الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وقد ذم العراق جماعة كعمر بن عبد العزيز وكعب الأحبار .

وقال ابن عمر رضي الله عنهما لمولى له : أين تسكن ؟ فقال : العراق قال : فما تصنع به ؟ بلغني أن ما من أحد يسكن العراق إلا قيض الله قرينا من البلاء .

وذكر كعب الأحبار يوما العراق ، فقال : فيه تسعة أعشار الشر ، وفيه الداء العضال .

وقد قيل قسم الخير عشرة أجزاء ، فتسعة أعشاره بالشام ، وعشره بالعراق ، وقسم الشر عشرة أجزاء على العكس من ذلك .

وقال بعض أصحاب الحديث : كنا يوما عند الفضيل بن عياض فجاءه صوفي متدرع بعباءة فأجلسه إلى جانبه وأقبل عليه ثم قال : أين تسكن فقال : بغداد . فأعرض عنه وقال : يأتينا أحدهم في زي الرهبان ، فإذا سألناه أين تسكن ؟ قال : في عش الظلمة وكان . بشر بن الحارث يقول : مثال المتعبد ببغداد مثال المتعبد في الحش .

وكان يقول : لا تقتدوا بي في المقام بها من أراد أن يخرج فليخرج .

وكان أحمد بن حنبل يقول : لولا تعلق هؤلاء الصبيان بنا كان الخروج من هذا البلد آثر في نفسي . قيل : وأين تختار السكنى ؟ قال : بالثغور .

وقال بعضهم وقد سئل عن أهل بغداد : زاهدهم زاهد ، وشريرهم شرير .

فهذا يدل على أن من بلي ببلدة تكثر فيها المعاصي ويقل فيها الخير فلا عذر له في المقام بها ، بل ينبغي أن يهاجر قال الله تعالى : ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فإن منعه عن ذلك عيال أو علاقة ، فلا ينبغي أن يكون راضيا بحاله مطمئن النفس إليه ، بل ينبغي أن يكون منزعج القلب منها قائلا على الدوام : ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها . وذلك لأن الظلم إذا عم نزل البلاء ودمر الجميع ، وشمل المطيعين ، قال الله تعالى : واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة فإذا ليس في شيء من أسباب نقص الدين البتة رضا مطلق إلا من حيث إضافتها إلى فعل الله تعالى ، فأما هي في نفسها فلا وجه للرضا بها بحال .

وقد اختلف العلماء في الأفضل من أهل المقامات الثلاث رجل يحب الموت شوقا إلى لقاء الله تعالى ، ورجل يحب البقاء لخدمة المولى ، ورجل قال : لا أختار شيئا ، بل أرضى بما اختاره الله تعالى ورفعت هذه المسألة إلى بعض العارفين فقال : صاحب الرضا أفضلهم ؛ لأنه أقلهم فضولا .

واجتمع ذات يوم وهيب بن الورد وسفيان الثوري ، ويوسف بن أسباط فقال الثوري كنت أكره موت الفجأة قبل اليوم ، واليوم وددت أني مت . فقال له يوسف لم ؟ قال : لما أتخوف من الفتنة . فقال يوسف : لكني لا أكره طول البقاء . فقال سفيان : لم قال : لعلي أصادف يوما أتوب فيه وأعمل صالحا . فقيل لوهيب أيش : تقول أنت ؟ فقال : أنا لا أختار شيئا . أحب ذلك إلي أحبه إلى الله سبحانه وتعالى فقبله الثوري بين عينيه وقال : روحانية ورب الكعبة .

التالي السابق


(وقد ذم العراق جماعة كعمر بن عبد العزيز وكعب الأحبار) رحمهما الله تعالى (وقال ابن عمر رضي الله عنهما) كذا في سائر النسخ، وهو غلط، ولفظ القوت: فروينا عن عمر بن عبد العزيز أنه قال (لمولى له: أين تسكن؟ فقال: العراق. فقال: فما تصنع به؟ بلغني أنه ما من أحد يسكن العراق إلا قيض الله له قرينا من البلاء) كذا في القوت (وذكر كعب الأحبار يوما العراق، فقال: فيه تسعة أعشار الشر، وفيه الداء العضال) قال صاحب القوت، وكان قال ذلك لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فنهاه عن الخروج إلى العراق.

قلت: رواه كذلك أبو نعيم في الحلية في ترجمة كعب (وقد قيل قسم الخير عشرة أجزاء، فتسعة أعشاره بالشام، وعشره بالعراق، وقسم الشر عشرة أجزاء على العكس من ذلك) ، أي: تسعة أعشاره بالعراق وعشره بالشام، نقله صاحب القوت .

قلت: وهذا قد روي مرفوعا من حديث عبد الله بن عمر: والخير عشرة أعشار، تسعة بالشام وواحد في سائر البلدان، والشر عشرة أعشار، واحد بالشام وتسعة في سائر البلدان. رواه الخطيب في المتفق والمفترق، وفيه أبو خليل الدمشقي، عن الوضين بن عطاء، قال أحمد: ما كان به بأس. ولينه غيره .

وروى ابن عساكر من حديث بسند فيه مجاهيل: إن الله خلق أربعة أشياء وأردفها أربعة أشياء، خلق الجدب وأردفه الزهر وأسكنه الحجاز، وخلق العفة وأردفها الغفلة وأسكنها اليمن، وخلق الريف وأردفه الطاعون وأسكنه الشام، وخلق الفجور وأردفه الوهم وأسكنه العراق. (وقال بعض أصحاب الحديث: كنا يوما عند الفضيل بن عياض) رحمه الله تعالى (فجاء صوفي متدرع بعباءة فأجلسه إلى جانبه وأقبل عليه) بوجهه يحادثه (ثم قال: أين تسكن) اليوم؟ (فقال: بغداد. فأعرض عنه) الفضيل (وقال: يأتينا أحدهم في زي الرهبان، فإذا سألناه أين تسكن؟ قال: في عشر الظلمة.) نقله صاحب القوت .

(و) قد (كان بشر بن الحارث) رحمه الله تعالى (يقول: مثال المتعبد ببغداد مثال المتعبد في الحش.) نقله صاحب القوت. (وكان) رحمه الله تعالى (يقول: لا تقتدوا بي في المقام بها) ، أي: ببغداد (من أراد أن يخرج فليخرج) نقله صاحب القوت. (وكان أحمد بن حنبل) -رحمه الله تعالى- (يقول: لولا تعلق هؤلاء الصبيان بنا كان الخروج من هذا البلد آثر في نفسي. قيل: وأين تختار السكنى؟ قال: بالثغور.) نقله صاحب القوت .

قال: وأما معروف الكرخي -رحمه الله تعالى- فكان يفصح بها فيقول: أما أنا فإني أمرت أن أموت ببغداد. فهؤلاء من خيار أهل البلد، وهم من أبدال الصديقين، (وقال بعضهم وقد سئل عن أهل بغداد: زاهدهم زاهد، وشريرهم شرير. فهذا) وأمثاله (يدل على أن من بلي ببلدة) ، أي: بسكناها (تكثر فيها المعاصي) والمنكرات (ويقل فيها الخير فلا عذر له في المقام بها، بل ينبغي أن يهاجر) منها (قال الله تعالى: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فإن منعه عن ذلك عيال أو علاقة، فلا ينبغي أن يكون راضيا بحاله مطمئن النفس إليه، بل ينبغي أن يكون منزعج القلب منها قائلا على الدوام: ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها وذلك لأن الظلم إذا عم نزل [ ص: 672 ] البلاء ودمر) على (الجميع، وشمل المطيعين، قال الله تعالى: واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ) ولفظ القوت: ومن سكن بلدا كثير المنكر ظاهر المعاصي، وكان فيه مزعجا غير مطمئن إليه، يرغب إلى الله في إخراجه منه بحسن اختياره له، أو كان مضطرا في المقام فيه لعلة، أو قلة ذات اليد لا يستطيع حيلة في الخروج ولا يهتدي طريقا لغلبة الفساد في أكثر الأمصار، فإنه معذور عند الله بحسن نيته، وهو أقرب إلى العفو والسلامة ممن اغتبط بمقامه واطمأن ورضي بحاله، أو كان مقامه على هوى، أو لاجتلاب أسباب الفتنة والدنيا، قال تعالى: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها في التفسير إذا كنت في بلد يعمل فيه بالمعاصي فتحول منه إلى غيره. وقيل: إذا كان العبد في بلد من يعمل فيه بالمنكر أضعف أو أقل من أهل المعروف، ثم لم ينكروا ذلك، فقد وجب الخروج منه. ثم قال تعالى في قوم من المستضعفين عذرهم: والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها الآية. ألا ترى كيف أخبر بترك رضاهم بالمقام وبانزعاجهم وطلبهم الخروج، فبذلك عذرهم، ولا يصلح الرضا إلا بالعصمة من جميع الهوى. اهـ .

وقال الكمال الصوفي: ولا رخصة في الإقامة في بلد كثر فيه الفساد خوفا من الفرار من قضاء الله تعالى، فإنه أيضا إذا فر فر بقضاء الله تعالى، قال الله تعالى: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فإن عاقه عجز أو عيلة وجب عليه كراهة ذلك بباطنه تعبدا لله -عز وجل- (فإذا ليس في شيء من أسباب نقص الدين البتة رضا مطلق إلا من حيث إضافتها إلى فعل الله تعالى، فأما هي في نفسها فلا وجه للرضا بها بحال، وقد اختلف العلماء في الأفضل من أهل المقامات الثلاث) ، أي: أيهم أفضل (رجل يحب الموت شوقا إلى لقاء الله تعالى، ورجل يحب البقاء) للمعاملة و (لخدمة المولى، ورجل قال: لا أختار شيئا، بل أرضى بما اختاره الله تعالى لي) إن شاء أحياني أبدا وإن شاء أماتني غدا، (ورفعت هذه المسألة إلى بعض العارفين) وتحاكموا إليه (فقال: صاحب الرضا أفضلهم؛ لأنه أقلهم فضولا) قال صاحب القوت: وهذا كما قال في الاعتبار بترك الاعتراض والاختيار؛ لأنه دخل في الدار بغير اختيار، فكذلك ينبغي أن يكون خروجه منها عن معنى دخلوه بلا اختيار، ولأن مقام الرضا أعلى من مقام الشوق، ثم الذي يليه في الفضل الذي يحب الموت شوقا إلى اللقاء، وهذا مقام في المحبة، وهو حقيقة الزهد في الحياة، والذي يحب البقاء للخدمة وكثرة المعاملة فهو فاضل بعد هذين مقامه قوة الرجاء وحسن الظن في العصمة، وله أيضا مطالعات من الأنس وملاحظات في القرب به طاب مقامه، وعنه سكنت نفسه، وقصرت عليه أيامه، ففي الخبر: أفضل المؤمنين إيمانا من طال عمره وحسن عمله. هذا؛ لأن الأعمال مقتضى الإيمان؛ إذ حقيقة الإيمان إنما هو قول وعمل، وليس بعد هؤلاء مقام يفرح به ولا يغبط عليه صاحبه، ولا يوصف بمدح، إنما هو حب البقاء، ولمتعة النفس وموافقة الهوى، وقد تشرف النفس على الضعفاء من أهل هذا الطريق وتختفي فيها علته، وهو أن يحب البقاء لأجل النفس وللمتعة بروح الدنيا وما طبعت عليه من حب الحياة، ويكره الموت لمنافرة الطبع، فيتوهم أنه ممن يحب البقاء لأجل الله تعالى ولأجل طاعته وخدمته، وهذا من الشهوة الخفية التي لا يخرجها إلا حقيقة الزهد في الدنيا، ولا يفضل في هذا الطريق الثالث إلا عارف واحد دائم المشاهدة باليقين، فأما المعتل بوصفه وهواه فليس به اعتبار في طريق ولا مقام (و) قد كان (اجتمع ذات يوم وهيب بن الورد) المكي، تقدم التعريف به مرارا (وسفيان) بن سعيد (الثوري، ويوسف بن أسباط) الشيباني رحمهم الله تعالى (فقال الثوري) قد (كنت أكره موت الفجأة قبل اليوم، واليوم وددت أني مت. فقال له يوسف) بن أسباط: (لم؟ قال: لما أتخوف من الفتنة. فقال يوسف: لكني لا أكره طول البقاء. فقال سفيان: لم) تكره الموت؟ (قال: لعلي أصادف يوما أتوب فيه وأعمل صالحا. فقيل لوهيب: أيش تقول أنت؟ فقال: أنا لا أختار شيئا. أحب ذلك إلي أحبه إلى الله تعالى) قال: (فقبل الثوري بين عينيه وقال: روحانية ورب الكعبة) قال صاحب القوت: يعني مقام الروحانيين، وهم المقربون أهل الروح والريحان، فهم ذوو المحبة لله -عز وجل- والرضوان، كما قال تعالى: فأما إن كان من المقربين فروح وريحان يعني لهم روح من نسيم القرب وريحان من طيب الأنس والحب، وأيضا أنه تعالى لما ذكر أنه لأصحاب اليمين من كل شدة وهول روحا به لشهادتهم القريب وفي كل [ ص: 673 ] كرب ريحانا منه لقرب الحبيب، فبذلك علوا؛ ولذلك فضلوا، وكان بعض هذه الطائفة يقول: سر العارف في الأشياء واقف مثل الماء في البئر لا يختار المقام وإن أخرج خرج، أي: ومثل لسان الميزان في وقوفه واعتداله بين حكمتين أيهما أمد به مال به. وقال: آخر قلبي مثل الماء يسخن ثم يبرد. أي لا يقف على وصف. ا هـ .

وقد وجدت في الحلية لأبي نعيم في ترجمة وهيب بن المورد ما يخالف ما ذكره صاحب القوت وتبعه المصنف قال: حدثنا أبي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن الحسن، حدثنا سعد بن محمد البيروتي، حدثنا ابن أبي داود قال: سمعت عبد الرازق يقول: اجتمع سفيان الثوري ووهيب بن الورد، فقال سفيان لوهيب: يا أبا أمية أتحب أن تموت؟ فقال: أحب أن أعيش، لعلي أن أتوب. فقال وهيب: فأنت؟ قال: ورب هذه البنية ثلاثا ووددت أني مت الساعة .




الخدمات العلمية