الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقال صلى الله عليه وسلم : « تحاجت الجنة والنار ، فقالت النار : أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين ، وقالت الجنة ما لي : لا يدخلني إلا ضعفاء الناس ، وسقاطهم وعجزتهم ، فقال الله للجنة : إنما أنت رحمتي ، أرحم بك من أشاء من عبادي ، وقال للنار : إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء ، ولكل واحدة منكما ملؤها .

التالي السابق


(وقال صلى الله عليه وسلم: "تحاجت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس، وسقاطهم وعجزتهم، فقال الله تعالى للجنة: إنما أنت رحمتي، أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منكما ملؤها) .

فيه فوائد:

*الأولى: رواه أحمد والبخاري من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة. ورواه مسلم أيضا من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، ومن طريق أيوب السختياني، عن محمد بن سيرين، كلاهما عن أبي هريرة.

*الثانية: قوله "تحاجت" أي: تخاصمت، قال الجوهري: التحاج التخاصم، وقال ابن سيده: حاجه نازعه الحجة، وحجه غلبه على حجته، وقال ابن عطية في تفسير قوله تعالى: وإذ يتحاجون في النار المحاجة التحادر بالحجة والخصومة .

*الثالثة: الظاهر أن المراد بتحاجهما تخاصمهما في الأفضل منهما، وإقامة كل منهما الحجة على أفضليته، فاحتجت النار بقهرها للمتكبرين والمتجبرين، واحتجت الجنة بكونها مأوى الضعفاء في الدنيا، عوضهم الله تعالى من ضعفهم الجنة، فقطع سبحانه التخاصم بينها وبين الجنة بأن الجنة رحمته، أي: نعمته على الخلق، إن جعلت الرحمة صفة فعل، أو أثر إرادته الخير بمن يشاء إن جعلت صفة ذات، وأن النار عذابه الناشئ عن غضبه وانتقامه جل وعلا .

*الرابعة: قال النووي: هذا الحديث على ظاهره، وأن الله تعالى جعل في النار والجنة تمييزا يدركان به، فتحاجا، ولا يلزم من هذا أن يكون التمييز فيهما دائما .

وقال أبو العباس القرطبي: هذه المحاجة لها لسان، فقال: فيكون [ ص: 340 ] خزنة كل واحد منهما هم القائلون ذلك، ويجوز أن يخلق الله ذلك القول فيما شاء من أجزاء الجنة، ولا يشترط عقلا في الأصوات المقطعة أن يكون محلها حيا، خلافا لمن اشترط ذلك من المتكلمين، ولو سلمنا ذلك لكان من الممكن أن يخلق الله تعالى في بعض أجزاء الجنة والنار والجمادية حياة، بحيث يصدر ذلك القول عنه، لا سيما وقد قال بعض المفسرين في قوله تعالى: وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون : إن كل ما في الجنة حي، ويحتمل أن يكون ذلك لسان حال، فيكون ذلك عبارة عن حالتيهما، والأولى أولى. والله أعلم .

*الخامسة: قوله "إلا الضعفاء من الناس" لفظ الشيخين: "إلا ضعفاء الناس" جمع ضعيف، قال أبو العباس القرطبي: يعني الضعفاء في أمر الدنيا، ويحتمل أن يريد به هنا الفقراء، وحمله على الفقراء أولى من حمله على الأول؛ لأنه يكون معنى الضعفاء معنى العجزة المذكورة من بعد .

وقال عياض: المراد بالضعيف هنا وفي الحديث الآخر " أهل الجنة كل ضعيف متضعف " أنه ضد المتجبر المتكبر .

وقال أبو بكر بن خزيمة: الضعيف هنا الذي برأ نفسه من الحول والقوة في اليوم والليلة عشرين مرة إلى خمسين مرة، ولم يرد التحديد، وإنما أراد اتصافه من التبري من الحول والقوة واللجأ إلى الله حتى يذكر .

قال أبو عبد الله القرطبي: ومثل هذا لا يقال من قبل الرأي، فهو مرفوع. اهـ .

قال الولي العراقي: وهو عجيب؛ لأن ذلك إنما قيل في الصحابي، لا في مطلق الناس .

*السادسة: قوله: "وسقاطهم" هو جمع ساقط ككاتب وكتاب، وهو النازل القدر، وهو الذي عبر عنه بأنه لا يؤبه له، ولعله من سقط المتاع، وهو رديه .

ورواية مسلم: "وسقطهم" بفتح السين والقاف، وهو جمع ساقط أيضا، والمعنى واحد، ويلزم على ذلك أن يكون بالتاء؛ لأنهم سلكوا بالجمع مسلك اسم الجنس .

*السابعة: وقع في رواية مسلم بعد قوله: "وسقطهم": "وغويهم" ورويت هذه اللفظة على ثلاثة أوجه، حكاها القاضي عياض، قال النووي: وهي موجودة في النسخ .

إحداها: بفتح العين المعجمة، وكسر الواو، وتشديد الياء، ولا يظهر له هنا معنى؛ ولهذا كان الحافظ العراقي يقول: لعله "وغوغاؤهم" وكتب بخطه كذلك على حاشية نسخته، ولعله تصحف بقوله: "وغويهم" .

الثاني: "غرثهم" بغين معجمة مفتوحة، وراء مفتوحة، وثاء مثلثة، قال عياض: هذه رواية الأكثرين من شيوخنا، ومعناه: أهل الحاجة والفاقة والجوع، والغرث الجوع .

والثالث: "غرتهم" بغين معجمة مكسورة، وراء مشدودة، وتاء مثناة من فوق، وهذا هو الأشهر في نسخ بلاد المشرق، أي: البله الغافلون، الذين ليس لهم فتك وحذق في أمور الدنيا، وهو نحو الحديث الآخر "أكثر أهل الجنة البله".

وقال عياض: معناه سواد الناس وعامتهم من أهل الإيمان، فتدخل عليهم الفتنة، أو تدخلهم في البدعة أو غيرها، فهم ثابتو الإيمان، صحيحو العقائد، وهم أكثر المؤمنين، وهم أكثر أهل الجنة .

وأما العارفون والعلماء العاملون والصالحون المتعبدون فهم قليلون، وهم أصحاب الدرجات العلى .

*الثامنة: وقع في رواية الشيخين بعد قوله "ضعفاء الناس": "وسفلهم" هو بكسر السين المهملة وفتح الفاء، وهو جمع سفلة بكسر فسكون، وهو الرجل الوضيع، ويوافقه ما في الصحاح: والعامة تقول: رجل سفلة من قوم سفل، وكذا قال في النهاية، ثم قال: وليس بعربي، وذلك بعد أن صدر كلامهما بأن السفلة، بفتح فكسر، السقاط من الناس، وأنه يقال: هو من السفلة، لا يقال: سفلة؛ لأنه جمع، ثم قال في النهاية: وبعض العرب تخفف، فنقول: من سفلة الناس، فتنقل كسرة الفاء إلى السين، وحكاه في الصحاح عن ابن السكيت، وقال في المحكم: سفلة الناس، أي: بفتح فكسر، وسفلتهم، أي: بكسر فسكون: أسافلهم وغواتهم .

*التاسعة: قوله: "وعجزتهم" بعين مهملة مفتوحة وجيم وزاي وتاء، جمع عاجز، ومعناه العاجزون عن طلب الدنيا، والتمكن فيها، والثروة، والشوكة، كذا ضبطه عياض والنووي.

قال أبو العباس القرطبي: ويلزم على ذلك أن يكون بالتاء، وسقوطها في مثل الجمع نادر، وإنما يسقطونها إذا سلكوا بالجمع مسلك اسم الجنس، كما قدمنا في "سقطهم" وصواب هذا اللفظ أن يكون "عجزهم" بضم فتشديد، كشاهد وشهد .

*العاشرة: فيه ذم التكبر والتجبر، وأن فاعل ذلك من أهل النار، فإن وصل الكبر بالإنسان إلى الكفر لتكبره عن الإيمان بالله [ ص: 341 ] ورسوله فهو مخلد فيها، وإن لم يصل إلى ذلك فلا بد له من الخلوص منها، ولا يقطع له أيضا بدخولها، بل هو تحت المشيئة، فقد يعفى عنه ولا يدخلها .

*الحادية عشرة: هذا الحديث له بقية عند أحمد والشيخين، وهي: "فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله -تبارك وتعالى- رجله" وفي لفظ: "قدمه، تقول: قط قط قط، فهنالك تمتلئ ويزوى بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله من خلقه أحدا، وأما الجنة فإن الله -عز وجل- ينشئ لها خلقا" ولم يذكر المصنف -رحمه الله- هذه الزيادة؛ لحصول المقصود بصدر الحديث، وهو الدلالة على ذم الكبر، واستحقاق فاعله النار، ولأنها من أحاديث الصفات المشكلة المحتاجة إلى التأويل .

وقد زعم ابن فورك أن هذه اللفظة، وهي قوله: "حتى يضع الله رجله" غير ثابتة عند أهل النقل، ولكن قد عرفت أنه رواه أحمد والشيخان وغيرهم، فهي صحيحة، وتأويلها من أوجه:

أحدها: أن المراد رجل بعض المخلوقين، فيعود الضمير في رجله إلى ذلك المخلوق المعلوم .

الثاني: أنه يحتمل أن من الخلوقات ما يسمى بهذه التسمية .

الثالث: أنه يجوز أن يراد بالرجل الجماعة من الناس، كما تقول: رجل من جراد، أي: قطعة منه .

الرابع: أن المراد بوضع الرجل نوع زجر لها، كما تقول: جعلته تحت رجلي .

الخامس: أن الرجل قد تستعمل في طلب المشي على سبيل الجد والإلحاح، كما تقول: قام في هذا الأمر على رجل .

والمشهور في أكثر روايات الحديث: "حتى يضع فيها قدمه" وفيه التأويلات المتقدمة، وأشهر منها تأويل آخر أن المراد من قدمه الله لها من أهل العذاب، وهذا كله بناء على طريقة التأويل، وهي طريقة جمهور المتكلمين .

والذي عليه السلف وذهبت إليه طائفة من المتكلمين أنه لا يتكلم في تأويلها، بل نؤمن بأنها حق على ما أراد الله، ولها معنى يليق بها، وظاهر غير مراد .

وذكر الخطابي أن ترك التأويل إنما هو في الصفات الواردة في القرآن أو في السنة المتواترة، فأما الواردة في أخبار الآحاد من غير أن يكون لها أصل في القرآن فإنها تؤول، والله أعلم .




الخدمات العلمية