الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ثم المدركات في انقسامها تنقسم إلى ما يوافق طبع المدرك ويلائمه ويلذه ، وإلى ما ينافيه وينافره ويؤلمه ، وإلى ما لا يؤثر فيه بإيلام وإلذاذ ، فكل ما في إدراكه لذة وراحة فهو محبوب عند المدرك ، وما في إدراكه ألم فهو مبغوض عند المدرك ، وما يخلو عن استعقاب ألم ولذة فلا يوصف بكونه محبوبا ولا مكروها فإذا كل لذيذ محبوب عند الملتذ به ، ومعنى كونه محبوبا أن في الطبع ميلا إليه ، ومعنى كونه مبغوضا أن في الطبع نفرة عنه ، فالحب عبارة عن ميل الطبع إلى الشيء الملذ ، فإن تأكد ذلك الميل وقوي سمي عشقا ، والبغض عبارة عن نفرة الطبع عن المؤلم المتعب ، فإذا قوي سمي مقتا فهذا أصل في حقيقة معنى الحب لا بد من معرفته .

الأصل الثاني: أن الحب لما كان تابعا للإدراك والمعرفة انقسم لا محالة بحسب انقسام المدركات والحواس ، فلكل حاسة إدراك لنوع من المدركات ، ولكل واحد منها لذة في بعض المدركات وللطبع بسبب تلك اللذة ميل إليها فكانت محبوبات عند الطبع السليم فلذة العين في الإبصار وإدراك المبصرات الجميلة والصور المليحة الحسنة المستلذة ولذة الأذن في النغمات الطيبة الموزونة ولذة الشم في الروائح الطيبة ولذة الذوق في الطعوم ولذة اللمس في اللين والنعومة .

ولما كانت هذه المدركات بالحواس ملذة كانت محبوبة أي : كان للطبع السليم ميل إليها حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حبب إلي من دنياكم ثلاث ؛ الطيب والنساء وجعل قرة عيني في الصلاة فسمى الطيب محبوبا ، ومعلوم أنه لا حظ للعين والسمع فيه ، بل للشم فقط ، وسمى النساء محبوبات ولا حظ فيهن إلا للبصر واللمس دون الشم والذوق والسمع ، وسمى الصلاة قرة عين وجعلها أبلغ المحبوبات ومعلوم أنه ليس تحظى بها الحواس الخمس ، بل حس سادس مظنته القلب لا يدركه إلا من كان له قلب ولذات الحواس الخمس تشارك فيها البهائم الإنسان .

فإن كان الحب مقصورا على مدركات الحواس الخمس حتى يقال : إن الله تعالى لا يدرك بالحواس ولا يتمثل في الخيال فلا يحب فإذا قد بطلت خاصية الإنسان وما تميز به من الحس السادس الذي يعبر عنه إما بالعقل أو بالنور أو بالقلب ، أو بما شئت من العبارات فلا مشاحة فيه وهيهات فالبصيرة الباطنة أقوى من البصر الظاهر . والقلب أشد إدراكا من العين ، وجمال المعاني المدركة بالعقل أعظم من جمال الصور الظاهرة للأبصار ، فتكون لا محالة لذة القلب بما يدركه من الأمور الشريفة الإلهية التي تجل عن أن تدركها الحواس أتم وأبلغ فيكون ميل الطبع السليم والعقل الصحيح إليه أقوى ، ولا معنى للحب إلا الميل إلى ما في إدراكه لذة ، كما سيأتي تفصيله ، فلا ينكر إذا حب الله تعالى إلا من قعد به القصور في درجة البهائم فلم يجاوز إدراك الحواس أصلا .

التالي السابق


(ثم المدركات في انقسامها تنقسم إلى ما يوافق طبع المدرك ويلائمه ويلذه، وإلى ما ينافيه وينافره ويؤلمه، وإلى ما لا يؤثر فيه بإيلام وإلذاذ، فكل ما في إدراكه لذة وراحة فهو محبوب عند المدرك، وما في إدراكه ألم فهو مبغوض عند المدرك، وما يخلو عن استعقاب ألم ولذة فلا يوصف بكونه محبوبا ولا مكروها، فإذا كل لذيذ محبوب عند الملتذ به، ومعنى كونه محبوبا أن في الطبع ميلا إليه، ومعنى كونه مبغوضا أن في الطبع نفرة عنه، فالحب عبارة عن ميل الطبع إلى الشيء الملذ، فإن تأكد ذلك الميل وقوي سمي عشقا، والبغض عبارة عن نفرة الطبع عن المؤلم المتعب، فإذا قوي سمي مقتا) ، وهذا قد صرح به أئمة اللغة قالوا: العشق أشد الحب، والمقت أشد البغض، ثم إن العشق هو سابع مرتبة من مراتب الحب; إذ مراتب الحب عشرة: أولها: العلاقة ثم الإرادة ثم الصبابة ثم الغرام، وهو حب لازم للقلب ملازمة الغريم لغريمه ثم الود، وهو صفو المحبة وخالصها ولبها ثم الشغف، وهو وصول الحب إلى شغاف قلبه، وهو جلدة رقيقة على القلب ثم العشق، وهو الحب المفرط الذي يخاف على صاحبه منه، وبه فسر ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به، ثم التيم، وهو التذلل في الحب، ثم التعبد وهو فوق التيم، فإن العبد الذي ملك المحبوب رقه فلم يبق له شيء من نفسه البتة، بل كله لمحبوبه ظاهرا وباطنا والمرتبة الآخرة الخلة التي انفرد بها الخليلان إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم، وهي المحبة التي تخللت قلبه حتى لم يبق فيه موضع لغير محبوبه، (فهذا أصل في حقيقة معنى الحب لا بد من معرفته) ، وهو الأول (الأصل الثاني أن الحب لما كان تابعا للإدراك والمعرفة انقسم لا محالة بحسب انقسام المدركات والحواس، فلكل حاسة) من الحواس الخمس (إدراك لنوع من المدركات، ولكل واحد منها لذة في بعض المدركات) دون بعض (وللطبع بسبب تلك اللذة ميل إليها فكانت) تلك المدركات (محبوبات عند الطبع السليم) عن النقص (فلذة العين في الإبصار وإدراك المبصرات الجميلة والصور المليحة الحسنة المستلذة) ، فهي لا تكاد تفتر عن النظر إليها (ولذة الأذن في النغمات الطيبة الموزونة) والألحان المستملحة فلها تعشق في ذلك ولو كانت تلك النغمات من غير جميل الصورة، وقد تكون مع جمال الصورة فيلتذ كل من العين والبصر، ومن ذلك سماع محاسن الأوصاف من رجل لم يقع عليه البصر، وإليه الإشارة بقول القائل:

*والأذن تعشق قبل العين أحيانا *

(ولذة الشم في [ ص: 552 ] الروائح الطيبة) الزكية مثل المسك والعود والعنبر وأشباهها (ولذة الذوق في الطعوم) الطيبة (ولذة اللمس في اللين والنعومة، ولما كانت هذه المدركات بالحواس محبوبة أي: كان للطبع السليم ميل إليها حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حبب إلي من دنياكم ثلاث; الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة) رواه النسائي من طريق سلام أبي المنذر عن ثابت، عن أنس بلفظ: حبب إلي من الدنيا: النساء والطيب، وجعل قرة عيني في الصلاة، وليس فيه لفظ: ثلاث، ومن هذا الوجه أخرجه أحمد وأبو يعلى وأبو عوانة، والطبراني في الأوسط، والبيهقي في السنن وآخرون، وقد تقدم الكلام عليه في كتاب النكاح وكتاب ذم الدنيا، وهذا موضع ثالث، فقول السخاوي في المقاصد أنه رواه في الإحياء في موضعين قصور عن تصفح الكتاب (فسمى الطيب محبوبا، ومعلوم أنه لا حظ للعين والسمع فيه، بل للشم فقط، وسمى النساء محبوبا ولا حظ فيهن إلا للبصر واللمس دون الشم والذوق والسمع، وسمى الصلاة قرة عين وجعلها أبلغ المحبوبات) بدليل إفرادها في جملة مستقلة (ومعلوم أنه ليس تحظى بها الحواس الخمس، بل حس سادس) زائد على الخمس (مظنته القلب لا يدركه إلا من كان له قلب) ، وقد يكون الإنسان بلا قلب (ولذات الحواس الخمس تشارك فيها البهائم الإنسان) ، فإن لها إدراكا بها لكنه قاصر عليها، (فإن كان الحب مقصورا على مدركات الحواس الخمس حتى يقال: إن الله تعالى لا يدرك بالحواس ولا يتمثل في الخيال فلا يحب) ، كما زعمه المنكرون لمحبة العبد لله تعالى (فإذا قد بطل خاصية الإنسان وما يميز به من الحس السادس الذي يعبر عنه إما بالعقل أو بالنور أو بالقلب، أو بما شئت من العبارات فلا مشاحة فيها) أي: لا مضايقة، وهو مفاعلة من الشح، وقد فسر قوله تعالى: لمن كان له قلب تارة بالعقل، وتارة بالنور المنبسط في القلب، والأول أكثر، وبه يتميز عن درجة البهائم، فإنه به يكمل فعله; لأنه يدعو إلى أفعال مخالفة لمقتضى الشهوة والغضب بخلاف البهائم، ففي فعلها نقص لكونه مقصورا على مقتضاهما، كما أن في إدراكها نقصا (وهيهات فالبصيرة الباطنة أقوى من البصر الظاهر) ، فإنها هي القوة المنورة بنور القدس ترى حقائق الأشياء وبواطنها، وهي التي تسمى بالقوة القدسية، وأما البصر الظاهر فهو للنفس ترى به صور الأشياء وظواهرها (والقلب) المنور بالنور القدسي (أشد إدراكا من العين، وجمال المعاني المدركة بالعقل أعظم من جمال الصور الظاهرة للأبصار، فتكون لا محالة لذة القلب بما يدركه من الأمور الشريفة الإلهية التي تجل عن أن تدركها الحواس أتم وأبلغ فيكون ميل الطبع السليم والعقل الصحيح إليه أقوى، ولا معنى للحب إلا الميل إلى ما في إدراكه لذة، كما سيأتي تفصيله، فلا ينكر إذ أحب الله تعالى إلا من قعد به القصور في درجة البهائم فلا يجاوز إدراك الحواس أصلا) ، وقد أفصح المصنف عن هذا المقام في كتابه مشكاة الأنوار فقال: اعلم أن نور البصر موسوم بأنواع من النقصان، فإنه يبصر غيره ولا يبصر نفسه ولا يبصر ما بعد منه ولا ما قرب، ولا يبصر ما هو وراء حجاب، ويبصر من الأشياء ظاهرها دون باطنها، ويبصر من الموجودات بعضها دون كلها، ويبصر أشياء متناهية ولا يبصر ما لا نهاية له، ويغلط كثيرا في إبصاره فيرى الكبير صغيرا ويرى البعيد قريبا والساكن متحركا، والمتحرك ساكنا، فهذه سبع نقائض تفارق العين الظاهرة، وفي قلب الإنسان عين هذه صفة كمالها، وهي التي يعبر عنها تارة بالعقل وتارة بالروح وتارة بالنفس الإنساني، ودع عنك هذه العبارات، فإنها إذا كثرت أوهمت عند الضعيف البصيرة كثرة المعاني، فنعني به المعنى الذي يتميز به العاقل عن الطفل الرضيع وعن البهيمة وعن المجنون، وتسميه عقلا متابعة للجمهور في الاصطلاح فنقول: العقل أولى بأن يسمى نورا من العين الظاهرة لرفعة قدره عن النقائض السبع، أما الأولى فهو أن العين لا تبصر نفسها والعقل يدرك غيره، ويدرك نفسه ويدرك صفات نفسه، ويدرك علم نفسه، بل علمه بعلمه بعلم نفسه إلى غير نهاية وهذه خاصية لا تتصور لما يدرك بآلة الأجسام الثانية أن العين لا تبصر ما بعد منها ولا ما قرب قربا [ ص: 553 ] مفرطا، والعقل يستوي عنده القريب والبعيد ويعرج في طرفه إلى أعلى السماوات رقيا وينزل في لحظة إلى تخوم الأرضين هويا . الثالثة أن العين لا تدرك إلا ما ليس وراء الحجاب، والعقل يتصرف فيما وراء حجب السماوات وفي الملأ الأعلى كتصرفه في عالمه الخاص به بل الحقائق لا تحجب عن العقل، وإنما حجاب العقل حيث يحجب من نفسه لنفسه بسبب صفات بين مقاربة له تضاهي لحجاب العين من نفسه عند تغميض الأجفان .

الرابعة: أن العين تدرك من الأشياء ظاهرها وسطحها الأعلى دون باطنها، بل قوالبها وصورها دون حقائقها، والعقل يتغلغل إلى بواطن الأشياء وأسرارها ويدرك حقائقها وأرواحها ويستنبط سببها وعلمها وحكمتها وأنها مم حدثت؟ وكيف خلقت؟ ولم خلقت؟ وعلى أي مرتبة في الوجود نزل؟ وما نسبته إلى سائر مخلوقاته؟

الخامسة: أن العين تبصر بعض الموجودات; إذ تقصر عن جميع المعقولات وعن كثير من المحسوسات، ولا تدرك الأصوات ولا الروائح ولا الطعوم والحرارة والبرودة والقوى المدركة أعني قوة السمع والبصر والشم والذوق، بل الصفات الباطنة النفسانية كالفرح والسرور والغم والحزن والألم واللذة والعشق والشهوة والقدرة والإرادة والعلم إلى غير ذلك من موجودات لا تحصى، فهو ضيق المجال منحصر المجرى لا تسعه مجاوزة عالم الألوان والأشكال، وهما أخس الموجودات، فإن الأجسام في أصلها أخس أقسام الموجودات، والألوان والأشكال من أخس أعراضها، والموجودات كلها مجال للعقل فيتصرف في جميعها، ويحكم عليها حكما يقينيا صادقا، فالأسرار الباطنة عنده ظاهرة والمعاني الخفية عنده جلية، فمن أين للعين الظاهرة مجاراته ومساواته .

السادسة: أن العين لا تبصر ما لا نهاية له فإنها تبصر صفات الأجسام، والأجسام لا تتصور إلا متناهية، والعقل يدرك المعقولات، والمعقولات لا تتصور أن تكون متناهية، بل يدرك علمه بالشيء وعلمه بعلمه بالشيء فقوته في هذا الوجه لا تقف عند نهاية .

السابعة: أن العين تبصر الكبير صغيرا فترى الشمس في مقدار صحن، والكواكب في صور دنانير منثورة على بساط أزرق، والعقل يدرك أن الكواكب والشمس أكبر من الأرض أضعافا مضاعفة وترى الكواكب ساكنة، بل ترى الظل بين يديه ساكنا وترى الصبي ساكنا في مقداره، والعقل يدرك أن الصبي في النمو والتزايد على الدوام، والظل متحرك دائما والكواكب تتحرك في لحظة أميالا كثيرة وأنواع غلط البصر كثيرة، والعقل منزه عنها، فإن قلت: نرى العقلاء يغلطون في نظرهم، فاعلم أن فيهم خيالات وأوهاما واعتقادات يظنون أن أحكامها أحكام العقل، فالغلط منسوب إليها، فأما العقل إذا تجرد عن غشاوة الوهم والخيال لم يتصور أن يغلط، بل يرى الأشياء على ما هي عليه، انتهى المقصود منه .




الخدمات العلمية