الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فالعلم الأول والحال الثاني والفعل الثالث والأول موجب للثاني ، والثاني موجب للثالث إيجابا اقتضاه اطراد سنة الله في الملك والملكوت أما العلم فهو معرفة عظم ضرر الذنوب ، وكونها حجابا بين العبد وبين كل محبوب ، فإذا عرف ذلك معرفة محققة بيقين غالب على قلبه ثار من هذه المعرفة تألم للقلب بسبب فوات المحبوب ; فإن القلب مهما شعر بفوات محبوبه تألم فإن كان فواته بفعله تأسف على الفعل المفوت فيسمى تألمه بسبب فعله المفوت لمحبوبه ندما فإذا غلب هذا الألم على القلب ، واستولى وانبعث ، من هذا الألم في القلب حالة أخرى تسمى إرادة وقصدا إلى فعل له تعلق بالحال والماضي وبالاستقبال ; أما تعلقه بالحال فبالترك للذنب الذي كان ملابسا وأما بالاستقبال فبالعزم على ترك الذنب المفوت للمحبوب إلى آخر العمر وأما بالماضي فبتلافي ما فات بالجبر والقضاء إن كان قابلا للجبر فالعلم هو الأول ; وهو مطلع هذه الخيرات ، وأعني بهذا العلم الإيمان واليقين ; فإن الإيمان عبارة عن التصديق بأن الذنوب سموم مهلكة واليقين عبارة عن تأكد هذا التصديق وانتفاء الشك عنه ، واستيلائه على القلب فيثمر نور هذا الإيمان مهما أشرق على القلب نار الندم فيتألم بها القلب حيث يبصر بإشراق نور الإيمان أنه صار محجوبا عن محبوبه كمن يشرق عليه نور الشمس وقد كان في ظلمة فيسطع النور عليه بانقشاع سحاب أو انحسار حجاب فرأى محبوبه وقد أشرف على الهلاك فتشعل نيران الحب في قلبه وتنبعث تلك النيران بإرادته للانتهاض للتدارك فالعلم والندم والقصد المتعلق بالترك في الحال والاستقبال والتلافي للماضي ثلاثة معان مرتبة في الحصول ، فيطلق اسم التوبة على مجموعها وكثيرا ما يطلق اسم التوبة على معنى الندم وحده ، ويجعل العلم كالسابق والمقدمة ، والترك كالثمرة والتابع المتأخر .

التالي السابق


ولما علم المصنف رحمه الله تعالى ذلك قال ما قال مشيرا إلى أن كل مقام ينتظم من علم وحال وفعل; (فالعلم أول) لأنه هو الأصل الذي هو عقد من عقود الإيمان بالله أو لله، (والحال ثاني) وهو ما ينشأ عنه من المواجيد، (والفعل ثالث) وهو ما تنشئه المواجيد على القلوب والجوارح من الأعمال، (فالأول موجب للثاني، والثاني موجب للثالث إيجابا اقتضاه سنة الله تعالى في) عالمي (الملك والملكوت) ، ومصداق ذلك في قوله تعالى: وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم ، وقوله تعالى: والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ، وهذه الآية جامعة لمجامع أركان التوبة للمتأمل، فإذا فهمت هذه المقدمة لم يعسر عليك استنتاج الأحوال من العلوم، واستفتاح الأعمال من الأحوال .

(أما العلم فهو معرفة عظم ضرر الذنوب، وكونها حجابا بين العبد وبين كل محبوب، فإذا عرفت ذلك معرفة حقيقية) مؤيدة (بيقين غالب في قلبه) فإذا استغرقه (ثار من هذه المعرفة تألم للقلب بسبب فوات المحبوب; فإن القلب مهما شعر بفوات محبوبه تألم) لا محالة، (فإن كان فواته بفعله) الموجب لذلك (تأسف على الفعل المفوت) لمحبوبه، (فيسمى تألمه بسبب فعل المفوت لمحبوبه ندما) ، وقد اختلف في حده فقال الراغب: هو التحسر من تغرر أي: في أمر فائت، وقال أبو البقاء: هو أن يلوم نفسه على تفريط وقع منه، وقال غيره: هو غم يصحب الإنسان يتمنى أن ما وقع منه لم يقع، وكل هذه المعاني متقارب، (فإذا غلب هذا الندم على القلب، واستولى، انبعث من هذا الندم في القلب حالة أخرى تسمى إرادة وقصدا إلى فعل له متعلق بالحال والماضي والاستقبال; أما تعلقه بالحال فبالترك للذنب الذي كان ملابسا له) ، ومصاحبا به، وهو واجب شرعا، (وأما) تعلقه (بالاستقبال فبالعزم على ترك الذنب المفوت للمحبوب إلى آخر العمر) فلا يعود فيه ولا في مثله، وهذا أيضا واجب شرعا .

(وأما) تعلقه (بالماضي فبتلافي) أي: تدارك (ما فات) ، وفرط من أمره، وهل تتوقف صحة التوبة على هذا أم لا؟ فيه خلاف; أما من منع فقال: العلم والندم يرادان لهذا، وهذا هو الغاية المقصودة، وأما من أجاز الصحة فيكتفي بالعلم والندم والعزم والترك في الحال، والصحيح أن فيه تفصيلا قد أشار المصنف له (بالجبر والقضاء إن كان قابلا للجبر) أي أن المعاصي المرجوع عنها إما أن تكون قاصرة الضرر على المذنب، أو متعدية إلى غيره; فالقاصرة منها ما يقبل القضاء; كالصلاة والصيام والزكاة والحج، ومنها ما لا يقبل القضاء كمس المصحف على غير وضوء، واللبث في المسجد على غير طهارة، وشرب الخمر، وإلقاء المال في البحر، وإنفاقه في المعصية، وما أشبه ذلك مما لا يقبل القضاء، فيكفي فيه الندم والترك والعزم على أن لا يعود، والذي يقبل القضاء فتصح أيضا توبته، ولكن يجب قضاء ما فات; لأن التوبة عبادة الوقت لوجوبها على [ ص: 502 ] الفور، وقد قام بها، والقضاء لا وقت له معين، والذمة مشغولة به، وهذا الحكم في المعاصي المتعدي ضررها إلى الغير، وسيأتي الكلام عليها قريبا، وقد علم مما تقدم أن واجبات التوبة وأركانها أربعة: علم، وندم، وترك (فالعلم هو الأول; وهو مطلع هذه الخيرات، وأعني بهذا العلم) عقد (الإيمان) لله، (واليقين; فإن الإيمان عبارة عن التصديق بأن الذنوب) والمعاصي (سموم مهلكة) في الآخرة، (واليقين عبارة عن تأكد هذا التصديق) ، وترسخه في القلب، (وانتفاء الشك عنه، واستيلائه على القلب) لكن مع هذا التصديق لا بد من تصديق أن الله جبل نفوسنا على محبة السعادة، فإذا حضرت في قلبك محبتك للسعادة، وأحضرت في قلبك أيضا معرفتك بضرر الذنوب، وأنها حائلة بينك وبين مقصودك، وأدمت الفكر في هاتين المعرفتين من غير مانع من الشكوك، ولا شاغل مذهل، نتج عنهما حال يسمى الندم، كما أشار إليه المصنف بقوله: (فيثمر نور هذا الإيمان مهما أشرق على القلب) ، واستولى عليه (نار الندم) فأعجب من نور يثمر نارا، وإنما قال: الندم ولم يقل: الثدم; لأنه تأسف واحتراق، وهذا الندم واجب; لأنه المقصود من المعرفتين المتقدمتين، وهو وسيلة لترك الذنوب، وقدر الواجب منه ما يحث على الترك; لأن الوسيلة إذا لم تؤد إلى مقصودها فلا فائدة فيها، وهذا الندم يوجب الترك بأقسامه الثلاثة المذكورة في سياق المصنف قريبا (فيتألم به القلب حيث يبصر بإشراق نور الإيمان أنه صار محجوبا عن محبوبته) محالا بينه وبينه (كمن يشرق عليه نور الشمس) بإضاءتها، وانبساطها على وجه الأرض، (وقد كان) قبل (في ظلمة) وحيرة (فيسطع النور عليه بانقشاع سحاب) أي: انكشافها (أو انحسار حجاب) من الحجب الظواهر، (فيرى محبوبه) ، ويجد مطلوبه، (وقد أشرق) الرائي (على الهلاك) من فقده محبوبه (فتشتعل نيران الحب في قلبه فتنبعث بتلك النيران إرادته للانتهاض للتدارك) لما فات (فالعلم والندم والقصد المتعلق بالترك في الحال والاستقبال والتلافي للماضي ثلاث معان مرتبة في الحصول، فيطلق اسم التوبة على مجموعها) ، وهو أركانها وواجباتها، (وكثيرا ما يطلق اسم التوبة على معنى الندم وحده، ويجعل العلم كالسابق والمقدمة، والترك الذي يوجب الندم كالثمرة والتابع المتأخر، وبهذا الاعتبار قال النبي صلى الله عليه وسلم: الندم توبة; إذ لا يخلو الندم عن علم أوجبه وأثمره، وعن عزم يتبعه ويتلوه) ، والمراد أن الندم لما كان معظم أركانها خصبة بالذكر تنويها لشأنه لا أن الندم وحده كاف فيها، فهو إذن من قبيل: "الحج عرفة" قاله القشيري في الرسالة، (فيكون الندم محفوظا بطرفيه أعني ثمرته) وهي العزم (ومثمره) وهو العلم، ووجه تخصيصه بالذكر لأنه شيء يتعلق بالقلب، والجوارح تبع له، فإذا تحقق الندم في القلب انقطع عن المعاصي فرجعت برجوعه الجوارح .

ووجهه المصنف في موضع آخر فقال: إنما نص على أن الندم توبة، ولم يذكر جميع شروطها ومقدماتها; لأن الندم غير مقدور للعبد فإنه يندم على أمر، وهو يريد أن لا يكون، والتوبة مقدورة له مأمور بها، فعلم أن في الخبر معنى لا يفهم من ظاهره، وهو أن الندم لتعظيم الله وخوف عقابه مما يبعث على التوبة النصوح، فإذا ذكر مقدمات التوبة الثلاث: يندم، ويحمله الندم على ترك اختيار الذنب، وتبقى ندامته بقلبه في المستقبل فتحمله على الابتهال والتضرع، ويجزم بعدم العودة، وبذلك تتم شروط التوبة الأربعة .

فلما كان الندم من أسباب التوبة سماه باسمها، والحديث المذكور قال العراقي: رواه ابن ماجه، وابن حبان، والحاكم من حديث أنس وقال: صحيح على شرط الشيخين اهـ. قلت: رواه ابن ماجه من طريق عبد الكريم الجرزي، عن زياد بن أبي مريم، عن ابن معقل قال: دخلت مع أبي على ابن مسعود فسمعته يقول: أقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الندم توبة" ؟ قال: نعم، ومن هذا الوجه أخرجه الطيالسي في مسنده، ولكن قال عن زياد وليس بابن أبي مريم، وقال: عن عبد الله بن مغفل، ولفظه: دخلت مع أبي، وأنا إلى جنبه على عبد الله بن مغفل فقال له أبي: أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الندم توبة؟ .

وأخرجه الطبراني في الكبير وآخرون، وفي مسنده اختلاف كثير، كذا قال السخاوي، وأخرجه أحمد، والبخاري في التاريخ، والحكيم، والبيهقي، وأبو نعيم، وأما [ ص: 503 ] حديث أنس فقد رواه أيضا الدارقطني في الأفراد، والبيهقي في السنن، والضياء، وقال الحافظ في الفتح: وهو حديث حسن، وقال العامري في شرح الشهاب: صحيح. ورواه الطبراني في الكبير أيضا، وأبو نعيم في الحلية من طريق ابن أبي سعيد الأنصاري عن أبيه مرفوعا بزيادة: "والتائب من الذنب كمن لا ذنب له"، وسنده ضعيف .

وفي الباب ابن عباس، وابن عمر، وجابر، وأبو هريرة، ووائل بن حجر، وغيرهم; فحديث ابن عباس أشار إليه السخاوي، وحديث ابن عمر رواه تمام، والخطيب في رواة مالك، وابن عساكر، وحديث جابر رواه الشيرازي في الألقاب، وحديث أبي هريرة رواه ابن عساكر، وحديث وائل بن حجر رواه الطبراني في الكبير .




الخدمات العلمية