الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ويتفرع عن هذه العلامات علامات أخرى لا محالة مثل أن يترك الدنيا ولا يبالي من أخذها .

وقيل : علامته أن يترك الدنيا كما هي فلا يقول : أبني رباطا أو أعمر مسجدا .

وقال يحيى بن معاذ علامة الزهد السخاء بالموجود .

وقال ابن خفيف علامته وجود الراحة في الخروج من الملك وقال أيضا : الزهد هو عزوف النفس عن الدنيا بلا تكلف .

وقال أبو سليمان الصوف علم من أعلام الزهد فلا ينبغي أن يلبس صوفا بثلاثة دراهم وفي قلبه رغبة خمسة دراهم .

وقال أحمد بن حنبل وسفيان رحمهما الله علامة الزهد قصر الأمل وقال سري لا يطيب عيش الزاهد إذا اشتغل عن نفسه ولا يطيب عيش العارف إذا اشتغل بنفسه .

وقال النصراباذي الزاهد غريب في الدنيا والعارف غريب في الآخرة .

وقال يحيى بن معاذ علامة الزهد ثلاث عمل بلا علاقة .

التالي السابق


(وتتفرع عن هذه العلامات علامات أخر لا محالة مثل أن يترك الدنيا ولا يبالي من أخذها) أي: لا يكترث نقله القشيري عن أبي عثمان المغربي وجعله حدا للزهد، وهو من علاماته (وقيل: علامته أن يترك الدنيا كما هي) وليس من علاماته خلو اليد من المال; لأنه قد يمسكه لغرض ديني، وقيل: لا يستحب ذلك (فلا يقول: أبني) بها (رباطا أو أعمر) بها (مسجدا) أو نحوه مما ترتاح النفس إليه من حب الثناء عليها به نقله القشيري قال سمعت: أبا علي الدقاق يقول ذلك وقد جعله حدا للزهد، وهو من علاماته .

وبالجملة فشرط الزاهد أن لا يكون بقلبه التفات للدنيا إذا [ ص: 375 ] أعرض عنها، وقال محمد بن إسحاق الصوفي: والصحيح عندي إذا وجد في نفسه هذه العلامات فليخرج الدنيا إلى الأحوج والأولى، فإن لم يوجد ذلك وعلم وجود الأفضل والمحتاج في ثاني الحال فلا يضره إبقاء المال في يده حتى يجد موضعه .

وإياك أن تغتر بهذا قبل وجدان العلامات فيهلكك سم المال قبل أن تنتفع بدرياقه، نعم إلا أن يكون متبوعا يخاف من اقتداء الغير به فيتركها في الوقت تأسيا بالأنبياء - عليهم السلام - فافهم ذلك .

(وقال) أبو زكريا (يحيى بن معاذ) الرازي - رحمه الله تعالى - (علامة الزهد السخاء بالموجود) وقال مرة: الزهد يورث السخاء بالملك والحب يورث السخاء بالروح، نقله القشيري فالزاهد لا كلفة عليه في بذل الموجود وإن جل والمحب يسهل عليه بذل روحه لله وشتان بين المقامين .

(وقال) أبو عبد الله محمد (بن خفيف) الشيرازي المعروف بالشيخ الكبير وهو رئيس الطريقة البكرية (علامة الزهد وجود الراحة في الخروج من الملك) نقله القشيري، ولعله بما يلحق القلب عند وجوده من التشويش في حفظه ومن خوفه على قلبه من تعلقه به وكيف يصرفه (وقال أيضا: الزهد هو عزوف النفس) أي: انصرافها (عن الدنيا بلا تكلف) فيه; لأن قلبه امتلأ بصغر قدرها وما يترتب عليها من ضررها بخلاف المتزهد فإنه يتكلف للإعراض عنها، فقوله: بلا تكلف إشارة إلى الفرق بين الزاهد والمتزهد ثم إن هذا القول الذي عزاه المصنف لابن خفيف قد عزاه القشيري لغيره وهذا لفظه بعد أن ذكر قوله الأول، وقال أيضا: الزهد سلو القلب عن الأسباب ونفض الأيدي من الأملاك، وقيل: الزهد عزوف النفس عن الدنيا بلا تكلف ولعل في سياق المصنف سقطا فتأمل .

(وقال أبو سليمان) الداراني - رحمه الله تعالى - (الصوف) أي: لبسه (علم من أعلام الزهد فلا ينبغي) للزاهد أن (يلبس صوفا بثلاثة دراهم وفي قلبه رغبة خمسة دراهم) نقله القشيري أي: رغبة لبس صوف بخمسة دراهم، أشار بذلك إلى أن الزهد في القلب ليس بلبس الغليظ ولا بأكل الخشن وإن كان ذلك علامة له; لأن الزهد ضد الرغبة، وهو من أعمال القلوب، وفي القوت قال أحمد بن أبي الحواري: لبست عباءة فنظر إلي وقال هذا يكون آخر الزهد جعلتموه أوله أما يستحي أحدهم يلبس عباءة بدرهمين وفي قلبه شهوة بخمسة دراهم، وقال لو ستر زهده بثوبين أبيضين كان أحب إلي .

(وقال أحمد بن حنبل وسفيان) الثوري وعيسى بن يونس وغيرهم (علامة الزهد إنما هو قصر الأمل) قال القشيري: وهذا الذي قالوه يحمل على أنه من إشارات الزهد والأسباب الباعثة عليه والمعاني الموجبة له. انتهى. أي: عرفا، فإن العبد متى أقصر أمله واستشعر سرعة موته وفراقه للدنيا قلت رغبته فيها وفترت همته عن تحصيله، وقد جاء في الخبر: كفى بذكر الموت مزهدا وتقدم في أول الباب أن هذا حد للزهد والصحيح أنه من العلامات .

(وقال السري) السقطي - رحمه الله تعالى - (لا يطيب عيش الزاهد إذا اشتغل عن نفسه) أي: بغيرها من الشهوات; لأن شغله بنفسه إنما هو بأعراضها عن محبوباتها فإذا عدل عنها إلى غيرها فقد اشتغل عنها وعن أعراضها عن ذلك فلا يكون زاهدا ومتى زهد في شيء من الدنيا وبقي عليه شيء لم يزهد فيه لم يكمل زهده ولذلك لما سئل الجنيد عمن لم يبق عليه من الدنيا إلا التنعم بمص النواة قال: المكاتب عبد ما بقي عليه درهم أشار به إلى أن من بقي عليه ما ذكر لم تكمل حريته من رق الشهوات .

(ولا يطيب عيش العارف إذا اشتغل بنفسه) عن مولاه; لأن شغله إنما هو بمولاه عمن سواه نقله القشيري (وقال) القشيري سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول سمعت (النصرأباذي يقول) وهو أبو القاسم إبراهيم بن محمد شيخ خراسان في وقته صحب الشبلي وأبا علي الروذباري والمرتعش وكان إماما محدثا صوفيا مات بمكة سنة 367 (الزاهد غريب في الدنيا والعارف) بالله (غريب في الآخرة) أي: لأن كثرة العمال لها إنما يعملون خوفا من العقاب أو رجاء للثواب بخلاف العارف فإنه بمعرفة جلال الله وعظمته وبحسن وجوب عبوديته لحق أمره ونهيه لا يترك العمل أصلا وهذا غريب قليل في أبناء الآخرة .

(وقال يحيى بن معاذ) الرازي - رحمه الله تعالى - (علامة الزهد ثلاث) إحداها (عمل بلا علاقة) أي: خالصا لله تعالى لا لعلة من علل الدنيا ولا خوف العقاب [ ص: 376 ] ورجاء الثواب في الآخرة، فكمال زهده في الحظوظ العاجلة والآجلة أن يكون عمله لوجه ربه خاصة دون غيره .




الخدمات العلمية