الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وإذا انكشف لك معنى التوكل وعلمت الحالة التي سميت توكلا فاعلم أن تلك الحالة لها في القوة والضعف ثلاث درجات :

: الدرجة الأولى ما ذكرناه ، وهو أن يكون حاله في حق الله تعالى والثقة بكفالته وعنايته كحاله في الثقة بالوكيل ، الثانية : وهي أقوى أن يكون حاله مع الله تعالى كحال الطفل مع أمه ، فإنه لا يعرف غيرها ، ولا يفزع إلى أحد سواها ، ولا يعتمد إلا إياها ، فإذا رآها تعلق في كل حال بذيلها ولم يخلها وإن نابه أمر في غيبتها كان أول سابق إلى لسانه يا أماه وأول خاطر يخطر في قلبه أمه فإنها مفزعه ، فإنه قد وثق بكفالتها وكفايتها وشفقتها ثقة ليست خالية عن نوع إدراك بالتمييز الذي له ، ويظن أنه طبع من حيث إن الصبي لو طولب بتفصيل هذه الخصال لم يقدر على تلقين لفظه ، ولا على إحضاره مفصلا في ذهنه ، ولكن كل ذلك وراء الإدراك فمن كان باله إلى الله عز وجل ، ونظره إليه ، واعتماده عليه كلف به ، كما يكلف الصبي بأمه ، فيكون متوكلا حقا ، فإن الطفل متوكل على أمه والفرق بين هذا وبين الأول أن هذا متوكل ، وقد فني في توكله عن توكله ؛ إذ ليس يلتفت قلبه إلى التوكل وحقيقته ، بل إلى المتوكل عليه فقط فلا ، مجال في قلبه لغير المتوكل عليه ، وأما الأول فيتوكل بالتكلف والكسب ، وليس فانيا عن توكله لأن له التفاتا ، إلى توكله وشعورا به ، وذلك شغل صارف عن ملاحظة المتوكل عليه وحده ، وإلى هذه الدرجة أشار سهل حيث سئل عن التوكل ما أدناه ؟ قال : ترك الأماني قيل وأوسطه قال : ترك الاختيار وهو إشارة إلى الدرجة الثانية ، وسئل عن أعلاه فلم يذكره ، وقال : لا يعرفه إلا من بلغ أوسطه .

التالي السابق


(وإذا انكشف لك معنى التوكل) الذي هو اعتماد القلب وسكونه، أو عدم اضطرابه لتعلقه بمسبب الأسباب ورب الأرباب، (وعلمت الحالة التي سميت توكلا فاعلم أن تلك الحالة لها في القوة والضعف ثلاث درجات: الدرجة الأولى ما ذكرناه، وهو أن يكون حاله في حق الله تعالى والثقة بكفالته وعنايته كحاله في الثقة بالوكيل) ، أي: يكون في قوة اعتماده على الله يجري مجرى اعتماد أحدنا على أشفق الناس وأنصحهم، كالوالدين مثلا، وذلك حال هذا التعلق بهما في كل حالة، وإن فعلا معه فعلا مخالفا لغرضه فلا يعتقد غشهما، بل يعتقد أنهما يريدان له الخير، فتراه يفتخر بكفايتهما وكفالتهما فضلا عن الجزع والشكوى، الدرجة (الثانية: وهي أقوى) من الأولى (أن يكون حاله مع الله كحال الطفل في حق أمه، فإنه لا يعرف غيرها، ولا يفزع إلى أحد سواها، ولا يعتمد إلا إياها، فإذا رآها تعلق في كل حال بذيلها) وتشبث به (ولم يخلها) تذهب ولا تجيء (وإن نابه أمر في غيبتها كان أول سابق على لسانه يا أماه) يستغيث بها؛ لما يعلم من شفقتها (وأول خاطر يخطر على قلبه أمه فإنها مفزعه، فإنه قد وثق بكفالتها وكفايتها وشفقتها ثقة ليس خاليا عن نوع إدراك بالتمييز الذي له، ويظن أنه طبع) فيه (من حيث إن الصبي لو طولب بتفصيل هذه الخصال لم يقدر على تلقين لفظه، ولا على إحضاره مفصلا في ذهنه، ولكن كل ذلك وراء الإدراك فمن كان باله إلى الله عز وجل، ونظره إليه، واعتماده عليه كلف به، كما يكلف الصبي بأمه، فيكون متوكلا حقا، فإن الطفل متوكل على أمه) .

وإلى هذه الدرجة أشار من قال: المتوكل كالطفل لا يعرف شيئا يأوي إليه، ألا ترى أنه كذلك المتوكل لا يهتدي إلا إلى ربه -عز وجل- نقله القشيري، وجعل الكمال

محمد بن إسحاق هذه الدرجة أن يكون في قوة اعتماده كرجل له كنز لا ينفد، فلا يعرف طريق غيره، فلا يسأل عن غنى هذا وقوة اعتماده قال: [ ص: 464 ] وهذه أقوى من الأولى (والفرق بين هذا وبين الأول أن هذا متوكل، وقد فني في توكله؛ إذ ليس يلتفت قلبه إلى التوكل وحقيقته، بل إلى المتوكل عليه فقط، ولا مجال في قلبه لغير المتوكل عليه، وأما الأول فمتوكل بالتكلف والكسب، وليس فانيا عن توكله، أي التفات إلى توكله وشعور به، وذلك شغل صارف عن ملاحظة المتوكل عليه وحده، وإلى هذه الدرجة أشار) أبو محمد (سهل) -رحمه الله تعالى- (حيث سئل عن التوكل ما أدناه؟ قال: ترك الأماني) على الله، فلا يتمنى على الله شيئا نظرا إلى ثقته (قال) وما (أوسطه؟ قال: ترك الاختيار) لله تعالى، (وهو إشارة إلى الدرجة الثانية، وسئل عن أعلاه فلم يذكره، وقال: لا يعرفه إلا من بلغ أوسطه) ، ولفظ القوت: قيل: وما أعلاه؟ قال: لا يعرف إلا أن من توسط التوكل، وترك الاختيار أعطي، فذكر كلاما، انتهى، ولعل عدم ذكره نظرا إلى حال السائل فإنه لم يكن ممن يخبر بذلك، وإلا فقد قال سهل بنفسه: أول مقام في التوكل كذا وكذا .




الخدمات العلمية