الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الحالة الثانية : أن لا تحب زوالها ، ولا تكره وجودها ودوامها ولكن ، تشتهي لنفسك مثلها .

وهذه تسمى ، غبطة وقد تختص باسم المنافسة ، وقد تسمى المنافسة حسدا ، والحسد منافسة ، ويوضع أحد اللفظين موضع الآخر ، ولا حجر في الأسامي بعد فهم المعاني .

وقد قال صلى الله عليه وسلم إن المؤمن يغبط ، والمنافق يحسد .

فأما الأول فهو حرام بكل حال إلا نعمة أصابها فاجر ، أو كافر ، وهو يستعين بها على تهييج الفتنة ، وإفساد ذات البين ، وإيذاء الخلق ، فلا يضرك كراهتك لها ، ومحبتك لزوالها ; فإنك لا تحب زوالها من حيث هي نعمة ، بل من حيث هي آلة الفساد ، ولو أمنت فساده لم يغمك بنعمته ، ويدل على تحريم الحسد الأخبار التي نقلناها وإن هذه الكراهة تسخط لقضاء الله في تفضيل بعض عباده على بعض وذلك لا عذر فيه ، ولا رخصة ، وأي معصية تزيد على كراهتك لراحة مسلم من غير أن يكون لك منه مضرة ، وإلى هذا أشار القرآن بقوله : إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها ، وهذا الفرح شماتة والحسد والشماتة يتلازمان .

وقال تعالى ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم فأخبر تعالى أن حبهم زوال نعمة الإيمان حسد ، وقال عز وجل ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء ، وذكر الله تعالى حسد إخوة يوسف عليه السلام وعبر عما في قلوبهم بقوله تعالى إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم فلما كرهوا حب أبيهم له وساءهم ذلك ، وأحبوا زواله عنه غيبوه ، عنه وقال تعالى : ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ، أي : لا تضيق صدورهم به ، ولا يغتمون فأثنى عليهم بعدم الحسد وقال تعالى في معرض الإنكار أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله وقال تعالى كان الناس أمة واحدة إلى قوله : إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم قيل في التفسير : حسدا وقال تعالى وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم فأنزل الله العلم ليجمعهم ويؤلف بينهم على طاعته وأمرهم أن يتألفوا بالعلم ، فتحاسدوا واختلفوا إذ أراد ، كل واحد منهم أن ينفرد بالرياسة وقبول القول ، فرد بعضهم على بعض ، قال ابن عباس كانت اليهود قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم إذا قاتلوا قوما قالوا : نسألك بالنبي الذي وعدتنا أن ترسله ، وبالكتاب الذي تنزله إلا ما نصرتنا ، فكانوا ينصرون فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم من ولد إسماعيل عليه السلام عرفوه وكفروا به بعد معرفتهم إياه ، فقال تعالى وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به إلى قوله : أن يكفروا بما أنزل الله بغيا ، أي : حسدا وقالت صفية بنت حيي للنبي صلى الله عليه وسلم : جاء أبي ، وعمي من عندك يوما ، فقال أبي لعمي : ما تقول فيه ? قال : أقول إنه : النبي الذي بشر به موسى قال فما ترى قال : أرى معاداته أيام الحياة فهذا حكم الحسد في التحريم .

وأما المنافسة فليست بحرام ، بل هي إما واجبة وإما مندوبة وإما مباحة وقد يستعمل لفظ الحسد بدل المنافسة والمنافسة بدل الحسد ، قال قثم بن العباس لما أراد هو والفضل ، أن يأتيا النبي ، صلى الله عليه وسلم فيسألاه أن يؤمرهما على الصدقة ، قالا لعلي حين قال لهما : لا تذهبا إليه ، فإنه لا يؤمركما عليها فقالا له : ما هذا منك إلا نفاسة ، والله لقد زوجك ابنته فما نفسنا ذلك عليك ، أي : هذا منك حسد ، وما حسدناك على تزويجه إياك فاطمة .

والمنافسة في اللغة مشتقة من النفاسة والذي يدل على إباحة المنافسة قوله تعالى : وفي ذلك فليتنافس المتنافسون وقال تعالى سابقوا إلى مغفرة من ربكم وإنما المسابقة عند خوف الفوت وهو كالعبدين يتسابقان إلى خدمة مولاهما ; إذ يجزع كل واحد أن يسبقه صاحبه فيحظى عند مولاه بمنزلة لا يحظى هو بها .

فكيف ، وقد صرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ، فقال : لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق ، ورجل آتاه الله علما ، فهو يعمل به ، ويعلمه الناس ثم فسر ذلك في حديث أبي كبشة الأنماري فقال: مثل هذه الأمة مثل أربعة: رجل آتاه الله مالا وعلما، فهو يعمل بعلمه في ماله ورجل آتاه الله علما، ولم يؤته مالا، فيقول: رب لو أن لي مالا كنت أعمل فيه بمثل عمله، فهما في الأجر سواء وهذا منه حب لأن يكون له مثل ما كان له من غير حب زوال النعمة عنه قال ورجل آتاه الله مالا، ولم يؤته علما، فهو ينفقه في معاصي الله ورجل لم يؤته علما ، ولم يؤته مالا، فيقول: لو أن لي مثل مال فلان لكنت أنفقه في مثل ما أنفقه فيه من المعاصي، فهما في الوزر سواء، فذمه رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة تمنيه للمعصية لا من جهة حبه أن يكون له من النعمة مثل ما له، فإذا لا حرج على من يغبط غيره في نعمة، ويشتهي لنفسه مثلها ما لم يحب زوالها عنه، ولم يكره دوامها له، نعم، إن كانت تلك النعمة نعمة دينية واجبة كالإيمان، والصلاة، والزكاة فهذه المنافسة واجبة، وهو أن يحب أن يكون مثله لأنه إذا لم يكن يحب ذلك فيكون راضيا بالمعصية وذلك حرام، وإن كانت النعمة من الفضائل كإنفاق الأموال في المكارم، والصدقات فالمنافسة فيها مندوب إليها وإن كانت نعمة يتنعم فيها على وجه مباح فالمنافسة فيها مباحة وكل ذلك يرجع إلى إرادة مساواته ، واللحوق به في النعمة ، وليس فيها كراهة النعمة وكأن ، تحت هذه النعمة أمران : أحدهما : راحة المنعم عليه ، والآخر : ظهور نقصان غيره ، وتخلفه عنه ، وهو يكره أحد الوجهين ، وهو تخلف نفسه ويحب مساواته له .

ولا حرج على من يكره تخلف نفسه ، ونقصانها في المباحات نعم ، ذلك ينقص من الفضائل ، ويناقض الزهد ، والتوكل ، والرضا ويحجب عن المقامات الرفيعة ولكنه لا يوجب العصيان وههنا دقيقة غامضة وهو أنه إذا أيس من أن ينال مثل تلك النعمة ، وهو يكره تخلفه ونقصانه فلا محالة يحب زوال النقصان ، وإنما يزول نقصانه إما بأن ينال مثل ذلك أو بأن تزول نعمة المحسود ، فإذا انسد أحد الطريقين فيكاد القلب لا ينفك عن شهوة الطريق الآخر حتى إذا زالت النعمة عن المحسود كان ذلك أشفى عنده من دوامها ; إذ بزوالها يزول تخلفه وتقدم غيره وهذا يكاد لا ينفك القلب عنه ، فإن كان بحيث لو ألقي الأمر إليه ، ورد إلى اختياره لسعى في إزالة النعمة عنه ، فهو حسود حسدا مذموما ، وإن كان تدعه التقوى عن إزالة ذلك ، فيعفى عما يجده في طبعه من الارتياح إلى زوال النعمة عن محسوده مهما كان كارها لذلك من نفسه بعقله ودينه ، ولعله المعني بقوله صلى الله عليه وسلم : ثلاث لا ينفك المؤمن عنهن الحسد ، والظن ، والطيرة ، ثم قال : وله منهن مخرج ، إذا حسدت فلا تبغ أي : إن وجدت في قلبك شيئا ، فلا تعمل به وبعيد أن يكون الإنسان مريدا للحاق بأخيه في النعمة فيعجز عنها ، ثم ينفك عن ميل إلى زوال النعمة ; إذ يجد لا محالة ترجيحا له على دوامها فهذا الحد من المنافسة يزاحم الحسد الحرام ، فينبغي أن يحتاط فيه ، فإنه موضع الخطر وما من إنسان ، إلا وهو يرى فوق نفسه جماعة من معارفه وأقرانه يحب مساواتهم ويكاد ينجر ذلك إلى الحسد المحظور إن لم يكن قوي الإيمان رزين التقوى ومهما كان محركه خوف التفاوت ، وظهور نقصانه عن غيره جره ذلك إلى الحسد المذموم ، وإلى ميل الطبع إلى زوال النعمة عن أخيه حتى ينزل هو إلى مساواته إذ لم يقدر هو أن يرتقي إلى مساواته بإدراك النعمة ، وذلك لا رخصة فيه أصلا ، بل هو حرام ، سواء كان في مقاصد الدين ، أو مقاصد الدنيا ، ولكن يعفى عنه في ذلك ما لم يعمل به إن شاء الله تعالى وتكون كراهته لذلك من نفسه كفارة له .

التالي السابق


(الحالة الثانية: أن لا تحب زوالها، ولا تكره وجودها، ولا دوامها، ولكنك تشتهي لنفسك مثلها، وهذا يسمى غبطة) ، وهي محمودة، (وقد يخص باسم المنافسة، وقد تسمى المنافسة حسدا، والحسد منافسة، ويوضع أحد اللفظين بدل الآخر، ولا حجر في الأسامي بعد فهم المعاني، وقد قال صلى الله عليه وسلم: المؤمن يغبط، والمنافق يحسد) .

قال العراقي: لم أجد له أصلا مرفوعا، وإنما هو من قول الفضيل بن عياض.

كذلك رواه ابن أبي الدنيا في ذم الحسد .

قلت: ورواه أبو نعيم في الحلية من طريق إبراهيم بن الأشعث، قال: سمعت الفضيل بن عياض يقول: المؤمن يغبط ولا يحسد، والمنافق يحسد ولا يغبط، والمؤمن يستر ويعظ وينصح، والفاجر يهتك ويغبط ويشين ويعير، (فأما الأول فهو حرام بكل حال) ; إذ لا يخلو من معاندة المقادير الإلهية، أو طلب الحق في غير موضعه، أو زواله عن موضعه، فالمتلبس به عاص بهذا الاعتبار، وذلك إما كبيرة، أو يصير كبيرة بالتكرار بالنسبة إلى شخص واحد، أو أشخاص، لا سيما إذا انضم السعي إليه في الإزالة (إلا نعمة أصابها فاجر، أو كافر، وهو يستعين بها على تهييج الفتن، وإفساد ذات البين، وإيذاء الخلق، فلا تضرك كراهتك لها، ومحبتك لزوالها; فإنك لا تحب زوالها من حيث إنها نعمة، بل من حيث إنها آلة الفساد، ولو أمنت فساده لم يغمك تنعمه، ويدل على تحريم الحسد الأخبار التي نقلناها) آنفا، حديث أبي هريرة: لا تحاسدوا، ولا تباغضوا، وحديثه أيضا: سيصيب أمتي داء الأمم، وحديثه أيضا: إياكم والحسد، وحديث الزبير: دب إليكم داء الأمم قبلكم، وغيرها مما تقدم ذكرها، (وإن هذه الكراهة تسخط لقضاء الله) ، وقدره (في تفضيل بعض عباده على بعض) لحكمة سبقت، (وذلك لا عذر فيه، ولا رخصة، وأي معصية تزيد على كراهتك لراحة مسلم من غير أن يكون لك فيه مضرة، وإلى هذا أشار القرآن بقوله: إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها ، وهذا الفرح شماتة) أشار بذلك إلى أن المراد بالحسنة النعمة، وبالسيئة المعصية، وأنه أريد بالأول الحسد، وبالثاني الشماتة، ثم نبه على أنهما لا يضران المحسود، ولا المشموت به إذا اتقى وصبر بقوله: وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا (والحسد والشماتة يتلازمان) ، وهي معصية زائدة على معصية الحسد (وقال تعالى) : ود كثير من أهل الكتاب ( لو يردونكم من بعد إيمانكم [ ص: 59 ] كفارا حسدا من عند أنفسهم ، وقال) تعالى: ( ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء ) ، أي: مساوين في الكفر، (فأخبر أن حبهم زوال نعمة الإيمان حسد، وذكر الله تعالى حسد إخوة يوسف) - عليهم السلام -، وهم عشرة لأمهات شتى بني يعقوب - عليه السلام -، وهم يهوذا، وروبيل، وشمعون، ولاوى، ورديالون، وبشحر ودنية بنت خالته، تزوجها يعقوب أولا، فلما توفيت تزوج أختها راحيل فولدت له بنيامين، ويوسف، وأربعة آخرين: ننيال، وجاد، وأشر من سريتين زلفة وفلحص، (وعبر عما في قلوبهم بقوله: قالوا ليوسف وأخوه ) يعني بنيامين، وهو أخوه لأمه وأبيه، واختصاصه بالإضافة لاختصاصه بالأخوة من الطرفين ( أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة ) ، أي: والحال أنا جماعة أقوياء أحق بالمحبة من صغيرين لا كفاية فيهما ( إن أبانا لفي ضلال مبين ) لتفضيله المفضول، أو لترك العدل في المحبة .

روي أنه كان أحب إليه، لما يرى فيه من المخايل، وكان إخوته يحسدونه، فلما رأى الرؤيا ضاعف له المحبة بحيث لم يصبر عنه، فتبالغ حسدهم حتى حملهم على التعرض له ( اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا ) بعيدة من العمران، وهو معنى تنكيرها، وإبهامها ( يخل لكم وجه أبيكم ) ، أي: يصف لكم، فيقبل عليكم بكليته، ولا يلتفت عنكم إلى غيركم (فلما كرهوا حب أبيه له) ، وعدم صبره عنه (ساءهم ذلك، وأحبوا زواله عنه، فغيبوه عنه) بما هو مذكور في القرآن .

(وقال تعالى: ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ، أي: لا تضيق به صدورهم، ولا يغتمون) من رؤية ما آتاهم الله من فضله (فأثنى الله عليهم بعدم الحسد) ، وهو عدم ضيق الصدور من رؤية النعمة، (وقال تعالى في معرض الإنكار) على أهل الكتب ( أم يحسدون الناس ) ، أي: بل يحسدون، وإنما قدرت أم هنا ب بل; لأن المراد هنا إثبات الحسد لهم لا الاستفهام عنه، لا بالإنكار ولا بغيره، وإذا كان هذا المراد تعين أن يكون التقدير: بل يحسدون، ويشهد لذلك قوله تعالى: ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا الآية، وقد سبق قريبا، لا يقال: الإنكار يتضمن الإثبات وزيادة; لأنا نقول: تلك الزيادة لا دليل عليها، بل ولا يقتضيها المقام، فظهر أن الأظهر في أم هنا أن معناها بل فقط، وفي قوله: يحسدون دلالة على أن المضارع حقيقة في الحال; لأنه أطلق في يحسدون وأريد الحال; لأنهم كانوا حاسدين وقت وقوع اللفظ عليهم، ولم يرد أنهم يحسدون في المستقبل، وإذا أطلق وأريد الحال كان حقيقة; لأن الأصل في الإطلاق الحقيقة، وهذا عند التحقيق خلاف من يدعي صلاحية الحال والاستقبال كابن مالك; لأنه يجعله موضوعا للقدر المشترك، إلا أن يقال: التواطؤ يقع على أفراده للحقيقة .

قال التاج السبكي في قواعده: وأنا أقول بالفصل في ذلك في المشكل وتساوي الأفراد، وفي الآية دلالة على أن مفهوم العموم من باب الكلية لا من باب الكل; لأنه تعالى قد ذمهم على الحسد، فإما أن يكون الحسد المذموم عليه الحسد من حيث هو، أو الحسد من حيث العموم; بمعنى أن كل واحد مذموم على الحسد القائم به من غير نظر إلى القائم بغيره، ولا خامس لهذه الأقسام عقلا، ولا سبيل إلى الأول; لأن الحسد من حيث هو ليس من فعل المكلف لا يلام عليه، ولا إلى الثاني; لأن حسد غيره ليس من فعله، فكيف يلام على فعل غيره؟ ولا إلى الثالث أيضا; لأنه كذلك، فتعين الرابع، وهو أن يكون الحكم ثابتا لكل فرد إثباتا، وسلبا غير منظور فيه إلى غيره بنفي، ولا إثبات .

وفي الآية أيضا دليل على جواز التكليف بما لا يطاق; لأنه تعالى لامهم على الحسد، وهو أمر يقوم بالحاسد لا يقدر على دفعه، ونظيرها: أقبل ولا تخف ، ولا يقال: إنما دام على تعاطي أسبابه للإجماع على أن الحسد في نفسه مذموم، ولأن البخل والحسد سيان في كونهما مما لا يطاق، وقد ذمهم على البخل قبل ذلك في قوله: أم لهم نصيب من الملك الآية، وكذلك في قوله: الذين يبخلون .

والبخل والحسد مشتركان في أن صاحبهما يريد منع النعمة عن الغير، ثم يتميز البخل بعدم دفع ذي النعمة شيئا، والحسد تمني أن لا يعطى أحد سواه شيئا، وفي الآية أيضا دلالة على أن الحسد حرام، ثم يختلف باختلاف المحسود، فإن كان نبيا، فهو أيضا كفر، وإلا فلا ينتهي إلى الكفر، فإن قلت: ما وجه دلالته على التحريم؟ قلت: التوعد عليه في قوله تعالى:

[ ص: 60 ] وكفى بجهنم سعيرا مع السياق المؤذن بذلك، وفي التوعد كفاية، فإنه كالنص في التحريم، فإن قلت: فما وجه دلالته على مطلق الحسد؟ والكلام على الحسد إنما هو في حسدهم النبي صلى الله عليه وسلم على ما سيذكر من أن المراد بالناس النبي - صلى الله عليه وسلم .

قلت: قوله: يحسدون الناس ، فإنه دال على أن العلة في الذم للحسد على الإثبات من الفضل، وهذا شامل لكل محسود على نعمة أوتيها من فضل الله، وفيها دلالة على صحة إطلاق اسم الجميع، وإرادة الواحد; لأن المراد بالناس النبي صلى الله عليه وسلم كما روي ذلك عن ابن عباس، والشافعي، والأكثرين، وتقرير ذلك أنه لو لم يرد بالناس بعض المؤمنين وأراد كلهم لناقض قوله: إنهم لم يحسدوا آل إبراهيم، لكنه لا يناقضه لاستحالة الناقض على كلام الله، فدل على أنه أراد البعض، وما هو إلا محمد صلى الله عليه وسلم ; لأن القائل قائلان: قائل بأن المراد جميع المؤمنين، وقائل بأن المراد النبي - عليه السلام -، والأول مندفع بأن مدعيه يدعي زيادة الأصل، والأصل عدمها; لأن هذا اللفظ قد ثبت أنه استعمل في الخصوص، فليحمل على التيقن، وعلى من ادعى ما وراءه الدليل، فثبت الثاني .

وقد كان يمكن أن يقال: إن المراد بالناس آل النبي كما في آل إبراهيم، والمعنى أنهم يحسدون آل النبي لكونه بعث من أنفسهم، ويكون النبي هو الفضل الذي أوتيه أهله، وحسدوا عليه، ولكن هذا القول لم نر من قال به .

( على ما آتاهم الله من فضله ) من النبوة، والرسالة، والكتاب، والنصرة، والإعزار، وجعل النبي الموعود منهم، وتمام الآية، فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا (وقال) تعالى: ( كان الناس أمة واحدة إلى قوله: إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم قيل في التفسير: حسدا) ، أي: فسروا البغي بالحسد، فإنه تجاوز من الحق إلى الباطل (وقال) تعالى: ( وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ) ، أي: حسدا (فأنزل الله العلم) في صدورهم (ليجمعهم) ، أي: يجمع شملهم (ويؤلف بينهم على طاعته) الواجبة عليهم (وأمرهم أن يتألفوا بالعلم، فتحاسدوا) ، وتباغضوا، وتدابروا (واختلفوا، وأراد كل واحد منهم أن ينفرد بالرياسة) ، والتقدم (وقبول القول، فرد بعضهم على بعض، قال ابن عباس) - رضي الله عنه -: (كانت اليهود الذين بالمدينة قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم إذا قاتلوا قوما قالوا: نسألك بالنبي الذي وعدتنا أن ترسله، وبالكتاب) الذي وعدتنا (أن تنزله إلا ما نصرتنا على هذا القوم، فكانوا) يستجاب دعاؤهم و (ينصرون) على عدوهم، (فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم من ولد إسماعيل - عليه السلام - عرفوه) حق المعرفة (وكفروا به بعد معرفتهم إياه، فقال تعالى) في حقهم: ( وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به إلى قوله: أن يكفروا بما أنزل الله بغيا ، أي: حسدا) .

قال العراقي: رواه ابن إسحاق في السيرة فيما بلغه عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أن اليهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكره بنحوه، وهذا منقطع. انتهى .

قلت: قد رواه ابن أبي حاتم في تفسيره من طريق الضحاك، عن ابن عباس، ولا انقطاع فيه، (وقالت صفية بنت حيي) بن أخطب بن سعنة الإسرائيلية، أم المؤمنين - رضي الله عنها -، اصطفاها النبي صلى الله عليه وسلم من سبي خيبر، وجعل عتقها صداقها، وقسم لها، وكانت من عقلاء النساء، لها شرف في قومها (للنبي صلى الله عليه وسلم: جاء أبي، وعمي من عندك يوما، فقال أبي لعمي: ما تقول فيه؟ قال: أقول: إنه النبي الذي بشر به موسى) صلى الله عليه وسلم (فما ترى) أنت؟ (قال: أرى معاداته أيام الحياة) ، أي: مدة الحياة .

قال العراقي: رواه ابن إسحاق في السيرة، قال: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، قال: حدثت صفية، فذكره نحوه، وهو منقطع أيضا .

(فهذا حكم الحسد في التحريم، وأما المنافسة فليست بحرام، بل هي إما واجبة) كما إذا كانت في الأمور الدينية (أو مباحة) كما إذا كانت في الفضائل، (وقد يستعمل لفظ المنافسة بدل الحسد، والحسد بدل المنافسة) توسعا (قال قثم بن العباس) بن عبد المطلب، له صحبة ورواية، ولم يعقب، استشهد بعد الخمسين، وله ذكر في اللباس في صحيح البخاري أن النبي - صلى الله عليه [ ص: 61 ] وسلم - حمله بين يديه، وكان يشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم، وكان أخا الحسين من الرضاعة، توفي بسمرقند، وله مقام هناك يزار، روى له النسائي في خصائص علي (لما أراد هو، و) أخوه (الفضل بن العباس) ، وهو أكبر ولد العباس، استشهد في خلافة عمر، روى له الجماعة (أن يأتيا رسول الله، صلى الله عليه وسلم فيسألانه أن يؤمرهما على الصدقة، قالا لعلي) بن أبي طالب - رضي الله عنه - (حين قال لهما علي: لا تذهبا إليه، فإنه لا يؤمركما عليها) ، أي: على الصدقات، فإنه علم أنها أوساخ، ولا يرضى لهما العمل على مثلها (فقالا له: ما هذا منك) يا علي (إلا نفاسة، والله لقد زوجك ابنته) فاطمة (فما نفسنا) بكسر الفاء، أي: ما ضننا (ذلك عليك، أي: هذا منك حسد، وما حسدناك على تزويجه إياك فاطمة) - رضي الله عنها - .

قال العراقي: هكذا وقع للمصنف أنهما قثم والفضل، وإنما هما الفضل، والمطلب بن ربيعة، كما رواه مسلم من حديث المطلب بن ربيعة بن الحرث، قال: اجتمع ربيعة بن الحرث، والعباس بن عبد المطلب، فقالا: والله لو بعثنا هذين الغلامين - قال لي، وللفضل بن العباس - إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلماه، فذكر الحديث .

(والمنافسة مشتقة في اللغة من النفاسة) ، وقد نفس الشيء بالضم نفاسة كرم، فهو نفيس، وأنفس إنفاسا مثله، فهو منفس، ونفست به مثل ضننت لنفاسته، وزنا ومعنى (والذي يدل على إباحة المنافسة قوله تعالى: وفي ذلك ) ، أي: الرحيق والنعيم ( فليتنافس المتنافسون ) ، أي: ليرتغب المرتغبون (وقال) تعالى: ( سابقوا إلى مغفرة من ربكم ) ، وجنة عرضها السماوات والأرض (وإنما) تكون (المسابقة عند خوف الفوت) كما سيأتي (وهو كالعبدين يتسابقان إلى خدمة مولاهما; إذ يجزع كل واحد أن يسبقه صاحبه فيحظى) ، أي: ينال الحظوة، وهي الشرف، والكرامة (عند مولاه، أي: سيده بمنزلة لا يحظى هو بها، وكيف وقد صرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله علما، فهو يعمل به، ويعلمه الناس) .

أخرجه الأئمة الستة في كتبهم سوى أبي داود من حديث سفيان بن عيينة ، عن الزهري، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن، فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالا، فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار.

رواه كذلك أحمد، وابن حبان، وقد روي من طريق عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي داود، عن الزهري باللفظ السابق، ورواه أحمد، والشيخان، وابن ماجه، وابن حبان من حديث ابن مسعود بنحوه، ورواه أيضا أحمد والبخاري من حديث أبي هريرة بنحوه، وروى أبو يعلى والضياء من حديث أبي سعيد بنحوه، ورواه محمد بن نصر في كتاب الصلاة له من حديث ابن عمرو بنحوه، وقد ذكر تفصيل ذلك في كتاب العلم .

(ثم لو فسر ذلك في حديث أبي كبشة الأنماري) المذحجي - رضي الله عنه - مشهور بكنيته، واختلف في اسمه على أقوال، فقيل: سعيد بن عمرو، أو عمرو بن سعيد، وقيل: عمر، أو عامر بن سعد، نزل حمص، روى له أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وروى عن أبي بكر، روى عنه عمرو بن رؤبة، وغيره (فقال: مثل هذه الأمة مثل أربعة: رجل آتاه الله مالا وعلما، فهو يعمل بعلمه في ماله) ينفقه في حقه (ورجل آتاه الله علما، ولم يؤته مالا، فيقول: رب لو أن لي مالا كنت أعمل فيه بمثل عمله، فهما في الأجر سواء) ، قال المصنف: (وهذا منه حب، لأن يكون له مثل ما كان له من غير حب زوال النعمة عنه) ، ثم رجع إلى بقيته، فقال: (قال) الراوي: (ورجل آتاه الله مالا، ولم يؤته علما، فهو ينفقه في معاصي الله) ، وفي رواية: فهو يتخبط في ماله ينفقه في غير حقه (ورجل لم يؤته الله مالا، ولا علما، فيقول: لو أن لي مال فلان كنت أعمل بمثل عمله، فهما في الوزر سواء) .

قال العراقي: رواه الترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن صحيح. انتهى .

قلت: ورواه كذلك أحمد، وهناد، والطبراني في الكبير، والبيهقي في الشعب (فذمه رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة تمنيه للمعصية لا من جهة حبه [ ص: 62 ] أن يكون له من النعمة مثل ما له، فإذا لا حرج على من يغبط غيره في نعمة، ويشتهي لنفسه مثلها ما لم يحب زوالها عنه، ولم يكره دوامها له) ، وهذا هو حسد الغبطة المحمودة (نعم، إن كانت تلك النعمة نعمة دينية واجبة كالإيمان، والصلاة، والزكاة) ، وما أشبهها (فهذه المنافسة واجبة، وهو أن يحب أن يكون مثله) في التلبس بتلك النعمة؛ (لأنه إن لم يحب) ذلك فيكون راضيا بالمعصية، وذلك حرام، وإن كانت النعمة من الفضائل الخارجة (كإنفاق الأموال في المكارم، والصدقات) للفقراء، (فالمنافسة فيها مندوب إليها) ; لأنها تبعث على مكارم الأخلاق (وإن كانت نعمة يتنعم فيها على وجه مباح) قد أباح له الشرع في التمتع بها (فالمنافسة فيها مباحة) ، فالمنافسة تتبع ما غبط فيه حرمة، وإباحة، ووجوبا، وندبا (وكل ذلك يرجع إلى إرادة مساواته، واللحوق به في النعمة، وليس فيها كراهة النعمة، وكأن تحت هذه النعمة أمرين: أحدهما: راحة المنعم عليه، والآخر: ظهور نقصان غيره، وتخلفه عنه، وهو يكره أحد الوجهين، وهو تخلف نفسه) عن اللحوق، (ويجب مساواته له، ولا حرج على من يكره تخلف نفسه، ونقصانها في المباحات) ما لم يحب نقصان غيره (نعم، ذلك ينقص من الفضل، ويناقض الزهد، والتوكل، والرضا) ، والتسليم، والقناعة، وهن أحوال شريفة (ويحجب عن المقامات الرفيعة) المقدار (ولكنه لا يوجب العصيان) في ظاهر الشرع .

(وها هنا دقيقة غامضة) خفية المدرك (وهو أنه إذا أيس من أن ينال مثل تلك النعمة، وهو يكره تخلفه ونقصانه) عن نفسه (فلا محالة يحب زوال النقصان، وإنما يزول نقصانه) بأحد أمرين: (إما بأن ينال مثل ذلك أو بأن تزول نعمة المحسود، فإذا انسد أحد الطريقين فيكاد القلب لا ينفك من شهوة الطريق الآخر) ، وهو زوال نعمة المحسود، (حتى إذا زالت النعمة عن المحسود كان ذلك أشهى عنده من دوامها عليه; إذ بزوالها يزول تخلفه وتقدم غيره) الذي هو المطلوب، (وهذا يكاد لا ينفك القلب عنه، فإن كان بحيث لو ألقي الأمر إليه، ورد إلى اختياره لسعى في إزالة النعمة عنه، فهو حسود حسدا مذموما، وإن كان) ممن (تدعه) ، أي: يمنعه (التقوى عن إزالة، فيعفى عنه فيما يجده في طبعه من ارتياح إلى زوال النعمة عن محسوده بهما كان كارها لذلك من نفسه بعقله ودينه، ولعله المعني) ، أي: المراد (بقوله صلى الله عليه وسلم: ثلاث) خصال (لا ينفك المؤمن عنهن) ، أي: فإنهن لازمات: (الحسد، والظن، والطيرة، ثم قال: وله منهن مخرج، إذا حسدت فلا تبغ) تقدم قريبا (أي: إن وجدت في قلبك شيئا، فلا تعمل به) ، أي: بمقتضاه (وبعيد أن يكون الإنسان مريد اللحاق بأخيه في النعمة فيعجز عنها، ثم ينفك عن ميل إلى زوال النعمة; إذ يجد لا محالة له ترجيحا على دوامها) إلا من عصمه الله عنه، (فهذا الحد من المنافسة يزاحم) ، أي: يقابل (الحسد الحرام، فينبغي أن يحتاط له، فإنه موضع الخطر، ولا أحد إلا وهو يرى) ، وفي نسخة: وما من إنسان إلا وهو يرى (نفسه فوق جماعة من معارفه وأقرانه) ، وفي نسخة: وهو يرى فوق نفسه من معارفه وأقرانه (من يحب أن يساويه) ، وفي نسخة: مساواتهم (ويكاد ينجر) ، وفي نسخة: يجره (ذلك إلى الحسد المحظور إن لم يكن قوي الإيمان رزين التقوى) ، أي: شديد صلبه، (ومهما كان محركه خوف التفاوت، وظهور نقصانه من غيره [ ص: 63 ] جره ذلك إلى الحسد المذموم، وإلى ميل الطبع إلى زوال النعمة عن أخيه حتى ينزل هو إلى مساواته إذا لم يقدر هو أن يرتقي إلى مساواته بإدراك النعمة، وذلك لا رخصة فيه أصلا، بل هو حرام، سواء كان في مقاصد الدين، أو مقاصد الدنيا، ولكن ذلك يعفى عنه ما لم يعمل به إن شاء الله تعالى) ، وهو الذي فهم من الحديث السابق، (وتكون كراهته لذلك من نفسه كفارة له) ، قال التاج السبكي في قواعده في الكلام على قوله تعالى: أم يحسدون الناس الآية: وفيها دلالة على أن الحسد كبيرة عند من يقول: الكبيرة ما هدد عليه، أو توعد به، وفيها دلالة على أنه إذا لم يظهره اللسان، بل أضمره الجنان لا يعاقب صاحبه إلى يوم القيامة، فلا يعزر في الدنيا ولا يؤاخذ; لأنه من أعمال القلوب التي لا اطلاع عليها، فلا يؤاخذ بها ما لم يظهره بقول، أو فعل، ونظير المسألة قول الشيخ أبي حامد: إن من يتعين قتله، ولا يظهر ذلك بقول ولا فعل، لا يقدح في شهادته; لأن ما في القلب لا يمكن الاحتراز عنه، والله أعلم .




الخدمات العلمية