الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وعن أبي سعيد الخدري عن النبي : صلى الله عليه وسلم أنه : قال : لقد كان الأنبياء قبلي يبتلى أحدهم بالفقر فلا يلبس إلا العباءة ، وإن كان أحدهم ليبتلى بالقمل حتى يقتله القمل وكان ذلك أحب إليهم من العطاء إليكم .

وعن ابن عباس عن النبي : صلى الله عليه وسلم : قال : لما ورد موسى عليه السلام ماء مدين كانت خضرة البقل ترى في بطنه من الهزال فهذا ما كان قد اختاره أنبياء الله ورسله وهم أعرف خلق الله بالله وبطريق الفوز في الآخرة .

وفي حديث عمر رضي الله عنه أنه قال لما نزل قوله تعالى : والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله قال : صلى الله عليه وسلم : تبا للدنيا تبا للدينار والدرهم ، فقلنا يا رسول الله : نهانا الله عن كنز الذهب والفضة فأي شيء ندخر ، فقال : صلى الله عليه وسلم : ليتخذ أحدكم لسانا ذاكرا وقلبا شاكرا أو زوجة صالحة تعينه على أمر آخرته .

وفي حديث حذيفة رضي الله عنه عن رسول الله : صلى الله عليه وسلم من آثر الدنيا على الآخرة ابتلاه الله بثلاث : هما لا يفارق قلبه أبدا ، وفقرا لا يستغنى أبدا ، وحرصا لا يشبع أبدا .

وقال النبي : صلى الله عليه وسلم لا يستكمل العبد الإيمان حتى يكون أن لا يعرف أحب إليه من أن يعرف ، وحتى يكون قلة الشيء أحب إليه من كثرته .

وقال المسيح صلى الله عليه وسلم : الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها وقيل له : يا نبي الله ، لو أمرتنا أن نبني بيتا نعبد الله فيه ، قال : اذهبوا فابنوا بيتا على الماء ، فقالوا كيف : يستقيم بنيان على الماء ؟ قال : وكيف تستقيم عبادة مع حب الدنيا .

؟ وقال نبينا : صلى الله عليه وسلم : إن ربي عز وجل عرض علي أن يجعل لي بطحاء مكة ذهبا فقلت : لا يا رب ، ولكن أجوع يوما وأشبع يوما ، فأما اليوم الذي أجوع فيه فأتضرع إليك وأدعوك ، وأما اليوم الذي أشبع فيه فأحمدك وأثني عليك .

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : خرج رسول الله : صلى الله عليه وسلم ذات يوم يمشي وجبريل معه فصعد على الصفا فقال له النبي : صلى الله عليه وسلم يا جبريل : والذي بعثك بالحق ما أمسى لآل محمد كف سويق ولا سفة دقيق ، فلم يكن أسرع من أن سمع هدة من السماء أفظعته ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمر الله القيامة أن تقوم ؟ قال : لا ، ولكن هذا إسرافيل عليه السلام : قد نزل إليك حين سمع كلامك فأتاه إسرافيل فقال : إن الله : عز وجل : سمع ما ذكرت فبعثني بمفاتيح الأرض وأمرني أن أعرض عليك إن أحببت أن أسير معك جبال تهامة زمردا وياقوتا وذهبا وفضة فعلت ، وإن شئت نبيا ملكا ، وإن شئت نبيا عبدا .

فأومأ إليه جبريل أن تواضع لله ، فقال نبيا عبدا ثلاثا
.

وقال صلى الله عليه وسلم : لرجل إذا أراد الله بعبد خيرا زهده في الدنيا ورغبه في الآخرة وبصره بعيوب نفسه : وقال : صلى الله عليه وسلم لرجل : ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس .

وقال : صلى الله عليه وسلم : من أراد أن يؤتيه الله علما بغير تعلم وهدى بغير هداية فليزهد في الدنيا وقال : صلى الله عليه وسلم : من اشتاق إلى الجنة سارع إلى الخيرات ، ومن خاف من النار لها عن الشهوات ، ومن ترقب الموت ترك اللذات ، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات .

ويروى عن نبينا وعن المسيح عليهما السلام : أربع لا يدركن إلا بتعب : الصمت ، وهو أول العبادة ، والتواضع ، وكثرة الذكر ، وقلة الشيء وإيراد جميع الأخبار الواردة في مدح بغض الدنيا وذم حبها لا يمكن فإن الأنبياء ما بعثوا إلا لصرف الناس عن الدنيا إلى الآخرة وإليه ، يرجع أكثر كلامهم مع الخلق وفيما أوردناه كفاية والله المستعان .

التالي السابق


(وعن أبي سعيد الخدري) - رضي الله عنه - (عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لقد كان الأنبياء قبلي يبتلى أحدهم بالفقر فلا يلبس إلا العباء، وإن كان أحدهم ليبتلى بالقمل حتى يقتله القمل وكان أحب إليهم من العطاء إليكم) قال العراقي: رواه ابن ماجه بإسناد صحيح في أثناء حديث أوله: دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يوعك. الحديث دون قوله: وإن كان أحدهم ليبتلى بالقمل. اهـ .

قلت: وروى أحمد بإسناد صحيح: إن كان النبي من أنبياء الله ليعرى حتى ما يجد ما يواري به عورته إلا العباءة يدرعها (وعن ابن عباس) - رضي الله عنه - (عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لما ورد موسى - عليه السلام - ماء مدين كانت خضرة البقل ترى في بطنه من الهزال) أي: كان غالب طعامه من بذور الأرض زهدا في الدنيا حتى ترى خضرتها في جلدة بطنه (فهذا ما كان اختاره أنبياء الله ورسله وهم أعرف خلق الله بالله وبطريق الفوز في الآخرة) فيقتضي أن ما اختاروه هو أعلى الدرجات وأفضل المقامات .

(وفي حديث عمر - رضي الله عنه - أنه لما نزل قوله تعالى: والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله تعالى قال - صلى الله عليه وسلم -: تبا للدنيا تبا للدينار والدرهم، فقلنا: نهانا الله عن كنز الذهب والفضة فأي شيء ندخر، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ليتخذ أحدكم لسانا ذاكرا وقلبا شاكرا وزوجة صالحة تعينه على أمر آخرته) رواه الترمذي وابن ماجه دون قوله: تبا للدينار والدرهم. وتقدم في النكاح وفي ذم الدنيا. قال العراقي: وهو من حديث ثوبان وإنما قال المصنف: إنه حديث عمر; لأن عمر هو الذي سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أي المال نتخذ؟ كما في رواية ابن ماجه، وكما رواه البزار من حديث ابن عباس.

(وفي حديث حذيفة) بن اليمان - رضي الله عنه - (عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) قال: (من آثر الدنيا على الآخرة ابتلاه الله بثلاث: هما لا يفارق قلبه أبدا، وفقرا لا يستغني به أبدا، وحرصا لا يشبع أبدا) هكذا هو في القوت، وقال العراقي: لم أجده من حديث حذيفة، وللطبراني من حديث ابن مسعود بسند حسن: من أشرب قلبه حب الدنيا التاط منها بثلاث: شقاء لا ينفد عناه، وحرص لا يبلغ غناه، وأمل لا يبلغ منتهاه. وفي آخره زيادة. انتهى .

قلت: وتلك الزيادة: فالدنيا طالبة ومطلوبة، فمن طلب الدنيا طلبته الآخرة حتى يأتيه الموت فيأخذه، ومن طلب الآخرة طلبته الدنيا حتى يستوفي منها رزقه. رواه كذلك أبو نعيم في الحلية من طريقه، ورواه ابن عساكر عن شعيب بن صالح قال عيسى ابن مريم - عليه السلام -: والله ما سكنت الدنيا في قلب عبد إلا التاط قلبه منها بثلاث: شغل لا ينفك عناه، وفقر لا يدرك غناه، وأمل لا يبلغ منتهاه، ثم ساقه بتلك الزيادة .

(وقال - صلى الله عليه وسلم - لا يستكمل العبد الإيمان حتى يكون أن لا يعرف أحب إليه من أن يعرف، وحتى يكون قلة الشيء أحب إليه من كثرته) ، قال صاحب القوت: رويناه مرسلا عن علي بن معبد عن علي بن أبي طلحة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فساقه قال العراقي: لم أجد له إسنادا، وذكره صاحب الفردوس، ومن رواية علي بن أبي طلحة مرسلا: لا يستكمل عبد الإيمان حتى يكون قلة الشيء أحب إليه من كثرته وحتى يكون أن يعرف في ذات الله أحب إليه من أن يعرف في غير ذات الله. ولم يخرجه ولده في مسنده، وعن علي بن أبي طلحة أخرج له مسلم، وروي عن ابن عباس، لكن روايته عنه مرسلة، والحديث إذا معضل .

(وقال المسيح - عليه السلام -: الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها) هذا قد رواه صاحب الفردوس من حديث ابن عمر إلا أنه قال: قنطرة الآخرة ولم يذكر له سندا، وأما قول عيسى - عليه السلام - فأخرجه أبو نعيم في الحلية في ترجمة وهيب قال: بلغني أن عيسى - عليه السلام - قال قبل أن يرفع: يا معشر الحواريين، إني قد كببت لكم الدنيا فلا تنعشوها بعدي، فإنه لا خير في دار قد عصي الله فيها، ولا خير في دار [ ص: 333 ] لا تدرك الآخرة إلا بتركها فاعبروها ولا تعمروها، وأخرجه ابن عساكر عن يحيى بن سعيد قال: كان عيسى - عليه السلام - يقول: اعبروا الدنيا ولا تعمروها. وهو في القوت بلفظ: الدنيا قنطرة يعبر عليها إلى الآخرة والباقي سواء .

(وقيل له: يا نبي الله، لو أمرتنا أن نبني بيتا نعبد الله فيه، قال: اذهبوا فابنوا بيتا على الماء، فقالوا: وكيف يستقيم بنيان على الماء؟ قال: وكيف تستقيم عبادة على حب الدنيا؟) قال صاحب القوت: ورويناه بمعنى آخر: قالوا: إنا نريد أن نبني بيتا نجتمع فيه نتعبد ونتدارس فاختر لنا موضعا نبني فيه، فقال: تعالوا فمشوا معه فوقف على قنطرة فقال: ابنوا ههنا، فقالوا: نبني على قنطرة وهي مدرجة للناس لا يدعونا فيها؟ فقال: كذلك الدنيا مدرجة الموتى وأنتم تبنون عليها ولا يدعونكم فيها. انتهى. وروى أحمد في الزهد عن سفيان الثوري، قيل لعيسى - عليه السلام -: ألا تبني بيتا؟ قال: أبني على طريق السبيل؟.

(وقال نبينا - صلى الله عليه وسلم -: إن ربي عرض علي أن يجعل لي بطحاء مكة ذهبا، قلت: لا يا رب، ولكن أجوع يوما وأشبع يوما، فأما اليوم الذي أجوع فيه فأتضرع إليك وأدعوك، وأما اليوم الذي أشبع فيه فأحمدك وأثني عليك) رواه أحمد والترمذي وابن سعد والطبراني والبيهقي من حديث أبي أمامة، وقد تقدم في كتاب رياضة النفس وتهذيب الأخلاق، وفي القوت: والفقر اختيار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن حسن اختيار الله لما خيره من أن يجري له الأودية مالا ويجعل له ذهبا وفضة ولا ينقصه ذلك من درجته عند الله شيئا، فاختار بحسن توفيق الله وعصمته له الأحب إلى الله، والأخير عند الله، إذ قد ضمن له إن أعطاه لا ينقصه فلم يبق إلا محبة الله، فكانت آثر عنده من ترك نقيضه، فقال: لا حاجة لي بذلك بل أجوع يوما وأشبع يوما، أحمدك إذا شبعت وأتضرع إليك إذا جعت .

(وعن ابن عباس) - رضي الله عنه - (قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم يمشي وجبريل معه فصعد على الصفا فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: والذي بعثك بالحق ما أمسى لآل محمد كف سويق ولا سفة دقيق، فلم يكن كلامه بأسرع من أن سمع هدة من السماء أفظعته، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أمر الله القيامة أن تقوم؟ قال: لا، ولكن هذا إسرافيل - عليه السلام - قد نزل إليك حين سمع كلامك فأتاه إسرافيل فقال: إن الله - عز وجل - سمع ما ذكرت فبعثني بمفاتيح الأرض وأمرني أن أعرض عليك إن أحببت أن تسير معك جبال تهامة زمردا وياقوتا وذهبا وفضة، وإن شئت نبيا ملكا، وإن شئت نبيا عبدا) ، فرفع رأسه إلى جبريل كأنه يستشيره (فأوحى إليه جبريل أن تواضع لله، فقال) : بل (نبيا عبدا ثلاثا) قد تقدم في ذم الكبر مختصرا .

(وقال - صلى الله عليه وسلم -: إذا أراد الله بعبد خيرا زهده في الدنيا ورغبه في الآخرة وبصره بعيوب نفسه) ، قال العراقي: رواه الديلمي في مسند الفردوس من حديث أنس دون قوله: ورغبه في الآخرة، وزاد: فقهه في الدين. وإسناده ضعيف جدا. انتهى .

قلت: لفظ الديلمي: إذا أراد الله بعبد خيرا فقهه في الدين وزهده في الدنيا وبصره عيوبه، ورواه كذلك البيهقي في الشعب، ورواه البيهقي أيضا عن محمد بن كعب القرظي مرسلا .

(وقال - صلى الله عليه وسلم -: ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس) رواه ابن ماجه والطبراني والحاكم والبيهقي من حديث سهل بن سعد، ورواه ابن عساكر من حديث ابن عمرو، وقد تقدم، وروى أبو نعيم في الحلية من حديث أنس: ازهد في الدنيا يحبك الله وأما الناس فانبذ إليهم هذا فيحبونك، وقد تقدم أيضا .

(وقال - صلى الله عليه وسلم -: من أراد أن يؤتيه الله علما بغير تعلم وهدى بغير هداية فليزهد في الدنيا) قال العراقي: لم أجد له أصلا قلت: بل له أصل، أخرجه أبو نعيم في الحلية من حديث علي بلفظ: من زهد في الدنيا علمه الله بلا تعلم، وهداه بلا هداية وجعله بصيرا وكشف عنه العمى، قال: حدثنا أبو ذر محمد بن الحسين بن يوسف الوراق، حدثنا محمد بن الحسين بن حفص، حدثنا علي بن حفص العبسي، حدثنا نصير بن حمزة عن أبيه عن جعفر بن محمد بن محمد بن علي بن الحسين عن الحسين بن علي عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله [ ص: 334 ] - صلى الله عليه وسلم - فساقه. (وقال - صلى الله عليه وسلم -: من اشتاق إلى الجنة سارع إلى الخيرات، ومن خاف من النار لها عن الشهوات، ومن ترقب الموت ترك اللذات، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات) .

قال العراقي: رواه ابن حبان في الضعفاء من حديث علي انتهى، قلت: وكذلك البيهقي وتمام، وابن عساكر، وابن النجار مرفوعا من حديثه، وأما صاحب الحلية فأورده من طريق خلاس بن عمرو عنه مرفوعا بلفظ: وللصبر أربع شعب: الشوق والشفقة والزهادة والترقب، فمن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات، ومن أشفق من النار رجع عن المحرمات، ومن زهد في الدنيا تهاون بالمصيبات، ومن ارتقب الموت سارع في الخيرات، قال: ورواه كذلك الأصبغ بن نباتة عن علي مرفوعا، ورواه الحارث عن علي موقوفا مختصرا، ورواه قبيصة عن جابر عن علي من قوله، ورواه العلاء بن عبد الرحمن عن علي من قوله .

(ويروى عن نبينا وعن المسيح - صلى الله عليهما وسلم -: أربع لا يدركن إلا بعجب: الصمت، وهو أول العبادة، والتواضع، وكثرة الذكر، وقلة الشيء) قال العراقي: رواه الطبراني والحاكم من حديث أنس، وقد تقدم. انتهى .

قلت: ذكر في كتاب الصمت، ورواه البيهقي أيضا وصححه الحاكم وتعقب، ورواه ابن عساكر عن أنس مرفوعا ويروى: لا يصبن إلا بعجب، وفي رواية، "وذكر الله" بدل "وكثرة الذكر"، وأما قول عيسى - عليه السلام - فرواه ابن أبي الدنيا في الصمت (وإيراد جميع الأخبار الواردة في بغض الدنيا وذم حبها لا يمكن) لكثرتها (فإن الأنبياء) - عليهم السلام - (ما بعثوا إلا لصرف وجوه الناس عن) حب (الدنيا إلى) حب (الآخرة، فإليه يرجع أكثر كلامهم مع الخلق) ، لمن تتبع السياق. (وفيما أوردناه كفاية والله المستعان) .




الخدمات العلمية