الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ولذة مطالعة جمال الربوبية هي التي عبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال حاكيا عن ربه تعالى : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر وقد تعجل بعض هذه اللذات في الدنيا لمن انتهى صفاء قلبه إلى الغاية ، ولذلك قال بعضهم : إني أقول : يا رب ، يا ألله فأجد ذلك على قلبي أثقل من الجبال لأن النداء يكون من وراء حجاب ، وهل رأيت جليسا ينادي جليسه وقال : إذا بلغ رجل في هذا العلم الغاية رماه الخلق بالحجارة أي : يخرج كلامه عن حد عقولهم فيرون ما يقوله جنونا أو كفرا .

فمقصد العارفين كلهم وصله ولقاؤه فقط ، فهي قرة العين التي لا تعلم نفس ما أخفي لهم منها وإذا حصلت انمحقت الهموم والشهوات كلها ، وصار القلب مستغرقا بنعيمها ، فلو ألقي في النار لم يحس بها لاستغراقه ولو عرض عليه نعيم الجنة لم يلتفت إليه لكمال نعيمه وبلوغه الغاية التي ليس فوقها غاية وليت شعري من لم يفهم إلا حب المحسوسات كيف يؤمن بلذة النظر إلى وجه الله تعالى وما له صورة ولا شكل وأي معنى لوعد الله تعالى به عباده وذكره أنه أعظم النعم ، بل من عرف الله عرف أن اللذات المفرقة بالشهوات المختلفة كلها تنطوي تحت هذه اللذة كما قال بعضهم .


كانت لقلبي أهواء مفرقة فاستجمعت مذ رأتك العين أهوائي     فصار يحسدني من كنت أحسده
وصرت مولى الورى مذ صرت مولائي     تركت للناس دنياهم ودينهم
شغلا بذكرك يا ديني ودنيائي

ولذلك قال بعضهم .


وهجره أعظم من ناره     ووصله أطيب من جنته

وما أرادوا بهذا إلا إيثار لذة القلب في معرفة الله تعالى على لذة الأكل والشرب والنكاح ، فإن الجنة معدن تمتع الحواس فأما القلب فلذته في لقاء الله فقط .

ومثال أطوار الخلق في لذتهم ما نذكره وهو أن الصبي في أول حركته وتمييزه يظهر فيه غريزة بها يستلذ اللعب واللهو حتى يكون ذلك عنده ألذ من سائر الأشياء ثم يظهر بعده لذة الزينة ولبس الثياب وركوب الدواب فيستحقر معها لذة اللعب ثم يظهر بعده لذة الوقاع وشهوة النساء فيترك بها جميع ما قبلها في الوصول إليها ثم تظهر لذة الرياسة والعلو والتكاثر وهي آخر لذات الدنيا وأعلاها وأقواها كما قال تعالى : اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر الآية .

ثم بعد هذا تظهر غريزة أخرى يدرك بها لذة معرفة الله تعالى ومعرفة أفعاله فيستحقر معها جميع ما قبلها فكل متأخر فهو أقوى ، وهذا هو الأخير ؛ إذ يظهر حب اللعب في سن التمييز وحب النساء والزينة في سن البلوغ وحب الرياسة بعد العشرين ، وحب العلوم بقرب الأربعين وهي الغاية العليا وكما أن الصبي يضحك على من يترك اللعب ويشتغل بملاعبة النساء وطلب الرياسة ، فكذلك الرؤساء يضحكون على من يترك الرياسة ويشتغل بمعرفة الله تعالى ، والعارفون يقولون : إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون .

التالي السابق


(ولذة مطالعة جمال الربوبية هي التي عبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال حاكيا عن ربه تعالى: أعددت لعبادي الصالحين) أي: لحضرتي من الجزاء (ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) . رواه أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه من حديث [ ص: 578 ] أبي هريرة رواه ابن جرير من حديث أبي سعيد، وعن قتادة مرسلا، وروى ابن جرير أيضا عن الحسن بلاغا بلفظ: قال ربكم: أعددت لعبادي الذين آمنوا وعملوا الصالحات ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، (وقد تتعجل بعض هذه اللذات في الدنيا لمن انتهى صفاء قلبه إلى الغاية، ولذلك قال بعضهم: إني) لأجد الحضور (فأقول: يا رب، أو يا ألله فأجد ذلك أثقل على قلبي من الجبال) قيل له: ولم؟ قال: (لأن النداء يكون من وراء الحجاب، وهل رأيت جليسا ينادي جليسه) إنما هي إشارات وملاحظات ومناغات وملاطفات، فصاحب هذا المقام ممن عجلت له هذه اللذة، وقد صدق فيما قال، فإن النداء لا يكون إلا للغائب، ومن كان الذي يناديه جليسه وأنيسه فيستغني عن نداه كيف وهو مستغرق الهم به ويستأنس له ما جاء في الخبر قال الله تعالى: يا موسى أنا جليس من ذكرني، ويشبه أن يكون هذا مقام رابعة قدس الله سرها; إذ قالت: وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي . وقال صاحب القوت عقيب الكلام السابق: إلا أنه مستبعد أن يقول: ومأخوذ عليه أن يكون فقيها بما يقول، ولا يخرج من موضع القرب وإن وقع عليه الحكم بالقول والفعل، ولكل مقام مع الله تعالى فقد خفي، ولكل عالم بالله اللطيف علم لطيف غريب .

(وقال بعضهم: إذا بلغ الرجل في هذا العلم الغاية رماه الخلق بالحجارة) ، كما في القوت، ولفظه: ولقد قال: لو رجل من أهل المعرفة إذا بلغ أحدهم من هذا العلم الغاية رماه الخلق بالحجارة (أي: يخرج كلامه عن حد عقولهم فيرون ما يقوله جنونا أو كفرا) زاد صاحب القوت فقال: وقال آخر: إذا تناهت معارفهم انتهت إلى حيرة ودهشة. انتهى .

ومن ذلك قول ابن عباس: لو فسرت لكم آية كذا وسماها لرميتموني بالحجارة، أي: لقلتم بكفري، فإنه لا يرجم بالحجاره إلا من ارتد عن دينه . (فمقصد العارفين كلهم وصله ولقاؤه فقط، فهي قرة العين التي لا تعلم نفس ما أخفي لهم منها) من أنواع الأنصبة، (وإذا حصلت انمحقت الهموم والشهوات كلها، وصار القلب مستغرقا بنعيمها، فلو ألقي في النار لم يحس بها) ولم يدرك لها ألما (لاستغراقه) بكليته (ولو عرض عليه نعيم الدنيا لم يلتفت إليه) أصلا (لكمال نعيمه وبلوغه الغاية التي ليس فوقها غاية) ولا بعدها مرمى (وليت شعري من لا يفهم إلا حب المحسوسات كيف يؤمن بلذة النظر إلى وجه الله تعالى وما له صورة ولا شكل) تعالى الله عن ذلك، (وأي معنى لوعد الله تعالى به عباده وذكره أنه أعظم النعم، بل من عرف الله عرف أن اللذات المفرقة بالشهوات المختلفة كلها تنطوي تحت هذه اللذة) ، وهذا هو معنى الحب الأول الذي أشارت إليه رابعة قدس الله سرها، (كما قال بعضهم) أي: من المحبين مشيرا إلى هذا المقام:


(كانت لقلبي أهواء مفرقة فاستجمعت مذ رأتك العين أهوائي)



أي: كانت لي قبل ذلك أهواء متفرقة فلما رأيتك اجتمعت كلها فصرت أنت كلية القلب وجملة المحبة، وأنسيتني ما سواك، وإليه يشير قول القائل:


وأنت جمعت من قلبي هوى قد كان مشتركا


(فصار يحسدني من كنت أحسده وصرت مولى الورى إذ صرت مولائي
تركت للناس دنياهم ودينهم شغلا بذكرك يا ديني ودنيائي)



(ولذلك قال بعضهم) أي: من المحبين مشيرا إلى هذا المقام:


(وهجره أعظم من ناره ووصله أطيب من جنته



وما أرادوا بهذا إلا إيثار لذة القلب في معرفة الله تعالى على لذة الأكل والشرب والنكاح، فإن الجنة معدن تمتع الحواس فأما القلب فلذته في لقاء الله فقط) وبه تمتعه، (ومثال أطوار الخلق في لذاتهم) هو (ما نذكره) هنا، (وهو أن الصبي في أول حركته وتمييزه تظهر فيه غريزة بها يستلذ اللعب واللهو حتى يكون ذلك عنده ألذ من سائر [ ص: 579 ] الأشياء) ، فإذا خلي وطبعه مال إلى ما جبل عليه، (ثم تظهر) فيه (بعده) غريزة أخرى بها يدرك (لذة الزينة ولبس الثياب وركوب الدواب) فيشتغل بها (فيستحقر معها لذة اللعب الذي كان يميل إليه ويحبه ثم تظهر) فيه (بوادي) غريزة أخرى يدرك بها (لذة الوقاع وشهوة النساء فيترك بها جميع ما قبلها) من اللعب والزينة (في الوصول إليها ثم تظهر) فيه بعده غريزة أخرى يدرك بها لذة (الرياسة والعلو والتكاثر) بالأموال والأولاد (وهي آخر لذة الدنيا وأعلاها وأقواها) ولذا كانت آخر ما يخرج من دماغ الإنسان من لذات الدنيا هي كما قال بعضهم: أما العلو ففي النفس منه شيء (كما قال تعالى: اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم الآية) فقد أشار فيه إلى تلك المقامات الثلاث (ثم بعد هذا تظهر غريزة أخرى يدرك بها لذة معرفة الله تعالى ومعرفة أفعاله) ومعاملاته (فيستحقر معها جميع ما مر قبلها) من اللذات، (فكل متأخر فهو أقوى، وهذا هو الأخير; إذ يظهر حب اللعب في سن التمييز وحب النساء والزينة في سن البلوغ وحب الرياسة بعد العشرين، وحب العلوم بقرب الأربعين وهي الغاية العليا) وما بعد العلوم والمعارف شيء، (وكما أن الصبي يضحك على من يترك اللعب ويشتغل بملاعبة النساء وطلب الرياسة، فكذلك الرؤساء يضحكون على من يترك الرياسة ويشتغل بمعرفة الله تعالى، والعارفون يقولون: إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون ) إذا كشف الغطاء وارتفع الحجاب وتحققت الحقائق وتتجلى الأسرار، ويصادف كل واحد ما قدم من خير، أو شر محضرا، ويشاهد كتابا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ووجدوا ما عملوا حاضرا، وعنده يقال له: فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد .




الخدمات العلمية