الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بيان طريق كشف الغطاء عن الشكر في حق الله تعالى .

لعل يخطر ببالك أن الشكر إنما يفعل في حق منعم هو صاحب حظ في الشكر فإنا نشكر الملوك إما بالثناء ليزيد محلهم في القلوب ويظهر كرمهم عند الناس فيزيد به صيتهم وجاههم أو بالخدمة التي هي إعانة لهم على بعض أغراضهم أو بالمثول بين أيديهم في صورة الخدم ، وذلك تكثير لسوادهم وسبب لزيادة جاههم فلا يكونون شاكرين لهم إلا بشيء من ذلك ، وهذا محال في حق الله تعالى من وجهين أحدهما أن الله تعالى منزه عن الحظوظ والأغراض ، مقدس عن الحاجة إلى الخدمة والإعانة ، وعن نشر الجاه والحشمة بالثناء والإطراء وعن تكثير سواد الخدم بالمثول بين يديه ركعا سجدا ، فشكرنا إياه بما لا حظ فيه يضاهي شكرنا الملك المنعم علينا بأن ننام في بيوتنا أو نسجد أو نركع إذ لا حظ للملك فيه وهو غائب لا علم له ، ولا حظ لله تعالى في أفعالنا كلها الوجه الثاني أن كل ما نتعاطاه باختيارنا فهو نعمة أخرى من نعم الله علينا ، إذ جوارحنا وقدرتنا وإرادتنا وداعيتنا وسائر الأمور التي هي أسباب حركتنا ، ونفس حركتنا من خلق الله تعالى ونعمته ، فكيف نشكر نعمة بنعمة ، ولو أعطانا الملك مركوبا فأخذنا مركوبا آخر له وركبناه أو أعطانا الملك ، مركوبا آخر ، لم يكن الثاني شكرا للأول منا ، بل كان الثاني يحتاج إلى شكر كما يحتاج الأول ، ثم لا يمكن شكر الشكر إلا بنعمة أخرى فيؤدي إلى أن يكون الشكر محالا في حق الله تعالى من هذين الوجهين ولسنا نشك في الأمرين جميعا ، والشرع قد ورد به فكيف السبيل إلى الجمع ؟ فاعلم أن هذا الخاطر قد خطر لداود عليه السلام ، وكذلك لموسى عليه السلام ، فقال : يا رب كيف أشكرك وأنا لا أستطيع أن أشكرك إلا بنعمة ثانية من نعمك ؟ وفي لفظ آخر وشكري لك : نعمة أخرى منك توجب علي الشكر لك ؟ فأوحى الله تعالى إليه : إذا عرفت هذا فقد شكرتني ، وفي خبر آخر : إذا عرفت أن النعمة مني رضيت منك بذلك شكرا .

فإن قلت فقد فهمت السؤال : وفهمي قاصر عن إدراك معنى ما أوحي إليهم فإني أعلم استحالة الشكر لله تعالى ، فأما كون العلم باستحالة الشكر شكرا فلا أفهمه ، فإن هذا العلم أيضا نعمة منه فكيف صار شكرا وكأن ، الحاصل يرجع إلى أن من لم يشكر فقد شكر وأن قبول الخلعة الثانية من الملك شكر للخلعة الأولى ، والفهم قاصر عن درك السر فيه فإن أمكن تعريف ذلك بمثال فهو مهم في نفسه ، فاعلم أن هذا قرع باب من المعارف وهي أعلى من علوم المعاملة ولكنا نشير منها إلى ملامح ونقول ههنا نظران نظر بعين التوحيد المحض ، وهذا النظر يعرفك قطعا أنه الشاكر وأنه المشكور وأنه المحب وأنه المحبوب وهذا نظر من عرف أنه ليس في الوجود غيره ، وأن كل شيء هالك إلا وجهه ، وأن ذلك صدق في كل حال أزلا وأبدا لأن الغير هو الذي يتصور أن يكون له بنفسه قوام ، ومثل هذا الغير لا وجود له بل هو محال أن يوجد إذ الموجود المحقق هو القائم بنفسه وما ليس له بنفسه قوام فليس له بنفسه وجود ، بل هو قائم بغيره فهو موجود بغيره ، فإن اعتبر ذاته ولم يلتفت إلى غيره لم يكن له وجود البتة ، وإنما الموجود هو القائم بنفسه والقائم بنفسه هو الذي لو قدر عدم غيره بقي موجودا ، فإن كان مع قيامه بنفسه يقوم بوجوده وجود غيره فهو قيوم .

التالي السابق


(بيان طريق كشف الغطاء عن الشكر في حق الله تعالى)

اعلم أنه (لعلك يخطر ببالك) ويسبق إلى ذهنك (أن الشكر إنما يعقل في حق منعم هو صاحب حظ في الشكر) ينتفع به (فإنا نشكر الملوك إما بالثناء ليزيد محلهم في القلوب ويظهر كرمهم عند الناس فنريد به صيتهم وجاههم أو بالخدمة التي هي إعانة لهم على بعض أغراضهم أو بالمثول بين أيديهم في صورة الخدم، وذلك تكثير لسوادهم) أي: جماعتهم (وسبب لزيادة جاههم فلا نكون شاكرين لهم إلا بشيء من ذلك، وهذا محال في حق الله تعالى من وجهين أحدهما أن الله تعالى منزه عن الحظوظ والأغراض، مقدس عن الحاجة إلى الخدمة والإعانة، وعن نشر الجاه والحشمة بالثناء والإطراء) في المدح، (ومن تكثير سواد الخدم بالمثول بين يديه راكعا وساجدا، فشكرنا إياه بما لا حظ فيه يضاهي شكرنا الملك المنعم بأن ننام في بيوتنا أو نسجد أو نركع إذ لا حظ للملك فيه، ولا حظ لله تعالى في أعمالنا كلها) لغناه عنها .

(والوجه الثاني أن كل ما نتعاطاه باختيارنا فهو نعمة أخرى من نعم الله علينا، إذ جوارحنا وقدرتنا وإرادتنا ودواعينا وسائر الأمور التي هي أسباب حركتنا، ونفس حركتنا من خلق الله تعالى ونعمته، فكيف نشكر نعمة بنعمة، ولو أعطانا الملك مركوبا فأخذنا مركوبا آخر له وركبناه، وأعطانا مركوبا آخر، لم يكن الثاني شكرا للأول منا، بل كان الثاني يحتاج إلى شكر كما يحتاج الأول، ثم لا يمكن شكر الشكر إلا بنعمة أخرى فيؤدي إلى أن يكون الشكر محالا في حق الله تعالى من هذين الوجهين) . أما الوجه الأول فظاهر، وأما الثاني فلأنه يستلزم أن لا يتناهى، (ولسنا نشك في الأمرين جميعا، والشرع قد ورد به) فإنه قد ثبت كل من تقديس الله تعالى عن الحظوظ والأغراض وتنزيهه عن الاحتياج إلى الإعانة وتكثير السواد، وأن جميع حركاتنا وسكناتنا من خلق الله تعالى ومن نعمه علينا .

(فكيف السبيل إلى الجمع؟ فاعلم أن هذا الخاطر قد خطر لداود عليه السلام، وكذلك لموسى عليه السلام، فقال: يا رب أشكرك وأنا لا أستطيع أن أشكرك إلا بنعمة ثانية من نعمك؟) وفي القوت: وفي أخبار موسى وداود عليهما السلام: يا رب كيف أشكرك وأنا لا أستطيع شكرك إلا بنعمة ثانية من نعمك؟ (وفي لفظ آخر: وشكرك نعمة أخرى منك توجب علي الشكر لك؟ فأوحى الله تعالى إليه: إذا عرفت هذا فقد شكرتني، وفي لفظ آخر: إذا عرفت أن النعم مني) فقد (رضيت منك بذلك شكرا) هذا كله لفظ القوت، ولفظ الرسالة وقيل: قال داود عليه السلام: إلهي كيف أشكرك وشكري لك نعمة من عندك توجب شكرا؟ فأوحى الله إليه: الآن قد شكرتني .

(فإن قلت فقد فهمت السؤال) أي: سؤال موسى عليه السلام (وفهمي قاصر عن إدراك معنى ما أوحي) إليهم جوابا لسؤالهم، (فإني أعلم استحالة الشكر لله تعالى، فأما كون العلم باستحالة الشكر شكرا فلا أفهمه، فإن هذا العلم أيضا نعمة منه فكيف صار شكرا، أو كان الحاصل يرجع إلى أن من لم يشكر فقد شكر) وهو غير ظاهر (وأن قبول الخلعة الثانية [ ص: 56 ] من الملك شكر للخلعة الأولى، والفهم قاصر عن درك السر فيه) لدقته وغموضه، (فإن أمكن تعريف ذلك بمثال فهو مهم في نفسه، فاعلم أن هذا قرع باب من) أبواب (المعارف) الذوقية (وهي أعلى علوم المعاملة) لتعلقها بعالم الغيب، ولا يليق بكشف أسرارها (ولكنا نشير إلى ملامح) وإشارات (ونقول ههنا نظران نظر بعين التوحيد المحض، وهذا النظر يعرفك قطعا أنه الشاكر وأنه المشكور) ، فأما كونه المشكور فظاهر، وأما كونه الشاكر فإنه هو الموفق لعبيده لأن يشكروا، وهو الذي ألهم على ألسنتهم وقلوبهم الثناء له، فبهذا الاعتبار يسمى شاكرا، (فإنه المحب وإنه المحبوب) كما يشير لذلك قوله تعالى: يحبهم ويحبونه .

(وهذا نظر من عرف أنه ليس في الوجود غيره، وأن كل شيء هالك إلا وجهه، وأن ذلك صدق في كل حال أزلا وأبدا) ، وهذا النظر لمن ترقى من حضيض المجاز إلى ذروة الحقيقة، واستكمل معراجه فرأى بالمشاهدة العيانية أن ليس في الوجود إلا الله، وأن كل شيء هالك إلا وجهه، لا أنه يصير هالكا في وقت من الأوقات بل هو هالك أزلا وأبدا لا يتصور إلا كذلك (لأن الغير هو الذي يتصور أن يكون له بنفسه قوام، ومثل هذا الغير) إن اعتبر في ذاته من حيث ذاته (فلا وجود له بل هو) عدم محض و (محال أن يوجد) ، وإذا اعتبر من الوجه الذي يسري إليه الوجود من الأول رؤي موجود إلا في ذاته لكن من الوجه الذي يلي موجوده فيكون الموجود وجه الله فقط، ولكل شيء وجهان وجه إلى نفسه، ووجه إلى ربه، فهو باعتبار وجه نفسه عدم، وباعتبار وجه الله موجود، فإذا لا موجود إلا الله ووجهه، فإذا كل شيء هالك إلا وجهه أزلا وأبدا، وقد أشار إليه المصنف بقوله: (إذ الموجود المحقق هو القائم بنفسه) أو بذاته، (وما ليس له بنفسه قوام فليس له بنفسه وجود، بل هو قائم بغيره فهو موجود بغيره، فإن اعتبر ذاته ولم يلتفت إلى غيره لم يكن له وجود البتة، وإنما الموجود هو القائم بنفسه هو الذي لو قدر عدم غيره يعني موجودا، فإن كان مع قيامه بنفسه يقوم بوجوده ووجود غيره فهو قيوم) .

وبيان ذلك أن الأشياء تنقسم إلى ما لا يقوم بنفسه ويفتقر إلى محل، كالأعراض والأوصاف، فيقال فيهما: إنها ليست قائمة بأنفسها وإلى ما لا يحتاج إلى محل فيقال قائم بنفسه كالجواهر، إلا أن الجوهر وإن استغنى عن محل يقوم به فليس مستغنيا عن أمور لابد منها لوجوده، ويكون شرطا في وجوده، فلا يكون قائما بنفسه، لأنه محتاج في قوامه إلى وجود غيره، وإن لم يحتج مع ذلك إلى محل، فإن كان موجودا يكفي ذاته بذاته ولا قوام له بغيره، ولا يشترط في دوام وجوده وجود غيره، فهو القائم بنفسه مطلقا، فإن كان مع ذلك يقوم به كل موجود حتى لا يتصور للأشياء وجود ولا دوام وجود إلا به فهو القيوم لأن قوامه بذاته وقوام كل شيء به .




الخدمات العلمية