقالهم ، فجاعوا ، وعطشوا ، فمروا بعجوز في خباء لها ، فقالوا : هل من شراب ? فقالت : نعم ، فأناخوا إليها ، وليس لها إلا شويهة في كسر الخيمة فقالت : احلبوها ، وامتذقوا لبنها ففعلوا ذلك ، ثم قالوا لها : هل من طعام ? قالت : لا ، إلا هذه الشاة ، فليذبحها أحدكم حتى أهيئ لكم ما تأكلون ، فقام إليها أحدهم ، وذبحها ، وكشطها ، ثم هيأت لهم طعاما فأكلوا وأقاموا حتى أبردوا فلما ارتحلوا قالوا لها : نحن نفر من قريش نريد هذا الوجه فإذا رجعنا سالمين فألمي بنا فإنا صانعون بك خيرا ، ثم ارتحلوا ، وأقبل زوجها ، فأخبرته بخبر القوم والشاة ، فغضب الرجل ، وقال : ويلك ! تذبحين شاتي لقوم لا تعرفينهم ، ثم تقولين : نفر من قريش ? قال : ثم بعد مدة ألجأتهما الحاجة إلى دخول المدينة فدخلاها ، وجعلا ينقلان البعر إليها ، ويبيعانه ويتعيشان ، بثمنه ، فمرت العجوز ببعض سكك المدينة ، فإذا الحسن بن علي جالس على باب داره ، فعرف العجوز ، وهي له منكرة فبعث غلامه فدعا بالعجوز وقال ، لها : يا أمة الله أتعرفيني ? قالت : لا ، قال : أنا ضيفك يوم كذا ويوم كذا فقالت العجوز : بأبي أنت ، وأمي أنت هو ? قال : نعم ، ثم أمر الحسن فاشتروا لها من شياه الصدقة ألف شاة ، وأمر لها معها بألف دينار ، وبعث بها مع غلامه إلى الحسين فقال لها الحسين : بكم وصلك أخي ? قالت : بألف شاة ، وألف دينار ، فأمر لها الحسين أيضا بمثل ذلك ، ثم بعث بها مع غلامه إلى عبد الله بن جعفر فقال لها : بكم وصلك الحسن ، والحسين ؟ قالت : بألفي شاة ، وألفي دينار ، فأمر لها عبد الله بألفي شاة ، وألفي دينار ، وقال لها : لو بدأت بي لأتعبتهما ، فرجعت العجوز إلى زوجها بأربعة آلاف شاة وأربعة آلاف دينار .

وخرج عبد الله بن عامر بن كريز من المسجد يريد منزله ، وهو وحده فقام إليه غلام من ثقيف ، فمشى إلى جانبه ، فقال له عبد الله : ألك حاجة يا غلام قال : صلاحك ، وفلاحك ; رأيتك تمشي وحدك ، فقلت : أقيك بنفسي ، وأعوذ بالله إن طار بجنابك مكروه فأخذ عبد الله بيده ، ومشى معه إلى منزله ، ثم دعا بألف دينار فدفعها إلى الغلام ، وقال : استنفق هذه ، فنعم ما أدبك أهلك .

التالي السابق


(حكايات الأسخياء)

روي (عن محمد بن المنكدر) بن عبد الله بن الهدير التيمي المدني ابن خال عائشة، ثقة فاضل، تقدم ذكره (عن أم درة، وكانت تخدم عائشة - رضي الله عنها -) ، وهي مولاة لها .

هكذا ضبطه غير واحد بضم الدال المهملة، وضبطه الحافظ في التبصير بفتح الذال المعجمة، وهي مقبولة، روى لها أبو داود في السنن (أن معاوية، وابن الزبير) ، وفي بعض النسخ: الاقتصار على أحدهما بغير شك، ولفظ القوت: أن ابن الزبير، ولم يشك، وهو عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه - (بعث إليها بمال في غرارتين) قالت: أراه (ثمانين ومائة ألف درهم) في كل غرارة تسعون ألفا (فدعت بطبق) ، وهي يومئذ صائمة (فجعلت تقسمه بين الناس) فأمست، وما عندها من ذلك درهم، (فلما أمست قالت: يا جارية، هلمي بفطوري) ، ولفظ القوت: هلمي فطري (فجاءتها بخبز وزيت، فقالت لها أم درة: ما استطعت) ، ولفظ القوت: أما استطعت (فيما قسمت اليوم أن تشتري لنا بدرهم لحما يفطر عليه؟ قالت) لا تعنفيني (لو كنت ذكرتيني لفعلت) .

هكذا نقله صاحب القوت قال: وروى هشام بن عروة، عن أبيه أن معاوية بعث إلى عائشة مرة بمائة ألف، قال: فوالله ما غابت الشمس من ذلك اليوم حتى فرقتها، فقالت مولاة لها: لو اشتريت لنا من هذه الدراهم بدرهم لحما؟ فقالت: لو قلت لي قبل أن أفرقها فعلت، وقال تميم بن عروة بن الزبير: لقد رأيت عائشة تتصدق بسبعين ألفا، وإنها لترقع جانب درعها .

ورواه حجاج، عن عطاء قال: بعث معاوية إلى عائشة بطوق من ذهب فيه جوهر، قوم بمائة ألف، فقسمته بين أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم .

(وعن أبان بن عثمان) بن عفان الأموي المدني كنيته أبو سعيد، ويقال: أبو عبد الله، ثقة، مات سنة خمس ومائة روى [ ص: 182 ] له البخاري في كتاب الأدب المفرد، ومسلم، والأربعة (قال: أراد رجل أن يضار عبد الله بن عباس) - رضي الله عنه - (فأتى وجوه قريش) ، أي: أكابرهم (فقال: يقول لكم عبد الله: تغدوا عندي اليوم، فأتوه حتى ملؤوا عليه الدار) ، أي: لكثرتهم (فقال: ما هذا؟ فأخبر الخبر، فأمر عبد الله بشراء فاكهة) من السوق يلهيهم بها (وأمر قوما فطبخوا، وخبزوا، وقدمت الفاكهة إليهم، فلم يفرغوا منها حتى وضعت الموائد، فأكلوا حتى صدروا) شباعا ، ( فقال عبد الله لوكلائه: أموجود لنا هذا كل يوم؟ قالوا: نعم قال: فليتغد عندنا هؤلاء كل يوم) .

نقله القشيري في الرسالة .

(وعن واقد بن محمد الواقدي، قال: حدثنا أبي) أبو عبد الله محمد بن عمر بن محمد بن واقد الأسلمي المعروف بالواقدي نسبة إلى جده الأعلى، وهو من موالي بني أسلم، تولى قضاء بغداد من قبل الرشيد، وولاه المأمون قضاء عسكر المهدي، وكان يكرم جانبه، ومات بها .

روى عن أبي ذؤيب، ومعمر، والأوزاعي، ومالك، والثوري، وعنه أبو بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن سعد كاتبه، وآخرون، قال ابن معين: لا يكتب حديثه، هو ليس بشيء، وقال أبو زرعة: ضعيف الحديث، ترك الناس حديثه إلا للاعتبار، وقال ابن الأثير: ضعف في المغازي، وغيرها، وولي قضاء شرقي بغداد، وولد سنة 130، ومات في ذي الحجة سنة 207 .

زاد ابن التراب لثنتي عشرة خلت من ذي الحجة ببغداد (أنه رفع رقعة إلى المأمون) عبد الله بن هارون العباسي، وهو يومئذ خليفة (يذكر فيها كثرة الدين) بسبب ضائقة لحقته (وقلة صبره عليه) ، وعين مقداره في قصته، (فوقع المأمون على ظهر رقعته) بخطه: (إنك رجل اجتمع فيك خصلتان: سخاء وحياء، فأما السخاء، فهو الذي أطلق ما في يديك) بتبذير ما ملكت (وأما الحياء، فهو الذي يمنعك عن تبليغنا ما أنت عليه) ، وفي رواية: والحب حملك على أن ذكرت لنا بعض دينك، (وقد أمرت لك بمائة ألف درهم) ، وهو ضعف ما سأل، وكان دينه خمسين ألف درهم (فإن كنت قد أصبت فازدد في بسط يدك، وإن لم أكن أصبت فجنايتك على نفسك) ، وفي رواية: فإن كنا قصرنا عن بلوغ حاجتك فبجنايتك على نفسك، وإن كنا بلغنا بغيتك فزد في بسطة يدك، فإن خزائن الله مفتوحة، ويده بالخير مبسوطة (وأنت حدثتني، وأنت) ، وفي رواية: حين كنت (على قضاء الرشيد) ، أي: لأن الرشيد كان ولاه قضاء شرقية بغداد. (عن محمد بن إسحاق) بن يسار أبي بكر المطلبي مولاهم المدني، نزيل العراق، إمام المغازي، صدوق يدلس، مات سنة خمسين ومائة، روى له البخاري في التاريخ، ومسلم، والأربعة، وله ترجمة واسعة في تاريخ الخطيب، وهو أول التراجم في الكتاب، عن الزهري، عن أنس - رضي الله عنه - (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للزبير بن العوام) بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن عبد الله القرشي الأسدي، أحد العشرة المشهود لهم بالجنة - رضي الله عنه -: (يا زبير، اعلم أن مفاتيح أرزاق العباد بإزاء العرش، يبعث الله - عز وجل - إلى كل عبد بقدر نفقته، فمن كثر كثر له، ومن قلل قلل له) ، أي: من وسع على عياله، ونحوهم ممن عليه مؤنتهم، وجوبا أو ندبا أدر الله عليه من الأرزاق بقدر ذلك أو أزيد، ومن قتر قتر عليه، وشاهده الخبر: إن الله ينزل المعونة على قدر المؤنة، والخبر الآخر: إن لله ملكا ينادي كل صباح: اللهم أعط كل منفق خلفا، وأعط كل ممسك تلفا.

قال العراقي: حديث أنس مذكور، رواه الدارقطني في المستجاد، وفي إسناده الواقدي، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري بالعنعنة، ولا يصح. ا ه .

قلت: يشير إلى أن محمد بن إسحاق يدلس كما سبق، فما كان من رواياته كذلك، فليس بمقبول عند أهل النقد، وقد رواه الدارقطني أيضا في الأفراد بلفظ: إن مفاتيح الرزق متوجهة نحو العرش، فينزل الله تعالى على الناس أرزاقهم على قدر نفقاتهم، فمن كثر كثر له، ومن قلل قلل له، وفيه أيضا عبد الرحمن بن حاتم المرادي، قال الذهبي: ضعيف، وقد رواه كذلك ابن النجار، ولفظ المصنف رواه التيمي في الترغيب، إلا أنه قال: إلى عباده على قدر نفقتهم، والباقي سواء .

وروى ابن عدي في الكامل، وأبو نعيم في الحلية، كلاهما من طريق علي بن سعيد بن [ ص: 183 ] بشير، عن أحمد بن عبد الله بن نافع بن ثابت بن عبد الله بن الزبير، عن هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء بنت أبي بكر قالت: قال الزبير بن العوام: مررت برسول الله صلى الله عليه وسلم فجبذ عمامتي بيده، فالتفت إليه، فقال: يا زبير، إن باب الرزق مفتوح من لدن العرش إلى قوام بطن الأرض، يرزق الله كل عبد على قدر همته، ونهمته.

وقد أورده ابن الجوزي في الموضوعات، وقال: عبد الله يروي الموضوعات على الأثبات، وأقره على ذلك السيوطي في مختصر الموضوعات (وأنت أعلم) هذا من كلام المأمون يخاطب به الواقدي تأدبا كأنه يقول: وأنت أكثر علما مني بذلك، (قال الواقدي) : وكنت أنسيت الحديث (فوالله لمذاكرة المأمون إياي الحديث) المذكور (أحب إلي من الجائزة، ومن مائة ألف) .

وهذه الحكايات ساقها الخطيب في التاريخ مع اختلاف يسير، وكان الواقدي إماما واسع العلم والرواية، وممن روى عنه بشر الحافي، وناهيك به منقبة له، وذكر ابن الجوزي في كتابه الذي وضعه في أخبار بشر أن بشرا أخذ عنه رقية الحمى، وهي أن تكتب على ثلاث ورقات زيتون نهار السبت؛ على واحدة: جهنم غرثى، وعلى الثانية: جهنم عطشى، وعلى الثالثة: مقدورة، ثم تجعل في خرقة، وتشد في عضد المحموم الأيسر، قال: سمعت الواقدي يقول: جربته فوجدته نافعا، ومما يناسب إيراده هنا ما رواه المسعودي في مروج الذهب، والخطيب في التاريخ، واللفظ للمسعودي، قال الواقدي: كان لي صديقان أحدهما هاشمي، وكنا كنفس واحدة، فنالتني ضائقة شديدة، وحضر العيد، فقالت لي امرأتي: أما نحن في أنفسنا فنصبر على البؤس، والشدة، وأما صبياننا هؤلاء فقد قطعوا قلبي رحمة لهم; لأنهم يرون صبيان الجيران وقد تزينوا في عيدهم وأصلحوا ثيابهم، وهم على هذه الحالة من الثياب الرثة، فلو احتلت في شيء نصرفه في كسوتهم؟ قال: فكتبت إلى صديقي الهاشمي أسأله التوسعة علي، فوجه إلي كيسا مختوما ذكر أن فيه ألف درهم، فما استقر قراري حتى كتب الصديق الآخر يشكو مثل ما شكوت إلى صاحبي الهاشمي، فوجهت إليه الكيس على حاله، وخرجت إلى المسجد، وأقمت فيه ليلتين مستحييا من امرأتي، فلما دخلت عليها استحسنت ما كان مني، ولم تعنفني عليه، فبينا أنا كذلك إذ وافى صديقي الهاشمي ومعه الكيس كهيئته، فقال لي: اصدقني عما فعلت فيما وجهت به إليك، فعرفته الخبر على وجهه، فقال لي: إنك وجهت إلي وما أملك على الأرض إلا ما بعثت به إليك، وكتبت إلى صديقنا أسأله المواساة، فوجه كيسي بخاتمي، قال الواقدي: فتواسينا الألف درهم فيما بيننا، ثم إننا أخرجنا للمرأة مائة درهم قبل ذلك، ونمى الخبر إلى المأمون، فدعاني، فشرحت له الخبر، فأمر لنا بسبعة آلاف دينار، لكل واحد منا ألف دينار، وللمرأة ألف دينار .

(وسأل رجل الحسن بن علي) بن أبي طالب - رضي الله عنه - (حاجة، فقال له: يا هذا، حق سؤالك إياي يعظم لدي، ومعرفتي بما يجب لك تكبر علي، ويدي تعجز عن نيلك) ، أي: إعطائك (بما أنت أهله، والكثير في ذات اليد قليل، وما في ملكي وفاء لشكرك، فإن قبلت الميسور، ورفعت عني مؤمنة الاحتمال والاهتمام لما أتكلفه من واجبك فعلت) ، فانظر حسن هذا الاعتذار الجامع لفنون المعاني، الآخذ بأساليب الفصاحة (فقال) الرجل: (يا ابن رسول الله، أقبل) الميسور (وأشكر العطية، وأعذر على المنع، فدعا الحسن بوكيله، وجعل يحاسبه على نفقاته حتى استقصاها) ، أي: أنهاها إلى آخرها (فقال: هات الفاضل من الثلاثمائة ألف درهم، فأحضر خمسين ألفا، قال: فما فعلت بالخمسمائة دينار؟ قال: هي عندي، قال: أحضرها، فأحضرها فدفع الدراهم، والدنانير إلى الرجل) المذكور (وقال: هات من يحملها لك، فأتاه بحمالين فدفع إليه) ، وفي نسخة: إليهما (الحسن رداءه لكراء الحمل، فقال له مواليه: والله ما عندنا درهم، فقال: ولكن أرجو أن يكون لي عند الله أجر عظيم) ، فانظره كيف اعتذاره، وكيف إحسانه - رضي الله عنه -، وأورده القشيري في الرسالة مختصرا، فقال: وسأل رجل الحسن بن علي شيئا، فأعطاه خمسين ألف درهم، وخمسمائة دينار، وقال: ائت بحمال يحمله، فأتى بحمال، فأعطاه طيلسانه، وقال: يكون كراء الحمال من قبلي .

(و) يحكى أنه (اجتمع قراء البصرة) ، أي: فقهاؤها (إلى ابن عباس) - رضي الله عنه - (وهو عامل البصرة، فقالوا: لنا جار صوام قوام يتمنى كل واحد منا أن يكون مثله) ، وفي صلاحه (وقد زوج بنية له من ابن أخيه [ ص: 184 ] وهو فقير، وليس عنده ما يجهزها به، فقام ابن عباس، فأخذ بأيديهم فأدخلهم داره، وفتح صندوقا، فأخرج منه ست بدر) جمع بدرة بالفتح (فقال: احملوها) إليه يستعين بها (فحملوا، فقال ابن عباس: ما أنصفناه، أعطيناه ما يشغله عن صيامه، وقيامه، ارجعوا بنا نكن أعوانه على تجهيزها، فليس للدنيا من القدر ما يشغل به مؤمنا عن عبادة ربه، وما بنا من التكبر ما لا نخدم أولياء الله تعالى، ففعل، وفعلوا .

وحكي أنه لما أجدب الناس بمصر) ، أي: أقحطوا، وغلت أسعارها (وعبد الحميد بن سعد أميرهم، فقال: والله لأعلمن الشيطان أني عدوه) ، أي: في مخالفته له البذل والإطعام، (فعال) ، أي: كفل (محاويجهم) ، أي: فقراءهم، وصرف إليهم ما يحتاجونه (إلى أن رخصت الأسعار) وارتفع الغلاء عنهم (ثم عزل عنهم، فرحل وللتجار عليه ألف ألف درهم) مما كان يستقرضه منهم في تلك المصاريف (فرهنهم بها حلي نسائه، وقيمته خمسمائة ألف ألف درهم، فلما تعذر عليه ارتجاعها كتب إليهم ببيعها، ودفع الفاضل بها عن حقوقهم) ، وهو أربعمائة ألف ألف، وتسعة وتسعون ألف ألف (إلى من لم تنله صلاته) ، أي: لم تبلغه حال كونه بمصر (وكان أبو طاهر بن كثير شيعيا، فقال له رجل: بحق علي بن أبي طالب) - رضي الله عنه - (لما وهبت لي نحلتك) الكائنة (بموضع كذا) ، وسماه (فقال: قد فعلت، وحقه لأعطينك ما يليها) ، أي: يتصل بها من الأرض، (وكان ذلك أضعاف ما طلب الرجل، وكان أبو مرثد أحد الكرماء) المشهورين (فمدحه بعض الشعراء، فقال للشاعر: والله ما عندي ما أعطيك، ولكن قدمني إلى القاضي وادع علي بعشرة آلاف درهم حتى أقر لك بها، ثم احبسني، فإن أهلي لا يتركوني محبوسا، ففعل ذلك، فلم يمس حتى دفع إليه عشرة آلاف درهم .

وأخرج أبو مرثد من الحبس) نقله القشيري في الرسالة .

(وكان معن بن زائدة) بن مطر بن شريك بن عمرو بن قيس بن شراحيل بن مرة بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان الشيباني الكريم الجواد المشهور (عاملا على العراقين بالبصرة) عراق العرب، وعراق العجم، والبصرة هي القاعدة (فحضر بابه شاعر فأقام مدة، وأراد الدخول على معن، فلم يتهيأ له، فقال يوما لبعض خدم معن: إذا دخل الأمير البستان فعرفني، فلما دخل أعلمه، فكتب الشاعر بيتا على خشبة، وألقاها في الماء الذي يدخل بستان معن، وكان معن) جالسا (على رأس الماء، فلما بصر بالخشبة أخذها، وقرأها، فإذا عليها مكتوب) :


(أيا جود معن ناج معنا بحاجتي فما لي إلى معن سواك شفيع)

(قال) الراوي (فقال) معن: (من صاحب هذه؟ فدعي بالرجل، فقال له: كيف قلت؟ فقاله) ، أي: أنشد ذلك البيت (فأمر له بعشر بدر، فأخذها، ووضع الأمير الخشبة تحت بساطه، فلما كان اليوم الثاني أخرجها من تحت البساط، وقرأ ما فيها، ودعا بالرجل فدفع إليه مائة ألف درهم، فلما أخذها الرجل تفكر، وخاف أن يأخذ منه ما أعطاه، فخرج) من البصرة (فلما كان اليوم الثالث قرأ ما فيها، ودعا بالرجل فطلب، فلم يوجد، فقال معن: حق علي أن أعطيه حتى لا يبقى في بيت مالي درهم، ولا دينار) نقله القشيري في الرسالة .

(وقال أبو الحسن) علي بن محمد بن عبد الله بن أبي سيف (المدائني) مولى عبد الله بن أبي سمرة القرشي، صاحب التصانيف المشهورة، عالم بأيام الناس، صدوق، صام ثلاثين سنة متتابعة، بصري الأصل، انتقل إلى المدائن، ثم إلى بغداد، يروي عنه الزبير [ ص: 185 ] بن بكار، وأحمد بن أبي خيثمة، ومات بمكة سنة 224 وهو ابن ثلاث وتسعين (وخرج الحسن، والحسين) ابنا علي بن أبي طالب (وعبد الله بن جعفر) بن أبي طالب - رضي الله عنهم - (حجاجا ففاتهم أثقالهم، فجاعوا، وعطشوا، فمروا بعجوز في خباء لها، فقالوا: هل من شراب؟ فقالت: نعم، فأناخوا إليها، وليس لها إلا شويهة) تصغير شاة (في كسر الخيمة) ، أي: جانبها (فقالت: احلبوها، وامتذقوا لبنها) ، أي: اشربوا (ففعلوا ذلك، ثم قالوا لها: هل من طعام؟ قالت: لا، إلا هذه الشاة، فليذبحها أحدكم حتى أهيئ لكم ما تأكلون، فقام إليها أحدهم، وذبحها، وكشطها، ثم هيأت لهم طعاما فأكلوا وأقاموا) هناك (حتى أبردوا) ، أي: دخلوا في برد العشي (فلما ارتحلوا قالوا لها: نحن نفر من قريش نريد هذا الوجه) ، أي: بيت الله الحرام (فإذا رجعنا سالمين) إلى المدينة (فألمي بنا) ، أي: انزلي عندنا (فإنا صانعون بك خيرا، ثم ارتحلوا، وأقبل زوجها، فأخبرته بخبر القوم والشاة، فغضب الرجل، وقال: ويلك! تذبحين شاة لقوم لا تعرفينهم، ثم تقولين: نفر من قريش؟ قال: ثم بعد مدة) من الزمن (ألجأتهما الحاجة) ، والاضطرار (إلى دخول المدينة فدخلاها، وجعلا ينقلان البعر إليها، ويبيعانه، ويعيشان بثمنه، فمرت العجوز في بعض سكك المدينة، فإذا الحسن بن علي) - رضي الله عنه - (جالس على باب داره، فعرف العجوز، وهي له منكرة) ، أي: لا تعرفه (فبعث) الحسن (غلامه، ودعا العجوز، فقال لها: يا أمة الله أتعرفيني؟ قالت: لا، قال: أنا ضيفك) الذي نزلت بك (يوم كذا وكذا) وأعطى لها الأمارة (فقالت: بأبي أنت، وأمي أنت هو؟ قال: نعم، ثم أمر الحسن فاشتروا لها من شاء الصدقة ألف شاة، وأمر لها معها بألف دينار، وبعث معها غلامه إلى) أخيه (الحسين) - رضي الله عنه - (فقال لها الحسين: بكم وصلك أخي؟ قالت: بألف شاة، وألف دينار، فأمر لها الحسين أيضا بمثل ذلك، ثم بعث بها مع غلامه إلى عبد الله بن جعفر) - رضي الله عنه - (فقال لها: بكم وصلك الحسن، والحسين؟ قالت: بألفي دينار، وألفي شاة، فأمر لها عبد الله بألفي شاة، وألفي دينار، وقال لها: لو بدأت بي لأتعبتهما، فرجعت العجوز إلى زوجها بأربعة آلاف شاة وأربعة آلاف دينار) .

هكذا أخرجه المدائني بأسانيده .

(وخرج عبد الله بن عامر بن كريز) بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي العبشمي، أبوه من مسلمة الفتح، وعبد الله ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ابن خالة عثمان بن عفان; لأن أم عثمان هي أروى بنت كريز، وأمها البيضاء بنت عبد المطلب بن هاشم، واسم أم عبد الله هذا دجاجة بنت أسماء بن الصلت السلمية.

مات النبي صلى الله عليه وسلم، وعمره دون السنتين، وكان جوادا شجاعا ميمونا، ولاه عثمان البصرة بعد أبي موسى الأشعري سنة تسع وعشرين، وضم إليه فارس بعد عثمان بن أبي العاص، فافتتح خراسان كلها وأطراف فارس، و سجستان، وكرمان كلها، وأحرم ابن عامر شكرا لله تعالى من خراسان، وقدم على عثمان، فلامه على تغريره بالنسك، وقدم بأموال عظيمة، ففرقها في قريش، والأنصار، وقتل عثمان وهو على البصرة، ثم ولاه معاوية البصرة ثلاث سنين، ثم صرفه عنها، فأقام بالمدينة، ومات بها سنة 57، وأخباره في الجود كثيرة، وليست له رواية في الكتب الستة (من المسجد يريد منزله، وهو وحده) ليس معه أحد (فقام إليه غلام من ثقيف، فمشى إلى جانبه، فقال له عبد الله: ألك حاجة يا غلام؟ فقال: صلاحك، وفلاحك; رأيتك تمشي وحدك، فقلت: أقيك بنفسي، وأعوذ بالله إن طار بخبائك مكروه) ، وفي بعض النسخ: أقيك بنفسي، وأعوذ بالله إن طار بخبائك مكروه (فأخذ عبد الله بيده، ومشى معه إلى منزله، ثم دعا بألف دينار فدفعها إلى الغلام، وقال: استنفق هذه، فنعم ما أدبك أهلك) .

هكذا [ ص: 186 ] أخرجه أبو الحسن المدائني في أخبار الأسخياء .




الخدمات العلمية