الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم اعلم أن العبد لا يكون شاكرا في الحالة الأولى بمجرد الركوب والوصول إلى حضرته ما لم يقم بخدمته التي أرادها الملك منه ، وأما في الحالة الثانية فلا يحتاج إلى الخدمة أصلا ، ومع ذلك يتصور أن يكون شاكرا وكافرا ، ويكون شكره بأن يستعمل ما أنفذه إليه مولاه فيما أحبه لأجله لا لأجل نفسه ، وكفره أن لا يستعمل ذلك فيه بأن يعطله أو يستعمله فيما يزيد في بعده منه ، فمهما لبس العبد الثوب وركب الفرس ولم ينفق الزاد إلا في الطريق فقد شكره مولاه إذ استعمل نعمته في محبته أي : فيما أحبه لعبده لا لنفسه ، وإن ركبه واستدبر حضرته وأخذ يبعد منه فقد كفر نعمته أي : استعملها فيما كرهه مولاه لعبده لا لنفسه ، وإن جلس ولم يركب لا في طلب القرب ولا في طلب البعد فقد كفر أيضا نعمته إذا أهملها وعطلها ، وإن كان هذا دون ما لو بعد منه ، فكذلك خلق الله سبحانه الخلق وهم في ابتداء فطرتهم يحتاجون إلى استعمال الشهوات لتكمل بها أبدانهم ، فيبعدون بها عن حضرته ، وإنما سعادتهم في القرب منه فأعد لهم من النعم ما يقدرون على استعماله في نيل درجة القرب ، وعن بعدهم وقربهم عبر الله تعالى إذ قال : لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا الآية فإذا . نعم الله تعالى آلات يترقى العبد بها عن أسفل السافلين خلقها الله تعالى لأجل العبد حتى ينال بها سعادة القرب ، والله تعالى غني عنه قرب أم بعد ، والعبد فيها بين أن يستعملها في الطاعة فيكون قد شكر لموافقة محبة مولاه ، وبين أن يستعملها في معصيته فقد كفر لاقتحامه ما يكرهه مولاه ولا يرضاه له ، فإن الله لا يرضى لعباده الكفر والمعصية وإن عطلها ولم يستعملها في طاعة ولا معصية فهو أيضا كفران للنعمة بالتضييع ، وكل ما خلق في الدنيا إنما خلق آلة للعبد ليتوصل به إلى سعادة الآخرة ، ونيل القرب من الله تعالى ، فكل مطيع فهو بقدر طاعته شاكر نعمة الله في الأسباب التي استعملها في الطاعة ، وكل كسلان ترك الاستعمال أو عاص استعملها في طريق البعد فهو كافر جار في غير محبة الله تعالى ، فالمعصية والطاعة تشملهما المشيئة ولكن لا تشملهما المحبة والكراهة بل رب مراد محبوب ورب مراد مكروه ووراء بيان هذه الدقيقة سر القدر الذي منع من إفشائه وقد انحل بهذا الإشكال الأول ، وهو أنه إذا لم يكن للمشكور حظ فكيف يكون الشكر وبهذا أيضا ينحل الثاني فإنا لم نعن بالشكر إلا انصراف نعمة الله في جهة محبة الله فإذا انصرفت النعمة في جهة المحبة بفعل الله فقد حصل المراد ، وفعلك عطاء من الله تعالى ، ومن حيث أنت محله ، فقد أثنى عليك ، وثناؤه نعمة أخرى منه إليك ، فهو الذي أعطى وهو الذي ، أثنى وصار أحد فعليه سببا لانصراف فعله الثاني إلى جهة محبته فله الشكر على كل حال ، وأنت موصوف بأنك شاكر بمعنى أنك محل المعنى الذي الشكر عبارة عنه لا بمعنى أنك موجب له ، كما أنك موصوف بأنك عارف وعالم لا بمعنى أنك خالق للعلم وموجده ، ولكن بمعنى أنك محل له وقد وجد بالقدرة الأزلية فيك فوصفك بأنك شاكر إثبات شيئية لك وأنت شيء إذ جعلك خالق الأشياء شيئا وإنما أنت لا شيء إذا كنت أنت ظانا لنفسك شيئا من ذاتك . فأما باعتبار النظر إلى الذي جعل الأشياء شيئا : فأنت شيء إذ جعلك شيئا فإن قطع النظر عن جعله كنت لا شيء تحقيقيا ، وإلى هذا أشار صلى الله عليه وسلم حيث قال : اعملوا فكل ميسر لما خلق له لما قيل له يا رسول الله ففيم العمل إذا كانت الأشياء قد فرغ منها من قبل .

فتبين أن الخلق مجاري قدرة الله تعالى ، ومحل أفعاله ، وإن كانوا هم أيضا من أفعاله ، ولكن بعض أفعاله محل للبعض .

وقوله : اعملوا وإن كان جاريا على لسان الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فهو فعل من أفعاله ، وهو سبب لعلم الخلق أن العمل نافع ، وعلمهم فعل من أفعال الله تعالى ، والعلم سبب لانبعاث داعية جازمة إلى الحركة والطاعة ، وانبعاث الداعية أيضا من أفعال الله تعالى ، وهو سبب لحركة الأعضاء ، وهي أيضا من أفعال الله تعالى ، ولكن بعض أفعاله سبب للبعض أي : الأول شرط للثاني ، كما كان خلق الجسم سببا لخلق العرض إذ لا يخلق العرض قبله .

التالي السابق


(ثم اعلم أن العبد لا يكون شاكرا في الحالة الأولى بمجرد الركوب والوصول إلى حضرته ما لم يقم بخدمته التي أرادها الملك منه، وأما الحالة الثانية فلا يحتاج إلى الخدمة أصلا، ومع ذلك يتصور أن يكون شاكرا أو كافرا، ويكون شكره بأن يستعمل ما أنفذه إليه مولاه فيما أحبه لأجله لا لأجل نفسه، وكفره أن لا يستعمل ذلك فيه بأن يعطله) أي: يهمله (أو يستعمله فيما يزيد في بعده منه، فمهما لبس العبد الثوب وركب الفرس ولم ينفق الزاد إلا في الطريق) الذي يوصله إليه (فقد شكر مولاه إذا استعمل نعمته في محبته أي: فيما أحبه لعبده لا لنفسه، وإن ركبه واستدبر حضرته وأخذ يبعد منه فقد كفر نعمته أي: استعملها فيما كرهه مولاه لعبده لا لنفسه، وإن جلس ولم يركب لا في طلب القرب ولا في طلب البعد فقد كفر أيضا نعمته) في هذه الصورة، (إذ أهملها وعطلها، وإن كان هذا دون ما لو بعد منه، فكذلك خلق الله سبحانه الخلق وهم في ابتداء فطرتهم يحتاجون إلى الشهوات) أي: استعمالها (لتكمل بها أبدانهم، فيبعدون بها من حضرته، وإنما سعادتهم في القرب منها فأعدلهم من النعم ما يقدرون على استعماله في نيل درجة القرب، وعن بعدهم وقربهم عبر تعالى إذ قال: لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا الآية .

فإذا نعم الله) تعالى (آلات يترقى العبد بها عن أسفل السافلين خلقها الله تعالى لأجل العبد حتى ينال بها سعادة [ ص: 61 ] القرب، والله تعالى غني عنه قرب أم بعد، والعبد فيها بين أن يستعملها في الطاعة فيكون قد شكره لموافقته محبة مولاه، وبين أن يستعملها في معصيته فقد كفره لاقتحامه ما يكرهه مولاه ولا يرضاه له، فإن الله تعالى لا يرضى لعباده الكفر والمعصية) كما هو بنص القرآن، (وإن عطلها) وأهملها (ولم يستعملها في طاعته ولا معصيته فهو أيضا كفران للنعمة بالتضييع، وكل ما خلق في الدنيا إنما خلق آلة للعبد ليتوصل به إلى سعادة الآخرة، ونيل القرب من الله تعالى، فكل مطيع فهو بقدر طاعته شاكر نعمة الله في الأسباب التي استعملها في الطاعة، وكل كسلان ترك الاستعمال أو عاص استعملها في طريق البعد) عن حضرة الله تعالى، (فهو كافر جار في غير محبة الله تعالى، فالمعصية والطاعة تشملهما المشيئة) الأزلية، (ولكن لا تشملهما المحبة والكراهة بل رب مراد محبوب ورب مراد مكروه) . وقد تقدم شيء من ذلك في كتاب قواعد العقائد. (ووراء بيان هذه الدقيقة سر القدر الذي منع من إفشائه) وإظهاره، وروى الطبراني من حديث ابن مسعود: "إذا ذكر القدر فأمسكوا"، وسيأتي قريبا .

(وقد انحل بهذا) الذي أوردناه (الإشكال الأول، وهو أنه إذا لم يكن للمشكور) حظ فكيف يكون الشكر، وبهذا أيضا ينحل الإشكال (الثاني فإنا لم نعن بالشكر إلا انصراف نعمة الله في جهة محبة الله) تعالى (فإذا انصرفت النعمة في جهة المحبة بفعل الله) تعالى (فقد حصل المراد، وفعلك عطاء من الله تعالى، ومن حيث أنت محله، فقد أثنى عليك، وثناؤه نعمة أخرى منه إليك، فهو الذي أعطى، وهو الذي أثنى) كما بينه قول حبيب بن أبي حبيب السابق ذكره. (وصار أحد فعليه سببا لانصراف فعله الثاني إلى جهة محبته فله الشكر على كل حال، وأنت موصوف بأنك شاكر بمعنى أنك محل المعنى الذي الشكر عبارة عنه لا بمعنى أنك موجد له، كما أنك موصوف بأنك عارف وعالم لا بمعنى أنك خالق العلم وموجده، ولكن بمعنى أنك محل له) ومظهر لتجليه (وقد وجد بالقدرة الأزلية فيك فوصفك بأنك شاكر إثبات شيئية لك وأنت شيء) لثبوتك في الأعيان (إذ جعلك خالق الأشياء شيئا وإنما أنت لا شيء) في الحقيقة (إذ كنت أنت أنت) في الأزل (ظانا لنفسك شيئية من ذلك. فأما باعتبار النظر إلى الذي جعل الأشياء أشياء) أي: موجودة في الأعيان (فأنت شيء إذ جعلك شيئا فإن قطع النظر عن جعله شيئا كنت لا شيء تحقيقا، وإلى هذا أشار صلى الله عليه وسلم حيث قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له) أي اعملوا بظاهر ما أمرتم فكل من خلق مهيئ ومصروف لأمر خلق ذلك الأمر له فلا يقدر البتة على عمل غيره، وهذا القول قاله (لما قيل له ففيم العمل إذا كانت الأشياء قد فرغ منها من قبل) . رواه الطبراني من حديث ابن عباس ، وعمران بن حصين بلفظ قال رجل: يا رسول الله أنعمل فيما جرت به المقادير وجف به القلم أو شيء نستأنفه؟ فقال: بل بما جرت به المقادير، وجف به القلم، قال: ففيم العمل؟ قال: اعملوا... إلخ .... ورجاله ثقات. وروى الشيخان من حديث علي قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتانا النبي صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة، فنكس وجعل ينكت بمخصرته ثم قال: ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار، ومقعده من الجنة، فقالوا: يا رسول الله أفلا نتكل على ما كتب؟ فقال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له.

(فبين) صلى الله عليه وسلم (أن الخلق مجاري قدر الله، ومحل أفعاله، وإن كانوا هم أيضا من أفعاله، ولكن بعض أفعاله محل للبعض، وقوله: اعملوا) [ ص: 62 ] من الأسلوب الحكيم، منعهم عن الاتكال وترك العمل، وأمرهم بإمساك ما يجب على العبد من امتثال أمر ربه وعبوديته عاجلا، وتفويض الأمر إليه آجلا، يعني أنتم عبيد ولابد لكم من العبودية فعليكم بما أمرتم به وإياكم والتصرف في الأمور الإلهية لآية: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون فلا تجعلوا العبادة وتركها سببا مستقلا لدخول الجنة والنار، بل هو أمارات وعلامات ولابد في الإيجاب من لطف الله وخذلانه، وهذا القول (وإن كان جاريا على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو فعل من أفعاله، وهو سبب لعلم الخلق بأن العلم نافع، وعلمهم فعل من أفعال الله تعالى، والعلم سبب لانبعاث داعية جازمة إلى الحركة والطاعة، وانبعاث الداعية أيضا من أفعال الله تعالى، وهو سبب لحركة الأعضاء، وهي أيضا من أفعال الله تعالى، ولكن بعض أفعاله سبب للبعض أي: الأول شرط للثاني، كما كان خلق جوهر الجسم سببا لخلق العرض) لأجل أن يقوم به (إذ لا يخلق العرض قبله) لعدم استقلاله بالقيام .




الخدمات العلمية